يتفق الإعلاميون والحقوقيون، الذين رحبوا بثورة الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي قبل 10 سنوات ومعارضوهم، بكون توسيع هامش الحريات في البلاد وتحرير الإعلام من هيمنة الدولة والحزب الحاكم «أهم مكسب سياسي» تحقق خلال العشرية الماضية في تونس. إلا أن ثمة شكوكاً الآن إزاء تطور المشهد الإعلامي، مع وضع البعض إياه في قفص الاتهام وسط انتقادات حادة بسبب التحديات الخطيرة التي تواجهه وتؤرّق الإعلاميين والقائمين على مؤسسات الدولة والمجتمع في كل المجالات وبينها معضلة التمويل.
«الشرق الأوسط» ناقشت الوضع الإعلامي الراهن، وتحدياته مع نحبة من المتخصصين، وخرجت بالحصيلة التالية:
أورد محمود الذوادي، رئيس «مركز تونس لحرية الصحافة» أن الدراسات التي أجرتها مؤسسته عن تطور قطاع الإعلام التونسي خلال العقدين الماضيين تكشف أن «أهم متغير في المشهد الإعلامي في تونس منذ 14 يناير (كانون الثاني) 2011 هو انهيار المنظومة السلطوية الزجرية القديمة ومركز التحكم فيها في قصري الرئاسة والحكومة وفي وزارة الداخلية وقيادة الحزب الحاكم السابق». كذلك اعتبر الصادق الحمامي، أستاذ الاتصال في الجامعة التونسية، أن من أهمّ المكاسب التي تحققت «التحرّر من المنظومة القديمة ومن النصوص القانونية الزجرية» المنظمة لقطاع الإعلام، ومن الهياكل الصورية التي كانت تشرف عليه مثل «المجلس الأعلى للاتصال» الذي كان عملياً تحت إشراف السلطة التنفيذية. إلا أن العميد محمد حمدان، مدير كلية الصحافة والأخبار، رأى أنه بصرف النظر عن هذا المكسب فإن «غالبية وسائل الإعلام التونسية التقليدية والإلكترونية أصبحت تواجه صعوبات مادية كبرى، قد تجعلها ضحية للابتزاز من قبل لوبيات لديها أجندات مالية وسياسية وشخصية».
الإعلام الاجتماعي...
والتمويل والإشراف
وفي سياق متصل، حذّر هاني مبارك، أستاذ الإعلام والاتصال في الجامعة التونسية، من ظاهرة «تضخّم دور المواقع الاجتماعية في تونس على حساب وسائل الإعلام التقليدية». وفسّر ذلك بتراجع ثقة غالبية المواطنين في الصحافة والصحافيين. كذلك ربطه بانخراط أكثر من 80 في المائة من التونسيين - بمن فيهم الأطفال والمسنون - في الشبكات الاجتماعية وخاصة في «فيسبوك». هذا، وكشفت إحصائيات وزارة تكنولوجيات الاتصال التونسية أن عدد الهواتف المحمولة في تونس تجاوز عام 2020 بكثير عدد السكان، وهو ما زاد من تأثير «الإعلام البديل» و«الإعلام الإلكتروني». غير أن الناصر المكني، الباحث في علوم الاتصال، يلفت بقلق إلى أن بعض فضاءات «إعلام المدوّنات والشبكات الاجتماعية» أضحت تؤدي دوراً سلبياً «وتطورت إلى فضاء للسب والقدح والتشهير بالخصوم، والنقاش المتوتر والانغلاق داخل مجموعات تتورط بدورها في بث الإشاعات والترويج لمعلومات كاذبة مزيفة لأسباب شخصية أو سياسية أو آيديولوجية».
من جانبه، مع أن الأكاديمي النوري اللجمي مقتنع بأن «من أهم ما تحقق من إصلاحات في قطاع الإعلام تأسيس هياكل تعديل بهدف تنظيم القطاع بعد حذف وزارة الإعلام، على رأسها «الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري» - التي أسندت إليه رئاستها منذ أكثر من 6 سنوات - بناءً على توافق بين البرلمان ورئاسة الجمهورية والنقابات، فإن «الهيئة التعديلية» أصبحت بدورها محل جدل ومزايدات بين السلطات والنقابات والأطراف السياسية الشعبوية. بل، ازداد وضع مؤسسات الإعلام تعقيداً، حسب الإعلامي والجامعي لطفي الحيدوري بسبب تعذر التوافق بين السياسيين والنقابيين حول تمويل المؤسسات الإعلامية العمومية: فهل تعتمد على الإعلانات مثل المؤسسات الخاصة... أم يجب أن توفر لها الدولة «موازنة محترمة» على غرار ما هو معمول به في بعض البلدان الديمقراطية الغربية ومؤسساتها العريقة مثل «بي بي سي» (بريطانيا) و«فرانس 24» (فرنسا) و«دويتشه فيله» (ألمانيا)؟
توزيع الإعلانات
من جهة أخرى، تطالب نقابة مديري الصحف والمؤسسات الإعلامية التونسية بتأسيس هيئة لقياس جمهور الإذاعة والتلفزيون والصحف وإحداث مؤسسة وطنية لتوزيع الإعلانات العمومية. ويعتبر محمد العروسي بن صالح، المدير التنفيذي لجامعة مديري المؤسسات الإعلامية، أن «معضلة التمويل تبقى أبرز أسباب ضعف الإعلام والمؤسسات الإعلامية في تونس»، لافتاً إلى ما وصفه بـ«أزمة غياب مؤسسات مستقلة لقياس المشاهدة والمتابعة وتوزيع الإعلانات» تعوّض وزارة الإعلام. بيد أن تحسن هامش الحريات لا يجوز أن يقلل من خطورة مشاكل «تراكمت خلال السنوات القليلة الماضية» حسب الهادي الطرشوني الأمين العام المساعد للنقابة العامة للإعلام. إذ يشير الطرشوني إلى «الصعوبات الخطيرة التي يشهدها القطاع»، ومنها بالخصوص «الصعوبات المالية التي تسببت في إغلاق عشرات الصحف والإذاعة والقنوات التلفزيونية التي أسست بعد ثورة يناير 2011. ويقول إن مؤسسات الصحافة المكتوبة بالذات تضرّرت أكثر من غيرها من معضلة شحّ الموارد، وتدهورت أوضاعها جميعاً منذ مطلع عام 2020 مع بدء إجراءات الإغلاق والحجر الصحي بسبب جائحة «كوفيد - 19». وبالفعل، تراجع عدد الصحف من 255 صحيفة عام 2011 إلى أقل من 50 عام 2020. وفي هذا السياق، يقول نقيب الصحافيين ياسين الجلاصي إن معظم الإعلاميين يعانون من أوضاع اجتماعية صعبة، ومن ضعف الأجور وارتفاع نسب الفصل «لأسباب اقتصادية».
في الاتجاه نفسه، يوضح وجيه الوافي، نائب نقيب الصحافيين التونسيين، أن من بين معضلات قطاع الإعلام اليوم تراكم المشكلات المالية في مؤسسات الإعلام الحكومية والمؤسسات التي كانت ملكاً لأفراد من عائلة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وتقررت مصادرتها في مطلع 2011. وبينها صحف «دار الصباح» وإذاعتا «شمس إف إم» و«الزيتونة» وتلفزيون «الحوار التونسي». كذلك، تعاني مؤسسات أخرى أسّسها مقرّبون من بن علي وعائلته من عجز مالي يوشك أن يؤدي إلى إغلاقها، من بينها قنوات «حنبعل» و«نسمة» و«جوهرة» و«إكسبريس إف إم». وحقاً، تسببت الإضرابات في المؤسسات الإعلامية التي تمر بصعوبات مالية في إحالة مئات الصحافيين والعاملين في القطاع على البطالة، وفي انخفاض عدد الصحافيين التونسيين من أكثر من ألفين عام 2011 إلى نحو 800 فقط حالياً.
أيضاً، أدت الصعوبات المالية التي تواجهها المؤسسات الإعلامية التونسية إلى انتشار «النزعة التجارية الربحيّة» وتشجيع «صحافة الإثارة» والاستفزاز و«الخلط بين المهنية والتوظيف» حسب الأكاديمي والإعلامي المنجي المبروكي. وضمن هذا الإطار، دخلت غالبية القنوات التلفزيونية والإذاعية في تنافس على «التمويل الذاتي» عبر المسابقات التي يشارك فيها الملايين عبر المراسلات القصيرة الهاتفية وعبر «المشاهد الفضائحيّة والمثيرة، بما فيها من تعدّ على أخلاقيّات المهنة ومسّ من الذوق العام ونواميس الفضاء العمومي وضوابطه». ويلاحظ أن عدداً من فضائيات «الفضائح والإثارة» نجحت في تأمين نسبة عالية من المتابعة الشعبية والإعلانات... ثم تطورت إلى فضاءات يتنافس كبار السياسيين ورجال الأعمال على الظهور فيها مقابل تقديم دعم مالي لها. وحول هذا الأمر، يقول حسن زرقوني، مدير مؤسسة استطلاعات الرأي «سيغما كونساي» أنّ «أكثر وسائل الإعلام إثارة وفضائحيّة، أضحت في الطليعة من حيث نسب الاستماع والمشاهدة. وقد مكنها ذلك من مضاعفة تأثيرها في توجيه الأحداث والناخبين منذ يناير 2011». ولذا تزايدت الانتقادات للإعلام من قبل عدد من السياسيين، بمن فيهم رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان وزعامات الأحزاب والنقابات، مع تحميل الإعلاميين مسؤولية «إجهاض الثورة» و«إرجاع رموز النظام القديم إلى الصدارة» و«تخييب آمال المؤمنين بالاستثناء الديمقراطي التونسي».
محطات في تاريخ الصحافة التونسية
> أسست أول صحيفة تونسية ناطقة بالعربية في يوليو (تموز) 1860 وسُمّيت «الرائد التونسي».
> أسّس يهود تونس أول صحيفة ناطقة بالعبرية عام 1878 تحت اسم «العمالة (أي الولاية) التونسية». وتعدّدت الصحف الناطقة بالل غة العبرية بين 1904 و1942. وتوقفت الصحف العبرية عن الصدور منذ احتلال قوات ألمانيا لتونس وشمال أفريقيا خلال الحرب العالمية الثانية.
> بدأ معظم زعماء الكفاح الوطني في تونس والجزائر والمغرب وليبيا مسيرتهم بالكتابة في الصحف التونسية، وتأسيس صحف ناطقة باسم الحركة الوطنية في تونس وشمال أفريقيا والدول العربية. ولعل أبرزها صحيفة «التونسي» التي أصدرها في 1904 الزعيمان عبد العزيز الثعالبي وعلي باش حانبه، و«تونس الفتاة» ثم «الإرادة» و«العمل» و«الزهرة» و«الصباح».
> تفوّق الزعيم الحبيب بورقيبة على رفاقه منذ 1927 بإدمانه على الكتابة في الصحف الناطقة بالعربية والفرنسية.
> تونس كانت المقر الرئيسي لغالبية وسائل الإعلام الناطقة باسم «حركة التحرير الوطني» الجزائرية حتى إعلان الاستقلال في 1962. وقد تولى عدد عشرات من كبار الصحافيين الجزائريين تأسيس وكالة الأنباء التونسية والصحف والإذاعة التونسية بعد استقلال تونس عن فرنسا في 1956.
> مرّت الصحافة في عهدي بورقيبة (1956 - 1987) وبن علي (1987 - 2011) بمراحل انغلاق وأخرى سمح فيها بإصدار صحف معارضة وصحف مستقلة أو تابعة للقطاع الخاص.
> ألغيت وزارة الإعلام عام 1990 واستعيض عنها بإدارة عامة للإعلام. ثم أعيدت بعد 5 سنوات. كذلك أسست «وكالة للاتصال الخارجي» عام 1992 كانت بمثابة وزارة للإعلام الخارجي والهيئة العليا المشرفة على توزيع الإعلانات العمومية وعلى التنسيق بين مؤسسات الإعلام الداخلي وسفارات تونس في الخارج.
> ألغيت وزارة الإعلام و«وكالة الاتصال الخارجي» وكل المؤسسات الحكومية التي تتدخل في قطاع الاتصال خلال يناير 2011 مباشرة بعد سقوط بن علي.
> أسست عام 2011 هيئة مؤقتة مستقلة لتعديل الإعلام السمعي البصري، وعيّن على رأسها الصحافي (المعارض سابقاً) كمال العبيدي. وطوّرت الهيئة عام 2013 إلى هيئة عليا مستقلة للإعلام من بين مهامها «تنظيم» عملية تعيين كبار المسؤولين على المؤسسات الإعلامية العمومية.