«كنا في سباق مع الحياة. سنوات عمر تمرّ ونحن نركض لاهثين. العمل ومتطلباته لا تنتهي. فلا راحة ولا فرصة للإنسان يستغلها للجلوس مع العائلة أو حتى للاختلاء بالذات. كنت دائماً أشعر بأن التغيير آت لا محالة، إلا أنني مثل الكل لم أكن أتصور أنه سيأتي على شكل جائحة تؤثر على حياة الملايين». هكذا كانت بداية حديث مصمم الأزياء العالمي اللبناني الأصل إيلي صعب «الشرق الأوسط»، وهو في حجره الصحي ببيروت. «بكل علاتها وسيئاتها، فترة الحجر هذه، فترة تأمل إيجابية بالنسبة لي. إنها أيضاً اكتشاف لما في دواخلنا من روحانيات وفترة مهمة لترتيب الأوراق». يؤكد المصمم أن التغيرات الكثيرة التي سيشهدها العالم ستشمل نفسياتنا وكيف ننظر إلى الأمور ولن تقتصر على عالم الموضة، وإن كانت في أمس الحاجة إليها و«كنا ننتظر حدوثها»، وما قام به الفيروس المستجد أنه سرعها. فالموضة كانت تحتاج لـ«نّفضة» قوية حسب قوله.
يشرح أن إيقاعها في السنوات الأخيرة لم يعد طبيعياً ولا إنسانياً، وهو ما كان يتطلب هذه الوقفة الحاسمة. يشرح إيلي صعب «أصبحنا (نتبطر) على النعمة، إن صح القول، وزال شعور الرّضا منّا والقناعة. لم يعد يعجبنا شيء، فنحن دوماً نلهث وراء شيء جديد، هذا عدا عن الأنا التي تضخّمت لدى البعض بشكل لا يُصدق. انظري إلى الطبيعة كيف انتعشت، وكيف أننا رغم التباعد المفروض أصبحنا أكثر تقارباً عبر وسائل التواصل الاجتماعي وإحساساً بالغير. هكذا يجب أن ننظر إلى الإيجابيات وأن نستغل هذه الفترة لكي نعيد رسم أحلامنا بشكل (صحي) أكثر».
بينما الكل خائف على مستقبل الموضة ويشعر بأنها تتأرجح على كف عفريت، يرى المصمم، أنه رغم مخاوفنا المُبررة من الفيروس اللعين، وما فرضه من عزلة، «فإنّ ذلك منحنا هذه الوقفة مع النفس لكي نكتشف أنّ أساسيات بسيطة تجاهلناها طويلاً، قد تكون هي الأهم. علمتنا أننا عوض أن نجري وراء شيء قد يكون بعيد المنال، علينا أن نستمتع بالحاضر وبما لدينا. لا يعني الأمر الاستغناء عن الرفاهية، فهي أيضاً نعمة ربانية، وليس خطأ أن نُدلل أنفسنا إن توفّرت الإمكانيات، الخطأ ألا ننظر إلى الحياة من زاوية إنسانية بسيطة». يُطمئنني أن الموضة، لو صحت توقعاته، ستكون «أحلى وأجمل لأنه سيُتاح لنا وقت كافٍ لاختبار الأفكار وتذوقها قبل تقديمها».
يشرح أن إيقاعها في العقد الأخير بات أكثر قسوة وتطلباً «بات علينا توفير منتجات بشكل شهري تقريباً، إضافة إلى الوجود على وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، إلى حد أنّ المصمم منّا لم يعد لديه الوقت لالتقاط أنفاسه.
الزبون أيضاً لم ينج من هذه الحال. فأينما وجه أنظاره، واجهته إغراءات لا تنتهي، وما إن يشتريها حتى تظهر أخرى، ومع الوقت تحوّل الأمر إلى نوع من الجشع أو الشراهة. أضحت كل بيوت الأزياء تتنافس لتبيع وتربح، فانتعشت قطع لم يكن أحد يتخيل وصولها إلى منصات عروض الأزياء مثل الـ(تي - شيرتات) والأحذية الرياضية وغيرها... بدأت الموضة تأخذ مساراً غريباً علي لم أعتده من قبل، ولكن لضرورات السوق، ولكي لا أتخلف عن الركب، وجدت نفسي مضطراً لمواكبة هذا المسار. من هذا المنظور، أعتقد أنّ التغييرات المقبلة، ستكون لصالح الكيف وليس الكم، وهذا يعني شيئاً واحداً وهو أننا سنتمكن من تقديم تصاميم أكثر جودة وجمالاً، تعود بنا إلى الزمن الجميل عندما كان الإبداع يتطلب قيماً ملموسة ومرئية تركّز على الإبداع والفنية».
يُكرر إيلي أن الأخبار المتشائمة حول مستقبل الموضة، خصوصاً بعد إلغاء عروض الأزياء المقبلة، لا تُقلقه. بالعكس، يؤكد أنه أكثر تفاؤلاً بمستقبلها ويرى أن هذه الفترة «ما هي إلا حالة استثنائية» لا بد أن نتعافى فيها على كل الأصعدة. صحيح أن ماكينة الموضة توقفت، وعروض الأزياء تأجلت إلى تاريخ غير مسمى، والتسوق الإلكتروني فرض نفسه بقوة أكبر وأسرع «لكنّنا سنعود بعد انحسار (كورونا) إلى تقديم عروض أزياء على منصات أمام ضيوف بموازاة المواقع إلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، مثل قبل. الجميل في الأمر، أنه سيكون لكلّ مصمم الخيار في أن يقدم عرضه بالطريقة التي يراها مناسبة له، وليس المفروضة عليه. أتذكر أنّه في المواسم الماضية بدأت عروض الأزياء تنخر أساسات بعض البيوت غير المدعومة من قبل مجموعات كبيرة.
كانت هذه البيوت المستقلة تعاني من الضغوط المادية وهو ما بدأ ينعكس عليها وعلى إنتاجاتها بشكل واضح، لأعود وأقول إنّ الموضة قبل (كورونا) كانت تمر بمرحلة معقدة تتطلب تغييرات». هناك اقتراحات وتصورات كثيرة الآن، إلا أنها ستبقى لحد الآن مجرد تصورات ولن تتبلور إلا في المستقبل. فكل مصمم عاكف حالياً في حجره الصحي على التفكير في هذا المستقبل وفي الاستراتيجية المناسبة له.
أما أكثر ما يتمناه المصمم «أن تعود عروض الأزياء إلى ما كانت عليه في الماضي البعيد، مرتين في العام فقط، وأنا متأكد أنّ أغلب المصممين سيُباركون هذه الخطوة». يتابع: «الكم الهائل من التصاميم المطلوبة منا، كانت تضعنا تحت ضغوطات لا نهاية لها، أفقدت الموضة لذّتها وروحها. لو حصل هذا التغيير الذي أتصوره ستعود الحياة أسهل والتصاميم أجمل، لأنه كلما توفر لدينا ما يكفي من الوقت لاختبار الأفكار وطبخها على نار هادئة، زادت قيمتها وفنيتها. صحيح أنه ليس هناك عمل من دون ضغط، لكن هناك فرق بين أن تطرح تشكيلة جديدة كل 40 يوماً وبين أن تطرحها كل 60 أو 70 يوماً. ولا أقصد هنا فقط تأثيرات العمل المتواصل واللاإنساني على الأنامل الناعمة والحرفيين، بل أيضا على الابتكار والأفكار. فعندما تُنتج أربع تشكيلات جاهزة مثلاً وتُتبعها بتشكيلة (كروز)، فالهدف الأول منها أن تُباع، وهذا ما كان يفرض الأخذ بعين الاعتبار متطلبات السوق. أما عندما لن تكون مطالباً بتقديم أكثر من 100 قطعة في الموسم عوضاً عن 300 قطعة، فأنت قد تُقدمها بأسعار أغلى لكن جمالها وتفردها يُبرر هذه الأسعار».
ورغم تفاؤل إيلي صعب من التغييرات وتوقعها لها منذ سنوات، فإنه يتحسر على أن بعض تفاصيلها الأخرى قد تتأثر أو تختفي. يقول: «الجيل القادم مثلاً لن يعيش الأشياء الجميلة التي عشناها. فأنا من جيل يعشق التسوق الفعلي... أحب لمس الأشياء والتفاعل مع البائع وغير ذلك من التفاصيل الصغيرة. ورغم أن هذا الجيل لن يفتقد هذه الأمور أو يحس بغيابها، بحكم أنه لن يُجربها أو يعيشها، إلّا أنه يحز في نفسي أنه سيُحرم من لذتها. جيلي في المقابل عاش تغيرات كثيرة ومر بعدة تجارب، نجح في التأقلم معها، وبالتالي لن يغلب في التأقلم مع أي ثقافة جديدة كما حصل تماماً في العقود الأخيرة عندما دخلنا عالم التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي. أطمئن نفسي طوال الوقت، بأنه ما دامت التفاصيل هي التي ستتغير دون جوهر المنتج وجماله، فلا بد من التعايش مع الوضع، ومن الخطأ اعتبار كل شيء جديد غير جميل أو مفيد. أنا مثلاً أعشق الرسم على الورق، وأفضله على استعمال جهاز اللابتوب. ورغم أني أعرف جيداً أن الورق سيختفي يوماً، شئت أم أبيت، فإنني أجد نفسي أستعمل القلم وأنا أضع تصوري على كل رسمة يتم اقتراحها علي. حينها فقط أشعر بأن التصميم اكتسب روحاً. لكني في المقابل أقدر أهمية التكنولوجيا الحديثة ودورها في تسهيل سير العمل، بدءا من طُرق تخزين البطرونات وأرشفة التصاميم إلى سهولة البحث عنها وما شابه من أمور كانت متعبة في الماضي، وكنّا نقضي أياما وليالي نبحث عنها، ونجدها اليوم بكبسة زر. فلكل قديم بديل جديد، والتغيير مهم».
إيلي صعب لـ «الشرق الأوسط»: الحجر فترة تأمل إيجابية والموضة ستكون أجمل
إيلي صعب لـ «الشرق الأوسط»: الحجر فترة تأمل إيجابية والموضة ستكون أجمل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة