في محاولة منهم لتغيير ثقافة السياحة في جنوب مصر، ينظم مجموعة من الشبان المصريين سلسلة رحلات إلى أعماق الجنوب، تحت عنوان «الصعيد الجواني»، بهدف الاستكشاف والاحتفاء بالزخم الإنساني والتراثي والمجتمعي، عبر التخييم في الخلاء، أو الإقامة داخل منازل السكان المحليين، وليس بالإقامة في الفنادق أو المنتجعات الفخمة.
يقول المهندس ياسر مصطفى الرسول، صاحب المبادرة وقائد الرحلة الأولى في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «تأتي الرحلة التي أنظمها لصعيد مصر، انطلاقاً من حبي للتصوير والسفر، وفي إطار رحلات مجموعة (المستكشف المصري) التي كونتها منذ سنوات، وهي فكرة تقوم على زيارة أماكن جديدة وبعيدة لا يعرفها معظم الناس، إلى جانب استكشاف مزيد من منابع الجمال لأماكن لا نعرفها».
ويضيف: «الناس تعرف الصعيد جيداً، وتسافر إليه لأسباب متعددة، لكن رغم ذلك كله فإن ثمة أماكن منسية، وأخرى مجهولة، نادراً ما يحرص الزوار على التوجه إليها، إما لجهلهم بوجودها، أو لبعدها الشديد، ذلك في الوقت الذي تضم فيه كنوزا جمالية وتراثية متعددة، وهو ما نسعى إلى لفت الأنظار إليه عبر هذه الرحلات».
ويلفت إلى أن «السياح الأجانب والمصريين جنوب مصر، عندما يزورون الصعيد، فإنهم يكتفون فقط بزيارة الأماكن التقليدية مثل الأقصر والبر الغربي ووادي الملوك، ومعالم أسوان الأثرية، لكن لا أحد يهتم بأعماق الصعيد، ففكرتنا عن الجمال هناك محدودة للغاية».
ويتابع: «من أهم ما توصلنا إليه هو أننا لا نعرف عن الصعيد سوى ما يقدمه لنا الإعلام والمسلسلات التي تقدم صورا نمطية وأحياناً مغلوطة، في حين أن الرحلة أثبتت لنا كم أن الصعيد مليء بأماكن وحرف وفنون وفلكلور غاية في الروعة والتفرد، إضافة إلى الأماكن التي لم نسمع عنها من قبل، حتى فيما يتعلق بالآثار والقرى والتراث الإنساني والثقافي».
ويقول: «أقمنا في بيوت السكان، واكتشفنا كم أنهم يتمتعون بالكرم والشهامة، ويتشبثون بالعادات والتقاليد والأعراف، وعندما بدأنا رحلتنا كنا نعرف جيداً أنها رحلة مختلفة، وبها قدر كبير من المشقة، كنا نعتمد على المغامرة والاستكشاف، وقلنا لفريق الرحلة: مع كل منا مستلزمات التخييم للنوم في أي مكان».
عاد المغامرون من باكورة رحلاتهم بكنز من الصور والتسجيلات الصوتية والمرئية التي تبرز تفاصيل التجربة التي خاضوها من جهة، وما يضمه الصعيد من كنوز منسية ومجهولة كما ذكر المهندس ياسر من جهة أخرى، فهم لم يكتفوا بالتوثيق للأماكن الأثرية والمعالم السياحية، إذ تكشف الرحلة عن الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد، والفنون، وروعة الفلكلور الغنائي والشعبي.
فعبر التنقل بين الصور نستطيع أن نعيش في «الصعيد الجواني» أجواء روحانية متفردة في مولد عبد الرحيم القناوي، ثم أبي الحجاج الأقصري، وتشارك الحضور خصوصية «المرماح» الذي يتضمن فنون ركوب الخيل والقتال فوقها، والمسابقات المرتبطة به.
وتجسد الصور الساحة الواسعة التي ينزل بها الخيالة، وتؤكد إلى أي مدى هناك يتمسكون بهذه العادة الصعيدية التي تعود إلى أكثر من قرن مضى، خاصة في الموالد والمناسبات، حيث توجد 19 مرماحاً في أماكن مختلفة بالصعيد، من أشهرها «مرماح الزينية».
«ولذلك عندما تشاهد الصور تعيش أجواء لم يعشها كثيرون من قبل، حتى تكاد تسمع الصيحات التحفيزية والشعر للمشاركين والمنتمين للقبائل العربية المختلفة، في الجانب الآخر يقف المزمار، يشدو بأغانٍ تذكر الفارس بماضيه، وتحثه على الفوز بالسباق، وعلى هامش المرماح تتم إقامة احتفالات تسمى (ليلة المرماح) وتضم حلقات الذكر ومدح الرسول والتواشيح الدينية والتحطيب ولعب العصا ورقص الكف، كما تقوم كل قبيلة بذبح عجل وتجهيز الطعام للوفود».
وتأخذك الرحلة كذلك، إلى مدن كثيرة منها الأقصر، وقنا، وجرجا، ودار السلام، والترعة الفاروقية، وكوم أمبو، وبنبان، وإدفو، وسوهاج، وتزور متاحف مثل متحف سوهاج، ومعبد ميريت آمون، ومقابر الحواويش، والدير الأحمر، والدير الأبيض، وتصعد الجبال، وتقضي يوماً تتأمل الطبيعة من خلال زيارة الجزر.
وتجذب صور «المسجد العمري» بمدينة قوص عشاق العمارة الإسلامية، حيث يعد من أقدم مساجد الجنوب، حتى لقبه العلماء بـ«أزهر الصعيد»، ووسط صور الحارات والأزقة والمباني العتيقة تأخذك صور الرحلة إلى معصرة «زارع»، وعمرها مئات السنين، وهي الوحيدة المتبقية في مصر التي تستخرج الزيوت بطريقة بدائية اعتماداً على حجر الجرانيت وألياف النخيل.
وحرصاً من فريق الرحلة على توثيق التراث قاموا بزيارة أماكن تشتهر بالحرف اليدوية مثل منطقة «البلاص» في قرية «نجادة» وهي منطقة ثرية بالأفران العتيقة لصناعة الفخار.
وعن مكان إقامتهم يقول ياسر: «في كل الأمكنة كنا ننزل غالباً في منازل الأهالي، التي تحتوي معظمها على ما يعرف بـ(المضيفة)، وذلك بهدف معايشتهم عن قرب وتوثيق عاداتهم وتقاليدهم ومطبخهم، إذ إننا نهتم بالنواحي الثقافية والاجتماعية والفنية إلى جانب الآثار».
ويقول محمد صبري، مهندس نظم معلومات، وأحد المشاركين في الرحلة لـ«الشرق الأوسط»: «تلبي رحلات الصعيد شغف السياح بالسلام الداخلي حيث تعانق الجمال والتراث معاً، كما تلائم المصورين، الذين يبحثون عن تكوينات مميزة وغير مألوفة، لذلك سأضع الصور والتسجيلات على صفحتي الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، كي يراها المتابعون لي من مختلف أنحاء العالم، لتحفيزهم على زيارة جنوب مصر، كما أننا أردنا أن نلفت أنظار وزارة السياحة المصرية لإدراج أماكن كثيرة بالصعيد على خريطتها السياحية».
رحلات شبابية لاستكشاف «الصعيد الجواني» في مصر
تحتفي بالتراث الإنساني لأهل الجنوب
رحلات شبابية لاستكشاف «الصعيد الجواني» في مصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة