هل انتهى زمن استسهال الرواية؟

تصاعد في معدلات القراءة وتحولات نوعية في أجناس الكتابة

هل انتهى زمن استسهال الرواية؟
TT

هل انتهى زمن استسهال الرواية؟

هل انتهى زمن استسهال الرواية؟

يتداول المهتمّون بالشأن الثقافي بين الحين والحين إحصائية عن نصيب الفرد العربي من القراءة سنوياً مقابل نصيب الفرد في دول أخرى، وأحياناً مقارنة بإسرائيل بالذات، ما يجعلها تصبّ في إطار جَلْد الذات أكثر مما تفيد في تغيير واقع القراءة عربيّاً المرتبط بالعديد من العوامل.
لم تعلق هذه الإحصائيات بذهني، ولو مرة واحدة، ولا أعرف إن كانت ثابتة أو تتغير من عام إلى عام. في كل الأحوال، نحن نعاني من نقص المعلومات حول ما يُطبع في العالم العربي سنوياً، ولا يمكن لأي إحصاء أن يكون دقيقاً في ظل انعدام مؤسسات التحقق من الانتشار.
نعاني من ضعف عادة القراءة. هذا ما نعرفه على وجه التقريب، لكن الإحصائيات ليست دقيقة، والصورة ليست ثابتة إلى حد يفضي إلى اليأس.
كانت هناك مؤشرات على ارتفاع معدلات القراءة العربية منذ عقدين من الزمان، انتكست الحالة بعد الخلخلة التي تعرضت لها حواضر عربية كبيرة تحت ضغط الحروب والأزمات، وهي حواضر كانت قارئة في أحوالها العادية، بل الأكثر نهماً للقراءة، مثل العراق والسودان وسوريا واليمن، لكن يبدو أن عادة القراءة عادت للانتعاش، ويمكن أن نلحظ ذلك من عدد دور النشر الجديدة التي تنطلق في كل عام. من الواضح أن هناك تصاعداً في معدلات القراءة، وهناك تحولات نوعية بخصوص ما يتم نشره من أجناس الكتابة، بدت واضحة في معرض القاهرة الأخير.
في بداية الألفية الثالثة انفجرت ظاهرة «الأكثر مبيعاً» التي أزعجت كثيراً من الأدباء. وكان المحتوى فقيراً إلى حد كبير، ويتركز في جنس الرواية وكتب التنمية البشرية. كثير من الروايات منقولة عن أفلام أجنبية، خصوصاً روايات الرعب، وكتب التطوير الذاتي تبدو ظلالاً باهتة للكتب المترجمة في هذا المجال، التي تشهد هي الأخرى إقبالاً كبيراً.
لم تزعجني هذه الظاهرة يوماً، بل رأيتُ فيها تعبيراً عن رغبة في القراءة لدى أعداد كبيرة من الناس لا يمكنهم هضم الأعمال الأكثر تركيباً، ومجرد أن تجعل هذه الكتب من القراءة عادة اجتماعية، فهذا مكسب بحد ذاته. الأمر يشبه إقامة بناية، يلزمها في البداية حصيرة خرسانية تشمل كل موقع البناء، تخرج منها بعد ذلك الأعمدة التي يتناقص قطرها كلما ارتفع المبنى. ويبدو أن رهاني لم يكن خاسراً، حيث أرى على مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الأشخاص يسخرون مما كانوا يقرأون في بداياتهم، ويسخرون من أذواقهم في تلك الفترة، بعد أن تحولوا إلى قراءة الأدب الرفيع.
دور النشر كانت حساسة في استجابتها لهذه التحولات؛ فقد بدأت منذ سنوات في إعادة الاعتبار للأدب الكلاسيكي العالمي والعربي، وقد تأكدت رغبة القارئ في معرض القاهرة هذا العام بالتدافع الرهيب على جناح «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة»، في اليوم الأول لافتتاح المعرض للجمهور، وظل جناح «الهيئة» يصفي يومياً ما يعرضه من الأدب والفكر الكلاسيكي العربي، وعدداً كبيراً من كلاسيكيات الأدب الروسي بمناسبة العام المصري الروسي، منها: «المعلم ومارجريتا» لميخائيل بولغاكوف، ترجمة: يوسف حلاق، و«سوار العقيق» لألكسندر كوبرين، ترجمة: أبو بكر يوسف، و«بحثاً عن السعادة» لألكسندر أغناتنكو، ترجمة: توفيق سلوم، و«مولد إنسان»، تأليف: مكسيم جوركي، ترجمة: غائب طعمة فرمان، و«الآباء والبنون»، تأليف: إيفان تورجينيف، ترجمة: خيري الضامن، و«عش النبلاء»، إيفان تورجينيف، ترجمة: غائب طعمة فرمان، و«بطل من هذا الزمان»، رواية ليرمونتوف، ترجمة: سامي الدروبي.
الظاهرة الثانية والجديدة هي الرواج الشديد للكتب غير الروائية، كالسيرة والنصوص الهجين أو العابرة للأنواع الأدبية.
قبل أن ينطلق المعرض بشهر واحد احتفت الأوساط الأدبية بكتاب الشاعرة إيمان مرسال، «في أثر عنايات الزيات»، الذي قدمت فيه كتابة من طبقات، حيث نعثر فيه على حياة الكاتبة المنتحرة عام 1963، وسيرة صديقتها الفنانة نادية لطفي في بحث يقف بين تقنيات الصحافة الاستقصائية والتأريخ الأدبي، بالإضافة إلى سيرة إيمان مرسال نفسها، وآرائها في الواقع الثقافي الذي لم يتغير منذ انتحار عنايات إلى اليوم، ونجد في الكتاب تأريخاً اجتماعياً وعمرانياً للقاهرة، وتأريخاً لألم الكاتبات وعزلتهن التي أفضت ببعضهن إلى مصائر تشبه مصير عنايات الزيات.
كان الكتاب حاضراً في المعرض بجانب كتب أخرى استقبلها المعرض من المطابع مباشرة، منها «حرز مكمكم» للكاتب أحمد ناجي، الذي عوقب بثلاث سنوات حبساً بسبب فصل من روايته «استخدام الحياة»، نشرته دورية «أخبار الأدب» المصرية.
كتب ناجي نصاً حول سنوات الحبس. ليس يوميات أو مذكرات كاتب في ظرف عصيب، بل تأملاً متعالياً على الغضب، فيه كثير من السخرية وكثير من المفارقات. يجد ناجي بين الكتب المسموح بها في مكتبة السجن رواية صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» ممهورة بختم مصلحة السجون، وينطلق منها للمقارنة بين ظرفه ورؤيته للكتابة، وظرف صنع الله ورؤيته. ابتداءً، دخل ناجي السجن بسبب فصل من رواية لم تمنعها المحكمة وظلّت متداولة في الأسواق، بينما دخل صنع الله السجن في قضية سياسية، وعندما أُطلق من السجن كتب روايته، وتم منعها. تقود المقارنة ناجي إلى تأملات حول الأدب والآيديولوجيا، وعلى هذا النحو يواصل انتقالاته الناعمة بين وقائع السجن الطريفة أكثر من المؤلمة، وطريقة السجناء في الاحتيال على الممنوعات، وأثمان التواصل مع خطيبته في رسائل تنتهكها عيون الحراس، وبين آرائه في الكتابة من خلال ما يقرأه داخل المكتبة الفقيرة أو ما يصل إليه مع أفراد الأسرة، وتأملاته حول المسجونين الآخرين من خلال التزامهم بالصلاة، وإسداء النصائح الأخلاقية والدينية، وهؤلاء هم علية القوم المسجونين، حيث كان حبسه في عنبر الأموال العامة الذي يضمّ المختلسين من أصحاب المناصب الرفيعة، وقد ظلوا متشككين في هويته، حيث لم يصدق أحد منهم أن كتابة رواية يمكن أن تكون سبباً للسجن!
الروائي رؤوف مسعد حضر في المعرض من خلال مذكراته «لما البحر ينعس» ويصفها بـ«مقاطع من حياتي»، وهذا تنويه ضروري من كاتب عاش حياة من الصخب الغني، وتحتاج إلى مجلدات لوصفها، ما بين السجن والحرية المشروطة وإقامات في بلاد متعددة، حيث استقرّ به المقام في هولندا. تضمّ هذه المقاطع من الحياة سيرة الكاتب وخياراته السياسية والثقافية، وشهادته على عصره، ورأيه في العديد من الأدباء ورموز السلطة الثقافية بصراحته المعهودة الجارحة أحياناً.
الكتاب جزء أول، سيتلوه آخر، ما يمثل للبعض تهديداً جديداً؛ وكان أحب على العديد من المثقفين لو انشغل رؤوف مسعد برواية أخرى من رواياته الإيروتيكية الجريئة!
وفي معرض القاهرة كذلك صدر نص قصير للشاعرة الفلسطينية كارول منصور، يندرج تحت الكتابة المتعدية للنوع. وقد ضمّ الكتاب ترجمتين للنص: إنجليزية أنجزها يوسف رخا، الذي كتب مقدمة الكتاب كذلك، وفرنسية لهنري جول جوليان. «في المشمش» عنوان النص الذي ينفتح على الشعر والنثر، على الفصحى والعامية، على السياسي والاجتماعي، تنظمه تلك الهشاشة المرتبطة بالمشمش، الفاكهة ذات الموسم الأقصر.
لا يتسع المجال لكل الظاهرة غير الروائية في النشر التي شهدها معرض القاهرة، ومنها: «كيف تتذكر أحلامك» للكاتب عمرو عزت الذي يعرفه القراء كاتباً منفتحاً بتمكن على البحث السياسي والاجتماعي والإبداع. وهناك «حارس الكتب» لعماد العادلي، يقدم سيرة شخص وسيرة جيل من خلال القراءة، وهناك كتاب للناقد السينمائي والأدبي محمود عبد الشكور، «كنت طالباً في الثمانينيات»، بعد جزء أول صدر عام 2016، تحت عنوان «كنت صبياً في السبعينيات».
حققت كتب السيرة والنصوص العابرة للنوع معدلات توزيع جيدة، ولا يعني هذا غياب الرواية؛ فهناك روايات لكاتبات وكتاب من كل الأجيال، وهناك الكتب الأكثر مبيعاً التي لن تغيب وينبغي ألا تغيب، لكن سيكون عليها هي الأخرى أن تراعي حدّاً أدنى من جودة المستوى.
ومن الوجهة الفنية، يبدو النصّ الحرّ استجابة للون يعرفه العالم منذ عقود طويلة، ومن جهة أخرى يمكن النظر إليه بوصفه احتجاجاً على استسهال كتابة الرواية الذي وصل إلى حد الاستخفاف بهذا الفن العظيم.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!