عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب

وزير الدفاع التونسي في السباق لخلافة قائد السبسي

عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب
TT

عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب

عبد الكريم الزبيدي... طبيب ولاؤه للدولة لا للأحزاب

تولى وزير الدفاع والمرشح البارز للرئاسة التونسية الدكتور عبد الكريم الزبيدي مسؤوليات عليا في المؤسسات العلمية والإدارة التونسية منذ عام 1981 في عهد كل رؤساء تونس، من الحبيب بورقيبة، وزين العابدين بن علي، إلى الباجي قائد السبسي، مروراً بفؤاد المبزّع، والمنصف المرزوقي، بعد الانتفاضة الشبابية الاجتماعية التي فجّرت ثورات ما عُرف بـ«الربيع العربي» مطلع 2011. وكان الزبيدي، وهو طبيب، قد عيّن لأول مرة عضواً في حكومة بن علي مكلفاً بالبحث العلمي عام 1999، ثم عيّن وزيراً للصحّة في 2001 عندما كان محمد الغنوشي رئيساً للوزراء، بيد أنه ارتقى في سلم المسؤوليات خلال السنوات الأربعين الماضية، ليتصدر قائمة المترشحين لرئاسة تونس خلال السنوات الخمس المقبلة.
عبر الرحلة من مهنة الطب إلى عالم السياسة، تولّى الدكتور عبد الكريم الزبيدي مسؤوليات كثيرة، معظمها في قطاعات الطب والتعليم العالي والبحث العلمي. وتفيد السيرة الذاتية للزبيدي الطبيب والجامعي أنه ولد عام 1950 في مدينة الرجيش، بمحافظة المهدية السياحية، على بُعد 200 كلم جنوبي العاصمة تونس.
وحقاً، نشأ الزبيدي في جهة الساحل، بين محافظات المهدية والمنستير وسوسة، التي ينحدر منها الرئيسان السابقان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، اللذان حكما تونس ما بين 1955 و2011. وكذلك غالبية كبار المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم.
ومِثل كثيرين من طلبة النخبة التونسية، تمكّن الزبيدي من إكمال دراساته العليا في أوروبا، فحصل على شهادة دكتوراه في الطب من جامعة كلود برنار - ليون 1 المرموقة في مدينة ليون بفرنسا. كما أنه حصل من الجامعة نفسها على شهادة الماجستير في علم وظائف الأعضاء البشرية، وأيضاً الماجستير في علم الصيدلة الإنسانية، إضافة إلى شهادة الدراسات المعمقة في علم وظائف الأعضاء البشرية، وشهادة دراسات وبحوث في علم الأحياء البشري.
ولقد نجح الزبيدي بفضل تفوقه العلمي في أن يتولى مبكراً مسؤوليات إدارية في الجامعة والمستشفيات التونسية. وعيّن منسقاً لتدريب كبار الفنيين الصحيين في كلية الطب بمدينة سوسة، خلال الفترة بين 1981 و1988. وتحمّل في الفترة ذاتها الكثير من المسؤوليات الرسمية والمناصب داخل الجامعة، بينها رئيس قسم العلوم الأساسية بين 1982 و1989. وحاز رتبة أستاذ في المستشفيات الجامعية العمومية منذ 1987.
بعدها، عيّن الزبيدي رئيساً لخدمة الاختبارات الوظيفية في مستشفى فرحات حشّاد الجامعي في مدينة سوسة بين 1990 و1999. وعيّن منذ 1992 مسؤولاً عن بعثات الخبراء في مجال التطبيقات الطبية النووية لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وترأس الزبيدي كلية علم وظائف الأعضاء والاختبارات الوظيفية التابعة لوزارة الصحة العمومية بين 1994 و1997، ثم عيّن رئيساً لجامعة الوسط برتبة عضو في الحكومة بين 1995 و1999. وبعد مغادرته الحكومة «لأسباب صحية وعائلية» عيّن عميداً لكلية الطب في جامعة الوسط بسوسة بين 2005 و2008.

العودة إلى الحكم
عاد الدكتور الزبيدي إلى الحكومة بعد أسبوعين فقط من ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 عندما أسندت إليه حقيبة وزارة الدفاع في الحكومة الثانية التي شكّلها رئيس الحكومة محمد الغنوشي يوم 27 يناير، وسقطت بعد نحو شهر. وبعد الإطاحة بحكومة الغنوشي الثانية وتعيين السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي (الرئيس الراحل) رئيساً جديداً للحكومة، بقي الزبيدي في منصبه وزيراً للدفاع.
كذلك ظل الزبيدي وزيراً للدفاع في أعقاب الانتخابات التعدّدية الأولى التي نظمت في تونس يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، وهي الانتخابات التي أوصلت الدكتور المنصف المرزوقي إلى قصر قرطاج الرئاسي، والأمين العام لحزب «حركة النهضة» حمادي الجبالي إلى قصر الحكومة. واحتفظ الزبيدي بالمنصب مجدداً حتى مارس (آذار) 2013، إلا أنه انسحب في أعقاب الاحتجاجات والاضطرابات السياسية التي عقبت اغتيال الناشط السياسي اليساري شكري بلعيد، ثم استقالة رئيس الحكومة حمادي الجبالي، وتعويضه بوزير الداخلية آنذاك علي العريّض.

رفض رئاسة الحكومة وحقيبة الداخلية
وعُين الزبيدي من قبل رئيس الحكومة الجديد علي العريّض (مارس 2013 - يناير 2014) مستشاراً لوزير الصحة عبد اللطيف المكي برتبة وزير، إلا أنه اختار الانسحاب، وبرّر موقفه بأسباب صحية وعائلية. كذلك رفض الزبيدي طوال 4 سنوات عروضاً كثيرة قدّمها الرئيس الباجي قائد السبسي، من بينها رئاسة الحكومة الأولى في عهده بعد انتخابات 2014. ولقد حاول صديقه الوزير المخضرم الحبيب الصيد إقناعه بقبول عرض قائد السبسي، لكنه تمسك بموقفه الرافض.
وفي المقابل، يؤكد المقرّبون منه أنه لعب دوراً كبيراً في إقناع الصيد بالموافقة على اقتراح تولي رئاسة الحكومة، بحكم تجربته الطويلة في الإدارة، وعلى رأس مؤسسات استراتيجية في الدولة، من بينها الداخلية والتنمية المحلية والفلاحة والبيئة.
وبعد إسقاط حكومة الحبيب الصيد في أغسطس (آب) 2016، تلقّى الزبيدي عروضاً لتشكيل الحكومة الجديدة، أو دخول حكومة يوسف الشاهد الأولى وزيراً للداخلية والأمن، لكنه اعتذر.

في حكومة الشاهد
واصل الزبيدي رفض العودة إلى الحكومة حتى سبتمبر (أيلول) 2017 عند تشكيل حكومة يوسف الشاهد الثانية، وذلك بعد مفاوضات شملت معظم الأحزاب السياسية والنقابات، وأسفرت عمّا سُمّي بـ«وثيقة قرطاج»، وعن إدخال تغييرات شملت حقائب وزارات الدفاع والعدل والداخلية.
ولقد أكد يوسف الشاهد أنه عرض على الزبيدي حقيبة الداخلية والأمن، إلا أنه رفضها وقبل بحقيبة الدفاع، التي تشرف على تأمين حدود تونس وأمنها الخارجي والمشاركة في الحرب على الإرهاب، ولكن دون التورط مباشرة في الملفات الأمنية والسياسية الداخلية المعقّدة.
وبالفعل، بقي الزبيدي في هذا المنصب طوال سنتين بعيداً عن الانخراط في المعارك السياسية، مكرّساً مواقف المؤسسة العسكرية التونسية منذ عهد الرئيس الحبيب بورقيبة وثوابتها؛ الجيش في الثكنات، وتثبيت الحياد السياسي، والتفرغ للملفات الوطنية المشتركة.

علاقته بقائد السبسي
استفاد الزبيدي من دستور تونس الجديد، الصادر في يناير 2014، الذي يجعل وزراء السيادة - وبينهم وزير الدفاع - تحت إشراف مباشر من رئيس الجمهورية، على الرغم من انتمائهم إلى الفريق الحكومي الذي يقوده رئيس الحكومة، وعلى الرغم من مشاركتهم في اجتماعات مجلس الوزراء بإشرافه، وخضوعهم لمراقبة مباشرة من البرلمان.
هذه العلاقة المميزة بمؤسسة رئاسة الجمهورية، مكّنت وزير الدفاع الزبيدي من أن يكون أحد أكثر الوزراء تواصلاً مع الرئيس ومستشاريه، وبينهم مستشاروه في قطاعات الأمن والدفاع. ومكّنه هذا الموقع من أن يتابع مباشرة تطورات التنسيق الأمني والعسكري الإقليمي والدولي في مجالات مكافحة الإرهاب، والتطورات الأمنية والسياسية في ليبيا ومناطق التوترات الأمنية في شمال أفريقيا ودول الساحل والصحراء، بما فيها ما يتعلق بالحرب ضد تنظيمات مسلحة مثل «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«داعش» وعصابات التهريب للأسلحة والسلع والأموال والمهاجرين غير القانونيين.
وبالتالي، مع دعم قائد السبسي دور مؤسسة الرئاسة في متابعة الملفات الاستراتيجية والأمنية والعسكرية، اقترب الزبيدي أكثر من مؤسسة الرئاسة والتأثير في بعض قراراتها.

خلافات رأسي السلطة
ولكن، قبل سنة ونصف السنة، عندما اندلعت الخلافات بين قائد السبسي والشاهد، وتطوّرت إلى أزمة مفتوحة بين رأسي السلطة التنفيذية في قصري الرئاسة والحكومة... بل إلى صراع سياسي علني داخل الحكومة والبرلمان ووسائل الإعلام، التزم الزبيدي الحياد، وحاول مراراً الانسحاب من المشهد واعتزال السياسة والتفرّغ لحياته الخاصة والعائلية.
وبالفعل، ينقل مقربون من الشاهد والسبسي أن الطرفين كانا يحرصان على وساطته في عدد من الملفات. وعندما استفحل «الخلاف الرئاسي» عام 2018 وفشلت جهود قائد السبسي لإسقاط رئيس الحكومة، عرض الزبيدي مجدداً استقالته، لكن الرئيس تمسك به وقرّبه أكثر.
وهكذا، بقي الزبيدي في منصبه، لكنه كان يؤكد للمقربين منه موقفه المتمسك بحياد المؤسسة العسكرية، المعارض للاصطفاف ضد رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة... أو ضد رئيس الحكومة الذي يمنحه الدستور والبرلمان أكبر الصلاحيات في تسيير شؤون الدولة ومؤسسات الحكم.

شعبية المؤسسة العسكرية
لقد استفاد الزبيدي من شعبية الجيش التونسي نتيجة تحاشي قياداته التورط مباشرة في قضايا الرشوة والفساد والاستبداد طيلة السنوات الـ60 الماضية، خلافاً لبعض القيادات الأمنية المدنية و«لوبيات» المال والأعمال والسياسة.
وعندما تدهورت الحالة الصحية للرئيس قائد السبسي يوم 27 يونيو (حزيران) الماضي إلى درجة استحالة نقله للعلاج في الخارج، طلب الزبيدي مع أطبائه نقله إلى المستشفى العسكري الكبير في العاصمة تونس؛ حيث تتوفر نخبة من الأطباء العسكريين والمدنيين والتجهيزات الطبية المتقدمة. ونُقل السبسي إلى المستشفى العسكري في اليوم الذي كانت فيه قوات الجيش والأمن الوطني تتصدّى لمجموعة إرهابية هاجمت مركز إرسال إذاعي وتلفزيوني في جنوب تونس على الحدود مع الجزائر، ولمجموعة إرهابية نظّمت عمليتين انتحاريتين وسط العاصمة تونس. ويومها كانت الأولى أمام مقر إدارة مكافحة الإرهاب، والثانية بالقرب من وزارة الداخلية والسفارة الفرنسية بتونس.
وأدى التعاطف الشعبي مع الرئيس المريض الذي يُعالج في المستشفى العسكري، ومع القوات التي تحارب الإرهابيين، إلى ترفيع التعاطف الشعبي مع المؤسسة العسكرية ومع وزير الدفاع الذي اختاره السبسي وأفراد عائلته صباح اليوم الموالي، ليكون الشخصية الرسمية التي أجرى معها اتصالاً هاتفياً لطمأنة الشعب وتفنيد إشاعة وفاته.
كذلك كان الزبيدي آخر مسؤول في الدولة قابله قائد السبسي صباح يوم الاثنين 22 يوليو (تموز) قبل 3 أيام فقط من نقله مريضاً للمرة الثالثة إلى المستشفى العسكري، ثم الإعلان عن وفاته. وأفاد الزبيدي أن المقابلة شملت الحديث عن الوضع الأمني والعسكري في البلاد.
بعد تلك المقابلة، التي بدا فيها السبسي منهكاً ولم يخاطب الشعب، التقى وزير الدفاع رئيس البرلمان محمد الناصر والسفير الأميركي لدى تونس دونالد بلوم، وأوردت وسائل الإعلام التونسية أن قائد السبسي كلّفه بذلك، في خطوة فهم المراقبون أنها محاولة جديدة من الرئيس وعائلته ومستشاريه لتهميش دور رئيس الحكومة و«ابنه الروحي» المتمرد عليه يوسف الشاهد، وإبراز الزبيدي بصفته «رجل ثقة الرئيس والأب الكبير».

الجيش ومراسم التشييع
ويوم وفاة قائد السبسي فوجئ العالم والتونسيون بسلاسة نقل السلطات من الرئيس الراحل إلى رئيس البرلمان، وفق ما ينص عليه الدستور. ونقلت وسائل الإعلام موكب أداء الرئيس الجديد في البرلمان، بعد ساعات من إعلان وفاة قائد السبسي، بعد جلسة عمل جمعته برئيس الحكومة الشاهد، ومشاورات مع وزيري الدفاع والداخلية، أُعلن في أعقابها أن جنازة وطنية ستنظم للرئيس الراحل بعد يومين فقط. وبعد مراسم التشييع فهم الجميع أن قادة الجيش ووزير الدفاع شخصياً كانوا وراء النجاح الأمني والسياسي، لأن كبار الضباط من القوات البحرية والبرية والجوية كانوا في صدارة المشهد طوال مراسم الدفن التي تواصلت نحو 5 ساعات.

دعوات للترشيح
ونوّهت المواقع الاجتماعية ووسائل الإعلام المختلفة بنجاح المؤسسة العسكرية، وتوالت بسرعة الدعوات إلى ترشيح وزير الدفاع لرئاسة الجمهورية. وانخرط في حمّى المساندة لترشيح الزبيدي عائلة قائد السبسي، بزعامة نجله الأكبر حافظ، رئيس حزب «نداء تونس»، ثم قيادات حزبية وسياسية علمانية، بينها ياسين إبراهيم ورفاقه في حزب «آفاق».
أيضاً، صدرت تصريحات بالجملة مساندة لمبدأ ترشيح الزبيدي من داخل حزب «حركة النهضة»، قبل أن تقرر قيادته الموسّعة في اجتماع جديد ترشيح النائب الأول لرئيس الحركة ورئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو.

مرشح الحداثة
واليوم، بعد حسم «النهضة» موقفها بترشيح زعيمها التاريخي الثاني عبد الفتاح مورو لخوض السباق، فإنه من بين الأسئلة المطروحة؛ هل سينجح الزبيدي وأنصاره في إقناع غالبية المرشحين للرئاسة المحسوبين على تيار الحداثة بالانسحاب لصالحه، كي يتزعم «جبهة التحديثيين» المعارضة لمرشح الإسلاميين؟
ثم كيف سيتفاعل الزبيدي وأنصاره مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، المرشح بدوره للرئاسة، مدعوماً من قبل حزب كبير، انخرط في قياداته المركزية والمحلية عدد كبير من كوادر الدولة والحزب الحاكم قبل انتفاضة 2011 وبعدها.
في أي حال، فإن ترشح وزير دفاع للرئاسة، واستقالته في اليوم نفسه من الحكومة للتفرغ لحملته الانتخابية، حدث يحصل لأول مرة في تونس. إذ بات القانون الانتخابي يسمح فيها للعسكريين والأمنيين بالمشاركة في الاقتراع العام - أي في الحياة السياسية - بحجة المساواة في الحقوق والواجبات مع المدنيين.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟