يعتبر رمضان لكثير من الأسر المسلمة واحداً من أكثر شهور العام من حيث اللقاءات الاجتماعية.
داخل الولايات المتحدة، تستضيف المساجد مآدب كبيرة تتولى إعدادها مطاعم محلية أو أفراد من أبناء المجتمع المسلم. داخل المنازل، يحتشد أفراد العائلات الكبيرة معاً حول طاولات كبيرة تجمعهم. ويجتمع الأصدقاء للصلاة والتشارك وتناول الطعام. إنه شهر يمتزج فيه تناول الطعام بالاحتفال والبهجة وينتهي بعيد الفطر المقرر أن يأتي هذا العام في 23 مايو (أيار).
إلا أنه خلال فترة تفشي الوباء، اتخذت وجبات السحور والإفطار شكلاً جديداً، ففي بعض الأحيان يجتمع الأقارب حول مائدة الطعام عبر مكالمات الفيديو. ويبدو الاحتفاء بأجواء رمضان أكثر حميمية وخصوصية، وتتحول الوجبات الثلاثين خلال الإفطار إلى فرص لتأمل مسائل دينية وتاريخية.
وعبر أرجاء البلاد، يبدو الطعام الذي يتشارك فيه الأفراد مصدراً للشعور بالارتياح والسكينة والاستمرارية في أوقات عاصفة. وقد تحدثنا إلى عدد من المسلمين القيمين في الولايات المتحدة حول الوجبات واللحظات التي شعروا أن لها قيمة خاصة في حياتهم خلال العام الحالي.
- نداء عباس في نيو هيفين (ولاية كونيتيكت)
عايشت نداء عباس شهورا رمضانية صعبة من قبل. وسبق لها الصوم خلال رمضان داخل مسقط رأسها، العاصمة العراقية بغداد، أثناء الاحتلال الأميركي. كما صامت خلال سنوات عصفت فيها الطائفية بالعراق.
وصامت سبع سنوات في سوريا، كمهاجرة تسعى لتعلم ثقافة جديدة. وبعد فرارها من الحرب الأهلية هناك، قضت أربعة شهور رمضان متتالية داخل معسكر لاجئين في تركيا، حيث اضطرت إلى الاعتماد على كميات قليلة من الطعام في إطعام أطفالها الستة. وعندما انتقلت إلى نيو هيفين عام 2014 كلاجئة، لم تكن تتحدث الإنجليزية.
ومع هذا، قالت عباس متحدثة بالعربية من خلال مترجم: «يبقى هذا رمضان الأصعب على الإطلاق، فرغم أن الطعام والجدول العام دونما تغيير، نجلس هنا ويغلب علينا القلق والخوف».
وأضافت: «حتى خلال أكثر الأوقات صعوبة، مثلما كان الحال عندما كنا بسوريا أو تركيا، كان باستطاعتنا دوماً الخروج من المنزل والتوجه إلى أحد المتنزهات. أما هذا العام، فيلازمنا الخوف أينما خرجنا. إننا نعيش في حالة من الرعب. وعندما أعود للمنزل، يبقى الرعب ملازماً لي».
ومع هذا، تحاول عباس، 44 عاماً، تقديم يد العون قدر الإمكان، ففي كل صباح تطهو طعاماً لحساب «هيفينلي تريتس»، منظمة غير هادفة للربح تعين اللاجئين الطهاة على بيع الطعام. واعتماداً على مخزون خبرتها من عملها كخبازة في العراق، تطهو عباس قرابة 200 وجبة إلى المحتاجين. وتعد فطائر بالجبن والزعتر وأطباق سلطة خيار بالتوابل وصوصا مصنوعا في المنزل.
وعن هذا الأمر، شرحت أنه: «نود أن نشعرهم أنهم جديرين بتناول وجبة لائقة كتلك. ولا أود أن أقدم لهم شيئا يقل عما أقدمه لأطفالي».
على امتداد فترة بعد الظهيرة، تتولى عباس إعداد طعام الإفطار لأسرتها، وتطهو لأبنائها السبعة وزوجها، طارق المشهدني. ورغم القلق الذي يعتمل بداخلها، تحاول ألا يظهر عليها منه شيئا. وقالت: «أسعى لأن أبث القوة في نفوس أولادي، لكن الوباء الحالي يجعلني أشعر أنني أصبحت عاجزة عن بث الشجاعة في نفوسهم».
ومع هذا، تستمر عباس في الطهي في كل الأحوال. وتعد قطع من البقلاوة الصغيرة من أجل أطفالها كي تعينهم على اجتياز ساعات النهار.
- الإمام عمر دبور في ساكرامنتو (ولاية كاليفورنيا)
خلال الأيام الأولى من تفشي الوباء، شرع دبور، مدير شؤون الخدمات الدينية والاجتماعية لدى مركز السلام الإسلامي، في بث فعاليات الصلاة عبر فيديوهات حية إلى أبناء المجتمع المحلي من المسلمين. وكان باستطاعة الناس حينها مشاركته الصلاة، بدلاً عن مجرد الإنصات إلى التلاوة.
وعن هذا الأمر، قال دبور بامتعاض: «بدأت في التحول اليوم من إمام إلى مبرمج وفني». وخلال دوره الجديد، يعمل دبور على ربط «فيسبوك» وتطبيق «زوم»، لكنه ما يزال بحاجة إلى تعلم كيفية تنفيذ بث مباشر عبر «يوتيوب».
ويدرك دبور، 40 عاماً، إلى أي مدى يفتقد المسلمون في المجتمع المحلي الجانب الاجتماعي من الصلاة، والتجمعات الودودة خلال رمضان. اليوم، لم يعد بمقدور الأطفال رؤية أصدقائهم، ولم يعد باستطاعة كبار السن مقابلة أقاربهم. لذلك، شعر بداخله إلى حاجة لإيجاد سبيل للتواصل.
في ظل الظروف التقليدية، تولى المركز تقديم الطعام إلى المحتاجين. هذا العام، تحول إلى موقع لجمع التبرعات، حيث يتولى المتطوعون ملء حقائب سيارات بعناصر غير قابلة للتلف.
وتولى دبور، المولود بمصر، وأفراد فريق العمل في مركز السلام تنظيم مآدب إفطار باستخدام السيارات خلال ليالي الجمعة. وتجري بعض المآدب تحت رعاية أفراد من المجتمع المسلم، وبعضها ترعاه حكومات محلية. وخلال تلك الليالي، تقود أسر سياراتها إلى نقطة متفق عليها ويتولى متطوعون ملء حقائب سياراتهم بطعام ساخن أعدته مطاعم محلية.
- د. ظافر شمون في ديربورن (ولاية ميشيغان)
خلال رمضان، يحرص شمون، رئيس الخدمات الطارئة في مستشفى بيمونت في ديربورن، على تفحص أفراد فريق العمل المعاون له أكثر عن المعتاد، وبعضهم يصوم بينما البعض الآخر مرضى. جدير بالذكر أن منطقة ديربورن تضم واحدة من أكبر التكتلات السكانية المسلمة على مستوى الولايات المتحدة، بجانب أنها تضم واحداً من أكبر المساجد على مستوى البلاد: المركز الإسلامي الأميركي.
وقال شمون، 45 عاماً، الذي هاجر والداه من باكستان عام 1973: «عندما أراهم يصومون بجانبي أشعر بقدر أكبر من التحفيز لأننا نخوض هذا الأمر معاً».
هذا العام على وجه التحديد، يبدي شمون اهتماماً أكبر بمتابعة الحالة البدنية والذهنية لفريق العمل المعاون له، خاصة أنه وزملائه استقبلوا أكثر عن الفي مصاب بفيروس «كورونا»، توفي منهم قرابة 140. حسبما ذكر. وعلى مدار ساعات اليوم، يرتدي شمون وزملاؤه معدات الوقاية الشخصية التي تتسم بثقل وزنها وتعيق الحركة وقد تكون خانقة أحياناً. وخلال ساعات النهار، لا يأكل ولا يشرب، ويشعر بافتقاد تناول القهوة أكثر عن أي شيء آخر.
وعن ذلك، قال: «أشعر بإرهاق أكثر عن أي وقت مضى ـ ليس إرهاقاً جسدياً رغم عملي 12 ساعة يومياً. ولا أعتقد أنه حتى ناجم عن الصيام، وإنما أعتقد أنه بسبب التداعيات الذهنية لما نخوضه منذ الشهر الماضي».
ويساعد بعض الأطباء غير المسلمين شمون وأفراد آخرين من فريق العمل من الصائمين، من خلال تغطية أماكنهم كي يتمكنوا من تناول الإفطار وإقامة الصلاة. وعند انتهاء نوبة عمله، يقود شمون سيارته عائداً إلى منزله كي يتمكن من الإفطار برفقة أسرته.
وفور وصوله منزله، يحرص على خلع ملابسه والاستحمام لحماية طفليه الصغيرين وزوجته الحامل، د. نادية يوسف، من أي رذاذ ملوث قد يكون قد علق بملابسه أو شعره خلال اليوم. كما يحرص على الاطمئنان على والدته التي تصوم هي الأخرى.
إحدى الليالي، أعدت ابنته البالغة 6 أعوام مائدة خاصة له وعلقت عليها لافتة تقول: رمضان كريم، وأحضرت له تمراً، الذي يعتبر من العناصر الأساسية على مائدة رمضان في دول الشرق الأوسط، وماء.
وقال شمون: «أشعر بالسعادة لأنني أتمكن من التخلص من كل التوتر لدى وصولي منزلي. كل ذلك التوتر الذي أتعرض له خلال اليوم ـ مريض يبلغ معدل نبضات قلبه 30 وثمانية مرضى بفيروس «كوفيد» ومرضى يعيشون على الأنابيب ـ يتلاشى في لحظة واحدة فقط كتلك وأنساه تماماً».
- مديرة منزل في مدينة نيويورك
عندما تفاقمت أزمة الوباء، أخذت أم لثلاثة أطفال تعيش في مانهاتن إجازة من أعمال التنظيف، لكن في أبريل (نيسان) طلب منها صاحب العمل العودة إلى عملها.
ومع أن مديري المنازل لا يعتبرون من العمالة الأساسية، فإنها تعين في إعالة زوجها وأطفالها الصغار في إندونيسيا. ورغم أن زوجها يعمل، يبقى خارج استطاعتها تحمل تبعات فقدان عملها. وطلبت عدم ذكر اسمها بهذا المقال خشية فقدان عملها.
في الوقت الحالي، تستقل الحافلة ثلاثة مرات أسبوعياً، من منزلها في ألفابيت سيتي لتنظيف شقة في لور إيست سايد. وقالت: «عندما تصبح الحافلة ممتلئة، أشعر بقلق بالغ. لا أريد الاقتراب بشدة من الناس».
ومع هذا، تبقى أسرتها قادرة على رسم الابتسامة على وجهها، حتى في الأيام الصعبة. وقد اعتادت على أن تصحو في الثالثة والنصف فجراً لإعداد الإفطار لأطفالها. وقالت ضاحكة: «أنا أم، لذا يجب علي دوماً أن أكون أول من ينهض من فراشه».
وبعد أن تصل إلى منزلها وتستحم، تحاول التخلص من توترها خلال إعداد وجبة إفطار رمضان. وتذكرها الأطباق التي تطهوها من بطاطا وصوص أحمر حار وسمك أصفر بإندونيسيا.
ومنذ سنوات كثيرة حتى اليوم، لم تقض رمضان مع عائلتها في إندونيسيا بسبب عدم توافق إجازات المدارس دائماً مع رمضان. وأحياناً يغلبها البكاء عندما تقرأ القرآن. وتأمل في أن يأتي عاماً يتمكن خلاله أطفالها قبل أن يكبرون من الاحتفال برمضان مع جدهم وجدتهم.