صفعة مزدوجة لآباء المتطرفين

إبراهيم وزوجته خضرة اكتشفا على الحدود التركية أن ابنتيهما التوأمين سلمى وزهرة قد تزوجتا بالفعل من قياديين في «داعش»

التوأمان سلمى وزهرة من أصل صومالي التحقتا بـ«داعش»، و مسجد الفرقان في مانشستر قدم كثيرا من العون لعوائل المتطرفين الذين سافر أبنائهم إلى سوريا ({نيويورك تايمز})
التوأمان سلمى وزهرة من أصل صومالي التحقتا بـ«داعش»، و مسجد الفرقان في مانشستر قدم كثيرا من العون لعوائل المتطرفين الذين سافر أبنائهم إلى سوريا ({نيويورك تايمز})
TT

صفعة مزدوجة لآباء المتطرفين

التوأمان سلمى وزهرة من أصل صومالي التحقتا بـ«داعش»، و مسجد الفرقان في مانشستر قدم كثيرا من العون لعوائل المتطرفين الذين سافر أبنائهم إلى سوريا ({نيويورك تايمز})
التوأمان سلمى وزهرة من أصل صومالي التحقتا بـ«داعش»، و مسجد الفرقان في مانشستر قدم كثيرا من العون لعوائل المتطرفين الذين سافر أبنائهم إلى سوريا ({نيويورك تايمز})

يعلم الجميع داخل مركز الفرقان الإسلامي الأبوين اللذين حاولا إنقاذ ابنتيهما التوأمين بعد فرارهما للانضمام إلى «داعش».
ويعلم الجميع كيف أن إبراهيم حلاني وزوجته خضرة جمعة، وهما مهاجران من الصومال، اقتفيا أثر ابنتيهما حتى تركيا. ويعلمون كذلك كيف غامرت جمعة بالدخول إلى تركيا وسقطت في أيدي مسلحين وظلت محتجزة لأكثر من 5 أسابيع. ويعلم الجميع كيف عاد الوالدان خاليي الوفاض بعد أن اكتشفا أن ابنتيهما سلمى وزهرة (17 عاما) قد تزوجتا بالفعل من قياديين بالتنظيم الإرهابي.
يعلم الجميع القصة ويتعاطفون مع الوالدين، ومع ذلك يحرصون على إبقاء مسافة عند التعامل معهما.
عن ذلك، قال حاج صعب، رئيس المسجد، متحدثا عن حلاني: «نعلم أنه حزين، ويشعر الجميع بالأسى من أجله؛ لذا نتركه لحاله».
وأضاف أن تلك التجربة كانت عصيبة للغاية على المجتمع المسلم بأكمله. وأشار إلى أن المجتمع «انغلق على ذاته. ويشعر الناس هنا بصدمة».
من المعتقد أن قرابة 3 آلاف رجل وامرأة سافروا من أوروبا منذ احتدام الحرب في سوريا، وذلك للانضمام لمجموعات مسلحة مثل «داعش». وبينما يأمل أحباؤهم عودتهم سالمين، تتخذ السلطات بمختلف أرجاء أوروبا خطوات لمنعهم، في خضم مخاوف من أنهم سيجندون آخرين أو سيحملون العنف معهم لدى عودتهم.
بيد أنه في كثير من الحالات خلق هؤلاء حالة من الفوضى لأسرهم ومجتمعاتهم الصغيرة، حسبما أفاد أفراد على معرفة ببعض من سافروا؛ ذلك أن آباء وأمهات مثل حلاني وجمعة لا يعيشون في قلق مخافة ألا يروا أبناءهم مجددا فحسب، وإنما بات لزاما عليهم كذلك تحمل العزلة والخوف.
ومع امتناع السلطات عن تقديم يد العون - بل وعدم تعاطفها في معظمها - اضطرت مزيد من الأسر في أغلب الحالات للتدخل بنفسها ومحاولة الوصول لسوريا لإنقاذ أبنائها.
في هذا الصدد، أوضحت صالحة جعفر، التي تتولى إدارة «أسر ضد الضغط والصدمة»، وهي منظمة مقرها لندن وتعمل على مساعدة الأسر التي انضم أبناؤها للصراع الدائر في الشرق الأوسط، أنه «حتى أقرباؤهم يتجاهلونهم خوفا من الربط بينهم وبين من يدعون إرهابيين أو التعرض للاعتقال».
وبدأ الجميع مثل أسرة حلاني الانغلاق على أنفسهم. داخل مركز الفرقان الإسلامي صباح أحد الأيام القريبة، وقف حلاني، الذي يقدم دروسا بالمركز من حين لآخر، داخل أحد الفصول وألقى مجموعة من الأسئلة على الطلاب. وبمجرد أن رآنا، قطب جبينه وهمس إلينا في صوت مرتعش بينما توقف الطلاب عن الحديث وبدأوا الإنصات: «أرجوكم، لا بد أن ترحلوا. ليس لدي ما أقوله، فيما عدا أنهما لو أرادتا العودة فلتعودا»، في إشارة لابنتيه. وأضاف: «أما إذا لم ترغبا»، ثم هز يديه في إيماءة إلى أنه لن يكون مهتما حينها. فور ذلك، أدار ظهره لنا حتى من دون أن ينهي جملته الأخيرة.
وقال شخص على معرفة بأسرة حلاني إن لديهم ابنا سافر للصومال للقتال في صفوف جماعة «الشباب»، ثم اتجه لسوريا للانضمام لـ«داعش» العام الماضي.
من جهتها، قالت جعفر إن الوصمة التي تعانيها أسر المتطرفين حادة، حيث يدركون أنه يجري الحديث عنهم خلف ظهورهم وأنهم منبوذون، بل ويخشى بعض الإخوة التوجه للمدارس خشية التعرض لمضايقات.
ويدور جزء من عمل منظمتها حول مساعدة الأسر على معاودة الانضمام للمجتمعات المحيطة بهم عبر إقناع الآخرين بأنهم لن يتعرضوا للعقاب إذا ما أبدوا دعمهم لهم، إلا أنه حتى الآن تتسم جهود الإقناع بالصعوبة.
من جانبهم، قال نشطاء إن حكومات تسببت في تفاقم المشكلة عبر خططهم لفرض قوانين لمكافحة الإرهاب أكثر صرامة، وإقرار مزيد من عمليات التوقيف والتفتيش. يذكر أن بريطانيا أصدرت أخيرا حكما بالسجن لمدة 12 عاما ضد 2 من المتطرفين العائدين بعدما تعاونت أسرتاهما مع الشرطة. الواضح أن مثل هذه السياسات تثبط آخرين عن المبادرة بالتعاون مع الشرطة، حسبما أشار نشطاء من داخل المجتمع المسلم. يذكر أنه حتى الآن خلال هذا العام، ألقت الشرطة القبض على 271 شخصا بناء على اتهامات على صلة بالإرهاب داخل بريطانيا.
من ناحيته، قال محمد شفيق، الرئيس التنفيذي لمؤسسة رمضان في مانشستر، التي ترمي لتثبيط الشباب عن الانضمام لـ«داعش»: «لا أحد يتحدث عن تأثير ذلك على الأسر والمجتمعات. إن الحكومة تقدم سلسلة من ردود الفعل التلقائية».
وأشار إلى أن أحد التداعيات المترتبة على توسيع سلطات مكافحة الإرهاب أن أعدادا متزايدة من الأسر اتصلت به طلبا للنصيحة بخصوص رغبتها في السفر لسوريا من تلقاء أنفسها لإحضار ابنة أو ابن. وقد عقد أحد الآباء من كارديف بويلز العزم على إعادة نجله البالغ 22 عاما، والذي انضم لـ«داعش» بعد سفره لمنطقة الصراع قبل عام للعمل بمجال الإغاثة.
وقال شفيق عنه: «قال إنه اعتقد أن الشرطة والحكومة لا طائل من ورائهما؛ لأنهما لم تقدما أي معاونة، بل واتصل بعضو محلي بالبرلمان، لكنه لم يحصل على إجابة».
إلا أن شفيق أقنعه بالتخلي عن هذه الفكرة، قائلا له: «أعلم أنك تعاني لأن ابنك رحل»، ولكن إذا لم تكن السلطات السورية ألقت القبض عليه، فمن المؤكد أن «داعش» فعلت ذلك. وأضاف: «هذا أمر خطير للغاية. هل يمكنك التعايش مع فكرة أنك تعلم أنه بمخاطرتك ستجعل من أبنائك يتامى ومن زوجتك أرملة؟».
وقال شفيق عن هذا الموقف: «نادرا ما أرى الرجال البالغين ينهارون ويبكون، لكن هذا هو ما حدث، لقد كان بلا حيلة».
من ناحية أخرى، وصف صديق مقرب من أسرة حلاني الأسرة بأنها أسرة شديدة التدين مؤلفة من 13 فردا. وقد غادروا الصومال وعاشوا بالدنمارك لفترة، ثم هاجروا لبريطانيا حيث كانت الفتاتان التوأمان من الطالبات المتفوقات وكانتا تطمحان للعمل طبيبتين مثل شقيقة كبرى لهما تدرس الطب في الدنمارك.
بيد أنه في يونيو (حزيران) سافرت التوأمان لتركيا وعبرتا الحدود لداخل سوريا. واكتشف أحد أصدقاء الأسرة يعمل مع الشقيقة الكبرى بمنظمة خيرية بالدنمارك، مكانهما وانطلق الوالدان في إثرهما.
وقال الصديق، ويدعى أحمد وليد رشيدي، وهو دنماركي من أصل أفغاني، إنه وافق على معاونة الأبوين. وأشار إلى أنه سافر برفقة الوالد حتى تركيا، وهناك توقف الأب. ورغم أنهم كانوا متفقين على فكرة أن الأب أكثر احتمالا لأن يتمكن من الوصول لابنتيه، فإن الأم أصرت على المضي قدما في الرحلة.
وأخبرته: «لقد فقدت ابنا، ولا أرغب الآن في فقدان التوأمين».
وأضاف رشيدي أن الأم كانت عاقدة العزم على العودة بالبنتين لبريطانيا، وأنها «لم تكن تخشى الموت». ورغم عثورهما على الفتاتين بالفعل في مدينة منبج بين الرقة والباب التي تعج بالمقاتلين الأوروبيين المنضمين لـ«داعش»، فإن جهود الأم لإقناع ابنتيهما بالعودة معها انهارت لدى اكتشافها أنهما تزوجتا.
* خدمة «نيويورك تايمز»



البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
TT

البابا: لن نقف مكتوفي الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان

البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)
البابا ليو الرابع عشر يتحدث في الفاتيكان (أ.ب)

أكد البابا ليو الرابع عشر أمام سفراء جدد، اليوم (السبت)، أن الفاتيكان لن يقف مكتوف الأيدي أمام انتهاكات حقوق الإنسان في أنحاء العالم.

وهذه من أوضح التصريحات التي تكشف حتى الآن عن فلسفة البابا الأميركي، الذي انتُخب على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم في مايو (أيار) عقب وفاة البابا فرنسيس.

وقال البابا أمام مجموعة السفراء الـ13: «أود أن أؤكد مجدداً أن الكرسي الرسولي لن يقف مكتوف الأيدي أمام التفاوتات الجسيمة، والظلم وانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية في مجتمعنا العالمي الذي يزداد انقساماً وعرضة للصراعات».

و«الكرسي الرسولي» هو الهيئة الحاكمة للكنيسة التي يقودها البابا، ويمتلك سلطة روحية على 1.4 مليار كاثوليكي.

وأكد البابا أن «دبلوماسية الكرسي الرسولي تتجه باستمرار نحو خدمة خير البشرية، لا سيما من خلال مناشدة الضمائر، والإصغاء لأصوات الفقراء، أو الذين يعيشون في أوضاع هشّة، أو الذين يُدفعون إلى هامش المجتمع».

وبتركيزه على عدم المساواة، يبني ليو على أولويات سلفه البابا فرنسيس، الذي دافع عن حقوق المهاجرين وغيرهم من الفئات المستضعفة خلال حبريته.

وانتقد ليو، الذي أمضى قرابة 20 عاماً مبشّراً في البيرو، معاملة المهاجرين «غير المحترمة» في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب.

والسفراء الجدد المعتمدون الذين استقبلهم الفاتيكان السبت، من أوزبكستان ومولدوفا والبحرين وسريلانكا وباكستان وليبيريا وتايلاند وليسوتو وجنوب أفريقيا وفيجي وميكرونيزيا ولاتفيا وفنلندا.


استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
TT

استراتيجية الأمن القومي الأميركي و«المعجزة» الأوروبية المنشودة

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث قبل حفلة لمغني الأوبرا الإيطالي الضرير أندريا بوتشيللي في البيت الأبيض (أ.ب)

لم يكن مفاجئاً مضمون استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترمب للأمن القومي الأميركي التي تُصوّر الحلفاء الأوروبيين بوصفهم ضعفاء، وتسعى إلى إعادة تأكيد هيمنة الولايات المتحدة في النصف الغربي من الكرة الأرضية.

ستثير الوثيقة التي صدرت الجمعة 5 ديسمبر (كانون الأول) 2025 عن البيت الأبيض استياء الحلفاء التقليديين لواشنطن في أوروبا، لما تتضمّنه من انتقادات لاذعة لسياسات قادة «القارة العجوز» في شأنَي الهجرة، وحرية التعبير، إذ تُشير إلى أنهم يواجهون «احتمال امّحاء حضاريّ»، وتشكّك في مدى موثوقيتهم بأنهم شركاء للولايات المتحدة على المدى الطويل.

وتُجدّد الوثيقة، بلغة لا تخلو من البرودة، والنبرة التصادمية، تأكيد فلسفة ترمب القائمة على مبدأ «أميركا أولاً» الذي يعني عملياً عدم التدخل في الخارج، وتُعيد تقييم عقود من الشراكات الاستراتيجية، وتضع المصالح الأميركية فوق كل اعتبار.

هذه أول استراتيجية للأمن القومي -وهي وثيقة يُلزم القانون الإدارة بإصدارها- منذ عودة الرئيس الجمهوري إلى السلطة في 20 يناير (كانون الثاني) 2025. وتمثل سطورها قطيعة واضحة مع النهج الذي اعتمدته إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، والتي سعت إلى إعادة تنشيط التحالفات بعد أن كانت قد تزعزعت خلال الولاية الأولى لترمب، وإلى كبح جماح روسيا الناهضة اقتصادياً بفضل صادراتها من النفط، والغاز.

*دور متراجع

سعى ترمب منذ عودته إلى البيت الأبيض إلى التوسّط لإنهاء الحرب الروسية-الأوكرانية المستمرة منذ نحو أربع سنوات في أوكرانيا، وهو هدف تؤكد الاستراتيجية الجديدة أنه يدخل ضمن المصالح الحيوية لواشنطن الراغبة في تحسين علاقاتها مع موسكو بعد سنوات من التعامل مع روسيا بوصفها دولة منبوذة دولياً، وبالتالي يغدو إنهاء الحرب مصلحة أميركية أساسية من أجل «إعادة إرساء الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا».

إطفائي يتعامل مع نيران أشعلها هجوم جوي روسي على العاصمة الأوكرانية كييف (أ.ف.ب)

وتنتقد الوثيقة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم هذا العام الذي يطوي أيامه الأخيرة أمام قساوة إصرار ترمب على التخلص من أعباء الحرب الروسية-الأوكرانية، بينما يواجهون تحديات اقتصادية داخلية، إضافة إلى أزمة وجودية، و«حضارية»، وفق واشنطن.

الواقع أنه ليس مستغرباً أن يضمر «حجم» أوروبا في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة. فالتاريخ يُظهر أن الاستراتيجية الكبرى الأميركية التي كانت في الغالب تتمحور على أوروبا لا بد أن تعكس تراجع خطر هيمنة قوة واحدة على القارة القديمة منذ مطلع الألفية، وظهور مراكز أخرى للنفوذ الجيوسياسي، والرهانات الجيواقتصادية. وهذا ما دفع الولايات المتحدة إلى إعطاء مناطق أخرى من العالم أهمية متزايدة. فبينما ركّز الرئيس جورج بوش الابن على الشرق الأوسط، أعلن كل رئيس جاء بعده -حتى وإن لم يُنفَّذ الأمر بشكل كامل- سياسات تهدف إلى «التحوّل نحو آسيا». وفي عهد ترمب، أضيفت أميركا اللاتينية إلى آسيا، وما قاله الرجل عن بنما، وما يفعله حيال فنزويلا، وبدرجة أقل نحو كولومبيا خير دليل على ذلك.

*جيل أميركي مختلف

تُظهر التحوّلات الديموغرافية في الولايات المتحدة أنّ «جيل الحرب الباردة»، الذي كان يميل تلقائياً بشيء من الحنين إلى «الأطلسية»، والجسور الثقافية الممتدة إلى الجزر البريطانية، واليابسة الأوروبية، يقترب من «التقاعد»، ويحلّ محلّه جيلٌ أصغر سناً، وأكثر تنوّعاً من الناحية العرقية، ويعيد النظر في الدور الأميركي على مستوى العالم. ونظراً للحذر العميق الذي يعتمل في نفس ترمب حيال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، كان طبيعياً أن يعمد في ولايته الثانية إلى إنزال أوروبا درجات في سلّم الأولويات، ومعها «الناتو» الذي أُنشئ عام 1949 للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي، ومنعه من مدّ نفوذه إلى أوروبا الغربية. فالتفاهم مع موسكو بشأن أوروبا ومناطق أخرى من الكوكب أفضل من إنفاق الأموال على حماية أوروبا «الاتكالية».

مبنى بيرلايمونت حيث مقر المفوضية الأوروبية في العاصمة البلجيكية بروكسل (أ.ف.ب)

خالف هذا التوجه تمسّك جميع الرؤساء الذين تولّوا الحكم في واشنطن بعد الحرب الباردة بالموقع الرئيس لأوروبا في الاستراتيجية الأميركية. فقد كانت أوروبا تُعدّ سوقاً رئيسة للبضائع، والخدمات الأميركية (خصوصاً الدفاعية)، وكان يمكن للحلفاء الأوروبيين أن يشكّلوا قوة مضاعِفة للنفوذ الأميركي في مناطق أخرى من العالم. وفي المقابل، كانت روسيا تهديداً لأمن أوروبا، وللنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بما يشمل منطقة المحيط الهادئ، حيث تعمل موسكو على تعزيز مصالحها الخاصة، وتتماهى في مواقفها مع الصين.

*التحديات الثقيلة

جاء في وثيقة الاستراتيجية الأميركية أن «الركود الاقتصادي في أوروبا يقل أهمية عن الاحتمال الحقيقي والأكثر حدّة لحصول امّحاء حضاريّ».

وترى واشنطن أن أوروبا تضعف بسبب سياسات الهجرة التي تعتمدها، وتراجع معدلات الولادة، و«قمع حرية التعبير، وكبح المعارضة السياسية»، فضلاً عن «فقدان الهويات الوطنية، والثقة بالنفس».

تضيف الوثيقة: «إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن القارّة ستكون مختلفة تماماً في غضون 20 عاماً أو أقل. بالتالي، ليس من الواضح إطلاقاً ما إذا كانت بعض الدول الأوروبية ستملك اقتصادات وجيوشاً قوية بما يكفي لتبقى من الحلفاء الموثوقين (...). نحن نريد لأوروبا أن تبقى أوروبية، وأن تستعيد ثقتها الحضارية بنفسها».

إذا سلمنا بصحة هذا التصوّر، فإننا نستنتج فوراً أن على أوروبا أن تصدّ أو تلطّف تداعيات الخروج الأميركي المرجَّح من معمعة الحرب الروسية–الأوكرانية. فالقارة لا تملك القوة الكافية لرفد كييف بما يمكّنها من مواصلة الحرب، ومجاراة القوة العسكرية الروسية. ولا فائدة من رفع الإنفاق العسكري في دول أوروبية عديدة لإقامة توازن مستحيل مع القوة الروسية، في موازاة استنزاف اقتصادات متعثرة تعاني عجزاً هائلاً بـ«قيادة» ألمانيا التي يبلغ دينها العام 2.55 تريليون يورو، وهو ما يعادل نحو 62.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفرنسا (3.416 تريليون يورو، أي ما يعادل 115.8في المائة من الناتج المحلي).

لا شك في أنه يحق للاتحاد الأوروبي أن يشغل مقعداً إلى طاولة المفاوضات الجارية على قدم وساق بين واشنطن وموسكو لإنهاء الحرب في أوكرانيا التي تكتفي –رغم محاولات التجميل– بدور المتلقي. فالحرب مسرحها أوروبي، و«أهل الدار» معنيون بما يجري على أرضهم.

*التواصل أجدى من القطيعة

لن يتحقق المطلب الأوروبي إلا بإقامة خطوط اتصال بين بروكسل وموسكو، فبغير ذلك لا انخراط لأوروبا في صَوغ القرارات التي ستُتّخذ لإنهاء حرب أوكرانيا مع ما لذلك من انعكاسات على الأمن الأوروبي. وإن لم يحصل هذا الأمر فسيجد الأوروبيون أنفسهم يكتفون بردّ الفعل على تطوّرات تقودها واشنطن وموسكو، وبدرجة أقل كييف.

جنود من المشاة خلال تدريب عسكري فرنسي - بلجيكي مشترك في منطقة مفتوحة قرب بلدة سيسون بشمال شرقي فرنسا (أ.ف.ب)

أوروبا كبيرة، وغنية رغم العثرات الحالية، ومتقدمة تكنولوجياً. وهي تحتاج بالفعل إلى برنامج إعادة تسليح قوي يقنع موسكو -التي لا تريد حرباً مع أوروبا كما قال فلاديمير بوتين لكنها مستعدة لها– بالتفاوض الجدّي.

أما الورقة الثانية للإقناع فتكون بكسر الجمود بشأن الأصول الروسية المجمدة والمحتجَزة بموجب العقوبات التي أقرها الاتحاد الأوروبي على دفعات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. فموسكو ستَنشد حلاً لتحرير أصولها الأوروبية التي تقدَّر قيمتها بـ210 مليارات دولار. أما الرأي الأوروبي القائل بضرورة استخدام هذه الأصول لدعم أوكرانيا، فمؤداه إطالة عمر الحرب، ووضع القارة في حالة مواجهة مع روسيا هي في غنى عنها.

ثمة من يقول إن الكرملين لا يفهم سوى لغة القوة، والبيت الأبيض لا يفهم سوى لغة الأعمال، وعلى أوروبا أن تتقن اللغتين. وثمة من يردّ على ذلك بالقول إن ما ورد عن البيت الأبيض صحيح، في حين أن ما ورد عن الكرملين مضلِّل.

ولعلّ الحقيقة أن كل هذه المعادلة لا ضرورة لها، وليس على أوروبا أن تتقن لغتين، بل عليها أن تُحسن إنجاب قادة حقيقيين يعرفون التاريخ ليضعوا رؤى لمستقبل يقيهم شرّ «الامّحاء الحضاري»، و«تلاشي الهويات»، فهل تتحقق «المعجزة»؟...


«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
TT

«الطاقة الذرية»: الدرع الواقية لمحطة تشرنوبل النووية تضررت

يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)
يُظهر منظر عام هيكل الاحتواء الآمن الجديد (NSC) فوق التابوت القديم الذي يغطي المفاعل الرابع التالف بمحطة تشرنوبل للطاقة النووية في تشرنوبل (رويترز)

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة أمس (الجمعة)، أن الدرع الواقية في محطة تشرنوبل النووية بأوكرانيا، التي تم بناؤها لاحتواء المواد المشعة الناجمة عن كارثة 1986، لم تعد بإمكانها أداء وظيفتها الرئيسية للسلامة، بعد تعرضها لأضرار بسبب طائرة مسيرة، وهو ما اتهمت أوكرانيا روسيا بالمسؤولية عنه، بحسب «رويترز».

وقالت الوكالة إن عملية تفتيش الأسبوع الماضي لهيكل العزل الفولاذي الذي اكتمل في عام 2019، وجدت أن تأثير الطائرة المسيرة في فبراير (شباط)، أي بعد 3 سنوات من الصراع الروسي في أوكرانيا، أدى إلى تدهور الهيكل.

وقال رافائيل غروسي المدير العام للوكالة في بيان، إن «بعثة التفتيش أكدت أن (هيكل الحماية) فقد وظائف الأمان الأساسية، بما في ذلك القدرة على الاحتواء، ولكنها خلصت أيضاً إلى أنه لم يكن هناك أي ضرر دائم في هياكله الحاملة أو أنظمة المراقبة».

وأضاف غروسي أنه تم بالفعل إجراء إصلاحات «ولكن لا يزال الترميم الشامل ضرورياً لمنع مزيد من التدهور، وضمان السلامة النووية على المدى الطويل».

وذكرت الأمم المتحدة في 14 فبراير، أن السلطات الأوكرانية قالت إن طائرة مسيرة مزودة برأس حربي شديد الانفجار ضربت المحطة، وتسببت في نشوب حريق، وألحقت أضراراً بالكسوة الواقية حول المفاعل رقم 4 الذي دُمر في كارثة عام 1986.

وقالت السلطات الأوكرانية إن الطائرة المسيرة كانت روسية، ونفت موسكو أن تكون قد هاجمت المحطة.

وقالت الأمم المتحدة في فبراير، إن مستويات الإشعاع ظلت طبيعية ومستقرة، ولم ترد تقارير عن تسرب إشعاعي.

وتسبب انفجار تشرنوبل عام 1986 في انتشار الإشعاع بجميع أنحاء أوروبا، ودفع السلطات السوفياتية إلى حشد أعداد هائلة من الأفراد والمعدات للتعامل مع الحادث. وتم إغلاق آخر مفاعل يعمل بالمحطة في عام 2000.

واحتلت روسيا المحطة والمنطقة المحيطة بها لأكثر من شهر في الأسابيع الأولى من غزوها لأوكرانيا في فبراير 2022، حيث حاولت قواتها في البداية التقدم نحو العاصمة الأوكرانية كييف.

وكانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أجرت التفتيش في الوقت نفسه الذي أجرت فيه مسحاً على مستوى البلاد للأضرار التي لحقت بمحطات الكهرباء الفرعية، بسبب الحرب التي دامت نحو 4 سنوات بين أوكرانيا وروسيا.