كانت بريطانيا من أوائل الدول التي أنشأت «وزارة معارف» خلال الحرب العالمية الأولى للدعاية ضد الألمان، ومحاولة تجنيد المزيد من الشباب البريطاني. وأعادت المملكة المتحدة المحاولة بإحياء وزارة المعارف خلال فترة الحرب العالمية الثانية أيضاً. العامل المشترك بين المحاولتين كان استخدام الإعلام، أو بالأحرى استغلاله، بالعديد من الوسائل، منها اللوحات الإعلانية والصحف ودور السينما والراديو من أجل تجنيد المزيد من المتطوعين البريطانيين للمشاركة في الحرب.
اعتمدت الدعاية البريطانية على العديد من العناصر، منها إثارة النعرة الوطنية، وتشجيع النساء للشباب على الانضمام إلى الجهد العسكري، والتعريف بمسؤولية الجميع في الدفاع عن البلاد، والتذكير بمدى الضرر الذي لحق بالبلاد من هجمات ألمانية سابقة. كما ركزت بعض النشرات على ضرورة الاعتماد على النفس في زراعة الخضراوات وتوفير المعادن للمجهود الحربي.
وفي بعض الأحيان لم يقتصر الجهد على مجرد نشر المعلومات والدعاية عبر وسائل الإعلام، بل وصل إلى التدخل في المحتوى الإعلامي، مثل اقتراح العمل في مشروعات أفلام حربية للمنتجين وتقديم جميع الدعم لهم لإنتاج مثل هذه الأفلام التي تحث على رفع الروح الوطنية.
وظهرت أفلام تكشف أحوالاً بائسة للدول الأوروبية التي وقعت تحت الاحتلال الألماني، من أجل رفع الروح القتالية ضد أي محاولة لاحتلال بريطانيا.
أما اللوحات الإعلانية، فقد حملت رسائل ملخصة تحث على أن الحرية في خطر، وأن على المواطنين التحلي بالشجاعة والإصرار. واشتهرت منذ ذلك الوقت عبارات ما زال البريطانيون يستخدمونها في أوقات الضيق مثل «حافظ على هدوئك واستمر» (Keep Calm and Carry on).
واستخدمت وزارة المعارف أيضاً النشرات البريدية والكتب والراديو على نطاق واسع. واشتهر مذيع اسمه ريتشارد مارو في نشراته الإذاعية بالحديث عن شجاعة البريطانيين وصمودهم أثناء هجمات الطيران الألماني على لندن. وكان مارو يتسم بالهدوء والواقعية وعدم إبداء الرأي مما أثار إعجاب الأميركيين الذي ساهموا بعد ذلك في جهود الحرب ضد الألمان. وتبدو شخصية مارو الهادئة على النقيض من شخصية الإذاعي المصري أحمد سعيد الذي أثار الرأي العام بأسلوبه الجهوري أثناء حرب 1967، بأخبار كاذبة أفقدت الثقة بالنشرات العسكرية المصرية لفترة طويلة.
وشجع على الدعاية العسكرية إقبال الناس عليها وتصديقها في غياب مصادر أخرى للأخبار. ووزع كتاب واحد عنوانه «لماذا تحارب بريطانيا؟» أكثر من 100 ألف نسخة. وشمل التشجيع أيضاً عمل النساء في المصانع، خصوصاً المصانع الحربية، وتشجيع كبار السن على التطوُّع في الجيش الشعبي لحماية الجبهة الداخلية. وكان يُطلق على المتطوعين من كبار السن اسم «جيش الآباء» وما زالت تذاع حلقات تلفزيونية فكاهية عن جهود هذا الجيش من العجائز. ولم يكن التركيز خلال آخر سنوات الحرب العالمية الأولى على تطوع الشباب للقتال، لأن التجنيد الإجباري تكفل بهذا.
كانت الدعاية البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى موزّعة بين عدة جهات بهدف التصدي للدعاية الألمانية. ولم تنشأ وزارة المعارف (أو المعلومات) إلا في عام 1918. واكتشف البريطانيون بعد الحرب أن بعض الروايات عن الوحشية الألمانية كانت كاذبة أو مبالغاً فيها، مما أبقى بعض الشكوك في قصص مشابهة انتشرت خلال الحرب العالمية الثانية. كما أن النازيين استعاروا بعض الأساليب البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
قبل إنشاء وزارة المعارف، كانت هناك عدة جهات مشرفة على الدعاية البريطانية، كان أهمها وكالة عُرفت باسم موقع عملها من «ويلينغتون هاوس»، وكان يرأسها تشارلز ماسترمان. واتسم عمل هذه الوكالة بالسرية التامة إلى درجة أن البرلمان البريطاني لم يكن يعرف بوجودها. وتخصصت وكالة «ويلينغتون هاوس» بالدعاية ضد الألمان. وبين عامي 1914 و1918 نشطت هذه الوكالة وتوسعت أعمالها التي كان من بينها دعوة 25 مؤلفاً بريطانياً لكتابة روايات ونشرات وكتب تساند المجهود الحربي.
وإلى جانب «ويلينغتون هاوس» نشطت أيضاً «لجنة الإعلام المحايد» التي كُلّفت بتزويد الدول المحايدة بأخبار الحرب والنشاطات البريطانية. ورأس هذه اللجنة صحافي بريطاني اسمه جي ماير. أما الجهة الثالثة، فكان قسم الأخبار في وزارة الخارجية البريطانية الذي اختص بالبيانات الرسمية الخاصة بسياسة بريطانيا الخارجية. وكانت جهات الإعلام الحربي الأخرى تدخل في نزاعات وصراعات أحياناً مع «ويلينغتون هاوس» حول نوعية الأخبار العسكرية وتوقيت نشرها.
وأدَّت هذه النزاعات إلى إعادة تنظيم عمل الوكالات المختلفة في عام 1916، وبعد تقرير أمر به رئيس الوزراء حينذاك لويد جورج تم تأسيس وزارة المعارف في بداية عام 1918 بتأييد من البرلمان البريطاني.
اشتهرت في هذه الفترة «بوسترات» عديدة في الشوارع، لعل أشهرها على الإطلاق كانت صورة اللورد كتشنر بشاربه الكث وهو يشير إلى المشاهد بأصبعه تحت عنوان «أيها البريطانيون كتشنر يريدكم أن تنضموا لجيش بلدكم. يحيا الملك». ولكنه لم يكن البوستر الوحيد الذي اشتهر في ذلك الوقت فقد ظهرت أيضاً العديد من الأفكار التي أسهمت في جهود الدفاع المدني، ومنها صورة لمواطن يلقّن ابنته درساً وهي تسأله ببراءة: ماذا فعلتَ في الحرب العظمى يا أبي؟
- لم يطبق التجنيد الإجباري في الحرب العالمية الأولى في بريطانيا حتى شهر مارس (آذار) عام 1916. وكان الجنود قبل ذلك يدخلون الجيش بالتطوع. واعتمدت الحكومة البريطانية على اللوحات الإعلانية لتشجيع الإقبال على التطوع، خصوصاً من الطبقة المتوسطة التي تتوجه لها هذه اللوحة.
وكانت الحرب العالمية تُعرف باسم الحرب العظمى أثناء سنوات الحرب. ويهدف هذا «البوستر» إلى اللعب على مشاعر الأب الذي يظهر عليه التفكير العميق، عما يمكنه أن يقوله لابنته في فترة ما بعد الحرب.
- بوستر آخر يحمل صور عسكريين على دبابة ترفع العلم البريطاني وبجانبهم مجموعة من المدنيين يتناول كل منهم مهمة معينة، بينما يقف على مقربة منهم رجل بقبعة يبدو أن السؤال الرئيسي في البوستر «هل أنت معنا؟» موجه إليه. ونشر هذا البوستر على نطاق واسع في فترة ما قبل التجنيد الإجباري ضمن 200 بوستر، بعبارات مختلفة، وهدف واحد. ويقع هذا البوستر تحت رقم «112» وهو من تأليف الضابط البريطاني والكاتب روبرت بادن.
- «على الجبهة» هو اسم بوستر آخر عليه رسم لمجموعة من الجنود على خيولهم ينطلقون بجانب انفجار قريب منهم، مع رسالة موجهة للشباب البريطانيين بأن عليهم الانضمام إلى الرجال الشجعان على الجبهة والتطوع فوراً. وفي الوقت نفسه تم توزيع ملصق آخر عليه صورة رجل ثري مع خلفية مدافع ومعدات عسكرية مع نصيحة ضرورة الاستثمار في السندات العسكرية. وكانت الحكومة البريطانية تعتمد على القروض لتمويل العمليات العسكرية باهظة الكلفة. ولذلك أصدرت الحكومة في بداية عام 1914 سندات تدفع فوائد بنسبة 3.5 في المائة ثم فئة ثانية في عام 1915 بفوائد تبلغ نسبتها 4.5 في المائة، ارتفعت إلى خمسة في المائة في عام 1917. ولكن هذه القروض كانت بمثابة أعباء على الحكومات في فترة ما بعد الحرب وأسهمت في كساد الاقتصاد البريطاني وتراجع نفوذ الإمبراطورية فيما بعد.
- «خذ مكانك» هو عنوان ملصق آخر لطابور من الجنود في طريقهم إلى المعركة تتبعهم فئات مدنية من كل الطبقات الاجتماعية. وكانت الرسالة الواضحة هي تشجيع الشعب البريطاني على الالتحاق بالقوات المسلحة لخوض الحرب. وإذا كان لدى البعض أي شك في أن التطوع للحرب من الأمور الحيوية كان الملصق التالي بالنيابة عن نساء بريطانيا يقول للمتطوعين: «نساء بريطانيا يردن لك أن تذهب». ويصوّر سيدتين وصبية ينظرن من أمام نافذة باتجاه الشارع بينما الجنود يتوجهون إلى المعركة.
- من الملصقات المؤثرة ما كان يصور جندياً بريطانياً تقليدياً في غلالة حرب رومانية يحمل العَلَم البريطاني بيد ويقاتل بسيفه بيده الأخرى. وكان عنوان الملصق «تذكر سكاربورو! تطوع الآن». ويحكي الملصق قصة هجوم بحري ألماني على مدينة سكاربورو في ديسمبر (كانون الأول) عام 1914. وكان الهجوم ضمن خطة ألمانية لسحب الأسطول البريطاني الأكثر تفوقاً إلى منطقة بحر الشمال حيث زرع الألمان المئات من الألغام البحرية والغواصات الألمانية. وأسفر الهجوم على المدينة الساحلية عن مقتل 122 مواطناً مدنياً وجرح 443 آخرين. وكانت مدينة سكاربورو غير محصنة وليس بها أي منشآت عسكرية وكانت مثالاً للمدينة المسالمة. ولذلك فجّر هذا الهجوم موجة تعاطف واستنكار هائلة بين الرأي العام البريطاني. ولذلك كان النداء للتطوع للقتال حتى لا تتكرر مأساة سكاربورو.
- من الملصقات الأخرى التي ظهرت أثناء الحرب العالمية الأولى ما يدعو القارئ إلى أن يتناول «سيف العدل»، وظهر هذا الملصق في عام 1915 قبل تطبيق التجنيد الإجباري. وعلى الملصق كان رسم لامرأة تخرج من البحر وهي تحمل سيفاً بينما تبدو خلفها سفينة تغرق.
وترمز الصورة إلى سفينة ركاب بريطانية اسمها «لوسيتانيا» أغرقها الألمان بطوربيد من غواصة في منطقة جنوب الساحل الآيرلندي يوم 7 مايو (أيار) عام 1915 أثناء قدومها من نيويورك إلى ميناء ليفربول. وأسفر الحادث عن مقتل 1200 مسافر مدني على السفينة. وكان الملصق من تصميم سير برنارد بارتريدج الذي عمل رسام كاريكاتير في مجلة «بانش» حتى وفاته في عام 1945.
وأسهمت هذه الملصقات في تجنيد المزيد من الشباب لجهود الحرب، ولكن استمرار المعارك مع الخسائر البشرية المتزايدة دفع الحكومة البريطانية إلى تطبيق التجنيد الإجباري.
خفايا دور الإعلام في تجنيد متطوعي الحرب العالمية ببريطانيا
الدعاية استغلت العاطفة والتأثير النسوي
خفايا دور الإعلام في تجنيد متطوعي الحرب العالمية ببريطانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة