في أول أيام مهرجان الفيلم بمراكش... فان غوخ يرسم ضوء الشمس

افتتاح الدورة 17 بحضور نجوم مغاربة وعالميين

لجنة تحكيم المسابقة الرسمية
لجنة تحكيم المسابقة الرسمية
TT

في أول أيام مهرجان الفيلم بمراكش... فان غوخ يرسم ضوء الشمس

لجنة تحكيم المسابقة الرسمية
لجنة تحكيم المسابقة الرسمية

ربما لم يكن هناك أفضل من فيلم من قيمة وتوجه «عند بوابة الخلود» (الولايات المتحدة - فرنسا) لمخرجه جوليان شنايبل، ليفتح شهية المشاهدة أمام عشاق الفن السابع، من المشاركين والمتابعين لفعاليات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، الذي انطلق، مساء أول من أمس، في دورته الـ17. بحفل افتتاح أعاد التظاهرة إلى دينامية اشتغالها من جديد، «بعد مرور سنة عرفت توقف المهرجان»، وهو توقف قال عنه الأمير مولاي رشيد رئيس مؤسسة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، في كلمة تقديم دورة هذه السنة إنه قد «أملته ضرورة التأمل وإعادة تحديد هويتنا».
استعاد البساط الأحمر للتظاهرة عادة استقبال المدعوين والضيوف، من شتى أنحاء العالم. منهم من وزع التحايا على الجمهور ورسم ابتسامة على المقاس، ومنهم من أخذ راحة الاقتراب أكثر من جمهور المهرجان، خصوصاً من بين النجوم المغاربة والعرب. كانت يسرا وليلى علوي من أبرز المدعوين الذين سرقوا الأضواء وتفاعلوا مع الجمهور الذي ملأ الجنبات المؤدية إلى قصر المؤتمرات في ليلة الافتتاح.
مع توالي أيام التظاهرة، سيكون الجمهور مع نجوم طبعوا السينما العالمية: النجم الأميركي روبير دي نيرو، مثلاً، الذي اختار مهرجان مراكش أن يحتفي به في مناسبتين: فقرة «التكريمات» و«محادثة مع...»، سيكون واحداً من كبار نجوم السينما العالمية، الذين سيمنحون للتظاهرة صدى إضافياً.
انطلق حفل الافتتاح باستعراض سياق تنظيم الدورة وبرنامج فقراتها، مع تخصيص حيز لتقديم مشاهد من قائمة الأفلام الـ14 المشاركة في المسابقة الرسمية. قبل أن يتم تقديم أعضاء لجنة التحكيم، التي تحدث رئيسها المخرج الأميركي جيمس غراي عن مشاعره اتجاه المغرب والسينما ودورها في منح هامش لتناول قضايا العالم، ليمر الجميع إلى مشاهدة فيلم «عند بوابة الخلود»، الذي يحكي سيرة الرسام الهولندي الشهير فينست فان غوغ، وذلك في الوقت الذي كان فيه جمهور آخر، بساحة جامع الفنا، على موعد مع عرض فيلم «كورصة» لمخرجه عبد الله فركوس، الذي لعب، أيضاً، دور البطولة إلى جانب كل من بشرى أهريش وخلود وربيع القاطي، وذلك ضمن فقرة أفلام الساحة، التي تعرف متابعة جماهيرية كبيرة.
فيلم الافتتاح الرسمي، الذي هو من بطولة وليم دافوي في دور فينسنت فان غوغ، وروبرت فريند في دور ثيو فان غوغ، وأوسكار إسحق في دور بول غوغان، وإيمانويل سينر في دور مدام جينو، الذي شهد تألق وليم دافوي، بشكل لافت، تحاشى الشكل التقليدي للأفلام التي تحكي سير الأشخاص، ليخلق عملاً ذا حساسية فنية صرفة في محاولة لسبر أغوار فكر هذا الفنان الشهير. لذلك لم يكن أمام المتفرجين إلا أن ينتبهوا للحوارات ويرحلوا خلف الكاميرا، تحملهم موسيقى تصويرية جاءت متناغمة مع حركات وسكنات أحداث الفيلم.
هرباً من أجواء الشمال وضوئها الباهت، يحل فان غوغ، في 1888، بمدينة آرل المتوسطية، التي سيدشن فيها المرحلة الأكثر إشراقاً في حياته الإبداعية. كان يبدي ولعاً شديداً بالمناظر الطبيعية والأشياء البسيطة، وبالأشخاص الذين يرسمهم، لكنه ظل بالنسبة إليهم مجرد غريب. وبدلاً من إدراك حساسيته، كان من هم حوله لا يرون فيه سوى الجنون. فالجمال الذي كان يولد لديه النشوة كان قبحاً في نظر الآخرين. وقد وجد المخرج جوليان شنايبل في الممثل وليم دافوي التجسيد الأمثل للجانب الهوسي والضعيف في شخصية فان غوغ، بينما ساعدت الكاميرا، التي تكاد لا تستقر على زاوية معينة، من جهة، ودقة الصوت، من جهة أخرى، في إبراز حالة الجموح الفني التي كانت تستبد به.
في أكثر من مشهد، يقدم الفيلم إجابات وحوارات تنقل لفكر ورؤية فنان مبدع بتجربة متفردة. حين سأل أحدهم الفنان في الفيلم: «ماذا ترسم؟»، أجاب «ضوء الشمس»، ملخصاً علاقته بالطبيعة ناقلاً لتوجهه ورؤيته الفنية، بعد أن قال، في مشهد سابق، ينقل لحيرة المبدع بين العامة: «ما أراه لا يراه أحد وهذا يخيفني. أظن أنني أفقد صوابي. لذلك، أقول لنفسي: يجب أن أرى ما أراه لأجل إخوتي من البشر الذين لا يرونه. إنه امتياز. يمكنني إعطاؤهم الأمل. أحب مشاركة رؤيتي مع من لا يمكنهم رؤية ما أراه، لأن رؤيتي أقرب إلى حقيقة العالم. يمكنني جعلهم يشعرون بمعنى أن تكون حياً. لا حياة من دون رسم».
وحين سيسأله أحدهم «هل كل الرسامين مجانين»، سيرد قائلاً: «فقط، الأفضل منهم». قبل أن يضيف، في أحد مشاهد الفيلم، متحدثاً عن رسوماته ولحظات الإبداع التي يعيشها: «أنا لوحاتي ولوحاتي أنا. حين أرسم أتوقف عن التفكير، وأشعر أنني صرت جزءا من كل ما هو خارج ذاتي وداخلها. كنت أريد كثيراً اقتسام ما أراه، وكنت أظن أن علي تعليم الآخرين كيف ينظرون إلى العالم. لكن، لم أعد أعتقد هذا. لم أعد أفكر سوى في علاقتي بالخلود». وحين سئل عن معنى الخلود، أجاب: «ما تقوله هو ميراثك تتركه للعالم. إنه رسمك، وإلا فلماذا يصلح الفنان. حين أرسم، أكون سعيداً في أغلب الأحيان، فقط حين أفشل. يتعين الكثير من التدمير والكثير من الفشل قبل النجاح في رسم لوحة».
هكذا، توفق الفيلم في رسم سيرة فنان لم يجد من بين مجايليه من يؤمن بقيمته واختياراته الفنية. لذلك، لم يجد فان غوغ، في الفيلم، إلا أن يقول: «لعل الله جعلني رساماً لأناس لم يولدوا بعد. في الحياة ينبغي أن نزرع أما الحصاد ففي مكان آخر».
ثاني أيام التظاهرة، شهد دخول فيلمين غمار المنافسة على الجوائز الخمس: «دجوي» (النمسا) لمخرجته سودابيه مرتضائي، و«الفتيات الحسناوات» (المكسيك) لمخرجته أليخاندرا ماركيز أبلا.
ويتنافس، ضمن المسابقة الرسمية للدورة، 14 فيلماً، من ألمانيا والنمسا وبلغاريا وصربيا والأرجنتين والمكسيك والولايات المتحدة والصين واليابان ومصر والمغرب وتونس والسودان، ستة منها من إخراج نسائي، وذلك للفوز بالجوائز الخمس: النجمة الذهبية (الجائزة الكبرى للمهرجان) وجائزة لجنة التحكيم وجائزة أفضل إخراج وجائزة أفضل دور نسائي وجائزة أفضل دور رجالي.
يشار إلى أن برنامج دورة هذه السنة من التظاهرة، التي تعود إلى جمهورها بـ«أهداف جديدة» تمكنه من «حشد دينامية التغيير الرامية إلى إرساء تنظيم جديد وأدوات مبتكرة تستوعب المستجدات المتسارعة في العالم الرقمي خدمة لرؤية المهرجان وأهدافه»، و«المضي قدماً في المهمة التي رسمها لنفسه، متمثلة ليس فقط في النهوض بالصناعة السينمائية المغربية، بل أيضاً فتح نافذة مشرعة على سائر الثقافات، وهي خاصية متأصلة في الطابع الكوني للفن السابع»، يتضمن عرض نحو 80 فيلما من 29 دولة، وعدة فقرات، تشمل «المسابقة الرسمية» و«السهرات المسائية» و«العروض الخاصة» و«القارة 11» و«بانوراما السينما المغربية» و«الجمهور الناشئ» و«عروض جامع الفنا» و«عروض المكفوفين وضعاف البصر» و«التكريمات».


مقالات ذات صلة

داوود عبد السيد... «فيلسوف السينما» صاحب «العلامات» الفريدة

يوميات الشرق المخرج المصري داوود عبد السيد (وزارة الثقافة)

داوود عبد السيد... «فيلسوف السينما» صاحب «العلامات» الفريدة

منذ حضوره الأول اللافت بفيلم «الصعاليك» عام 1985، أعلن المخرج المصري داوود عبد السيد، الذي غيّبه الموت اليوم (السبت)، عن مدرسة إخراجية جديدة.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق محمد نزار (مهرجان البحر الأحمر)

محمد نزار: «غرق» يطرح أسئلةً صعبةً عن الحب والإنكار العائلي

في فيلم «غرق»، يقدّم الممثل الأردني محمد نزار أداءً مركباً في أولى تجاربه بالبطولة المطلقة، مجسداً شخصية «باسل»، المراهق العبقري المنعزل اجتماعياً.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من فيلم «هي» (المركز القومي للسينما)

«هي»... وثائقي مصري يستدعي سيرة «امرأة ملهمة»

لم يكن العرض الخاص للفيلم الوثائقي «هي» مثل كل العروض السينمائية المعتادة، إذ بدا عرضاً استثنائياً لحضور بطلته الحقيقية.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق من «هجرة» لشهد أمين (بيت أمين برودكشنز)

حصاد أفلام عام 2025

السينما في 2025 كانت أكثر جرأة من الأعوام الأخيرة الماضية وعلى أكثر من وجه.

محمد رُضا (بالم سبرينغز (كاليفورنيا))
يوميات الشرق المخرج داوود عبد السيد (أرشيفية - أ.ف.ب)

رحيل داوود عبد السيد مخرج «الكيت كات» عن 79 عاماً

أعلنت الصحافية والكاتبة كريمة كمال زوجة المخرج داوود عبد السيد، وفاة زوجها اليوم (السبت)، بعد صراع مع المرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
TT

«البحر الأحمر السينمائي» يشارك في إطلاق «صنّاع كان»

يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما
يتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما

في مسعى لتمكين جيل جديد من المحترفين، وإتاحة الفرصة لرسم مسارهم المهني ببراعة واحترافية؛ وعبر إحدى أكبر وأبرز أسواق ومنصات السينما في العالم، عقدت «معامل البحر الأحمر» التابعة لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» شراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»، للمشاركة في إطلاق الدورة الافتتاحية لبرنامج «صنّاع كان»، وتمكين عدد من المواهب السعودية في قطاع السينما، للاستفادة من فرصة ذهبية تتيحها المدينة الفرنسية ضمن مهرجانها الممتد من 16 إلى 27 مايو (أيار) الحالي.
في هذا السياق، اعتبر الرئيس التنفيذي لـ«مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي» محمد التركي، أنّ الشراكة الثنائية تدخل في إطار «مواصلة دعم جيل من رواة القصص وتدريب المواهب السعودية في قطاع الفن السابع، ومدّ جسور للعلاقة المتينة بينهم وبين مجتمع الخبراء والكفاءات النوعية حول العالم»، معبّراً عن بهجته بتدشين هذه الشراكة مع سوق الأفلام بـ«مهرجان كان»؛ التي تعد من أكبر وأبرز أسواق السينما العالمية.
وأكّد التركي أنّ برنامج «صنّاع كان» يساهم في تحقيق أهداف «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» ودعم جيل جديد من المواهب السعودية والاحتفاء بقدراتها وتسويقها خارجياً، وتعزيز وجود القطاع السينمائي السعودي ومساعيه في تسريع وإنضاج عملية التطوّر التي يضطلع بها صنّاع الأفلام في المملكة، مضيفاً: «فخور بحضور ثلاثة من صنّاع الأفلام السعوديين ضمن قائمة الاختيار في هذا البرنامج الذي يمثّل فرصة مثالية لهم للنمو والتعاون مع صانعي الأفلام وخبراء الصناعة من أنحاء العالم».
وفي البرنامج الذي يقام طوال ثلاثة أيام ضمن «سوق الأفلام»، وقع اختيار «صنّاع كان» على ثمانية مشاركين من العالم من بين أكثر من 250 طلباً من 65 دولة، فيما حصل ثلاثة مشاركين من صنّاع الأفلام في السعودية على فرصة الانخراط بهذا التجمّع الدولي، وجرى اختيارهم من بين محترفين شباب في صناعة السينما؛ بالإضافة إلى طلاب أو متدرّبين تقلّ أعمارهم عن 30 عاماً.
ووقع اختيار «معامل البحر الأحمر»، بوصفها منصة تستهدف دعم صانعي الأفلام في تحقيق رؤاهم وإتمام مشروعاتهم من المراحل الأولية وصولاً للإنتاج.
علي رغد باجبع وشهد أبو نامي ومروان الشافعي، من المواهب السعودية والعربية المقيمة في المملكة، لتحقيق الهدف من الشراكة وتمكين جيل جديد من المحترفين الباحثين عن تدريب شخصي يساعد في تنظيم مسارهم المهني، بدءاً من مرحلة مبكرة، مع تعزيز فرصهم في التواصل وتطوير مهاراتهم المهنية والتركيز خصوصاً على مرحلة البيع الدولي.
ويتطلّع برنامج «صنّاع كان» إلى تشكيل جيل جديد من قادة صناعة السينما عبر تعزيز التعاون الدولي وربط المشاركين بخبراء الصناعة المخضرمين ودفعهم إلى تحقيق الازدهار في عالم الصناعة السينمائية. وسيُتاح للمشاركين التفاعل الحي مع أصحاب التخصصّات المختلفة، من بيع الأفلام وإطلاقها وتوزيعها، علما بأن ذلك يشمل كل مراحل صناعة الفيلم، من الكتابة والتطوير إلى الإنتاج فالعرض النهائي للجمهور. كما يتناول البرنامج مختلف القضايا المؤثرة في الصناعة، بينها التنوع وصناعة الرأي العام والدعاية والاستدامة.
وبالتزامن مع «مهرجان كان»، يلتئم جميع المشاركين ضمن جلسة ثانية من «صنّاع كان» كجزء من برنامج «معامل البحر الأحمر» عبر الدورة الثالثة من «مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي» في جدة، ضمن الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) حتى 9 ديسمبر (كانون الأول) المقبلين في المدينة المذكورة، وستركز الدورة المنتظرة على مرحلة البيع الدولي، مع الاهتمام بشكل خاص بمنطقة الشرق الأوسط.


رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».


ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».