تهيمن مواضيع التطرف الديني والمشاكل الناتجة عنها وقضاياها السياسية والاجتماعية المتبعثرة على سفوح المجتمعات العربية على عدد كبير من الأفلام العربية المشتركة في الدورة 62 لمهرجان «أيام قرطاج السينمائية».
هذا مفهوم أسبابه ودواعيه كوننا نعيش حالات غير مسبوقة يجد فيها الإنسان العربي نفسه محاصراً بمفاهيم متضاربة وبمواقف متناقضة بعضها داخلي وبعضها خارجي والجميع مسيس يخدم أطرافاً مختلفة.
وإذا كانت هناك طفرة عددية ملحوظة من الأفلام التي تتناول هذا الوضع، فإن مردود ذلك عائد إلى أن الجمهور الشاسع يريد أن يشاهد بعض ما تنضح به هذه المواقف من اتجاهات. فيلم رضا الباهي الأخير إلى الآن «زهرة حلب» الذي لم يشأ التورط في سياسة التجاذب حول الوضع السوري لكنه دار عن امرأة (هند صبري)، تبحث عن ابنها الشاب الذي ترك تونس للالتحاق بفصيل متطرف في سوريا استمر عرضه 17 أسبوعاً في تونس. وحين سؤل المخرج أكد أنه أكثر أفلامه نجاحاً جماهيرياً.
لم يكسر هذا الرقم القياسي بالنسبة إلى عروض تونس سوى فيلم كوثر بن هنية «على كف عفريت» الذي لم يتناول موضوع التطرف الإسلامي، بل آخر له علاقة بموقف الرجل من المرأة علماً بأن في هذا الموقف جزء من ذلك التطرف ذاته. الفيلم هو «على كف عفريت» الذي أنجز 18 أسبوعاً من العرض المتواصل.
تسجيلي
على شاشات المهرجان الحالي هذا التطرف موضوع مطروح في أكثر من منوال وضمنه الواقع الأمني لجبهة القتال السورية. هذا متمثل بفيلم «عن الآباء والأبناء» لطلال الديركي المعروض في مسابقة الفيلم التسجيلي الطويل.
هذا الفيلم سبق له وأن نال جائزة أفضل فيلم تسجيلي غير أميركي من مهرجان «صندانس» قبل نحو عام. وطريقة شغل مخرجه تمنحه بعض مبررات الفوز، لكن من دون مشاهدة باقي الأفلام التسجيلية الأخرى لن يمكن لنا تحديد ما إذا كان سبب إيداعه الجائزة الأولى عائد إلى الموضوع أساساً أو إلى معالجته الفنية والأرجح هو الاحتمال الأول.
إنه فيلم يلتقي وتفكير المتطرفين حتى من بعد أن يعلن في البداية أنه اضطر لكي يدعي أنه مصور إخباري متطرف لكي يستطيع الالتحاق بهم من دون مخاطرة. لكن رسالة الفيلم تصب كلها في خانة المتطرفين، مما يجعل موقف المخرج الخاص غائباً أو مغيباً بعدما ضاع ما بين الإعلان الأول وما يختزنه من مضامين فعلية في الفيلم.
في الوقت ذاته، ليس كل ما يعرضه يمكن اعتباره تأييداً للمتطرفين وبالتالي، وبطريقة تلقائية، مؤيداً للنظام. هناك كثير من الأسى المستخرج من المشاهد، خصوصاً لناحية كيف يُمحي الآباء سنوات البراءة عن أبنائهم من دون إدراكهم. يكونون في ذواتهم الرغبة في العنف والقسوة كسبيل وحيد للتعبير وللعمل، مما يزيد من تباعد الجيل المقبل عن الإلمام بجهاد من نوع آخر كالعلم والثقافة.
إذا كان هذا الفيلم يقف لصف المتطرفين (لا ذكر للنظام فعلياً فيه) فإن هناك فيلم سوري الإنتاج آخر هو «مسافرو الحرب» لجود سعيد (لم يعرض حين كتابة هذا التحقيق) يقول مخرجه إنه خارج منظومة «مع وضد» لكن الفيلم سيكشف حقيقة ذلك من عدمها.
الاغتيال
وكنت كتبت بما فيه الكفاية عن الفيلم الجزائري «ريح رباني» المندرج في خانة الأفلام التي تدور حول التطرف. وجدته مهماً في موضوعه وأقل من ذلك على صعيدي سياقه درامياً وعناصره التقنية من سواد صورة وفقر صوت… إلخ
الفيلم الذي تلاه في هذا السياق هو «فتوى» للتونسي محمود بن محمود صاحب بضعة أفلام سابقة لها رنين خاص بالسينما العربية بأسرها من بينها «عبور» و«شيش خان». الفيلم الجديد يتحدث عن التونسي إبراهيم (أحمد الحفيان) الذي عاد من وطنه الثاني (فرنسا) بعدما ورده خبر موت ابنه الشاب. تقع الأحداث في عام 2013 عندما انتشرت سطوة الجماعات الإسلامية المتطرفة. ابنه التحق بإحداها، وحاول المتطرفون الوصول إلى أم الصبي لاغتيالها كونها عضواً في مجلس الشعب وكاتبة لها قلم معادٍ لهم. حين رفض المشاركة في هذه الخطة جرى اغتياله وهو على دراجة نارية منطلقاً فهوى واعتبرت الشرطة الحادثة مرورية إذ لم تتمكن من العثور على دليل واحد يدين أحداً.
على إبراهيم مواصلة البحث والتحقيق وفي البداية هناك الخلاف بينه وبين زوجته السابقة أم الصبي مع اتهامه لها بأنها لم تحسن تربيته واتهامها له بأنه غاب عنه وقتما احتاج ابنهما إليه. بحث إبراهيم يؤكد شكوكه من أن الجماعة هي المسؤولة، وذلك يتم وسط غبار من الأحداث الأخرى التي تتضمن التعرف على آراء المتشددين وفحوى رسالاتهم قبل تطور الأحداث لمواجهات فردية بينهم وبين الأب. كما «عن الآباء والأبناء» يلتصق «فتوى» بحبكة العلاقة بين الجيلين إنما مع تغييب الابن كونه قُـتل. لكن هذه العلاقة واضحة. حب الأب لابنه دائم، وهو المبرر الأول للمضي طويلاً في فض ألغاز ما حدث و- على نحو تلقائي - الكشف عن جزء مما يدور في الحياة الاجتماعية السائدة.
لكن الفيلم ينتهي على غير ما كان يجب له أن ينتهي. الأب يدفع الثمن والقاتل ينجو كما لو أن ذلك تأكيد على أن الكلمة الأخيرة هي للمتشددين. لكن المخرج بن محمود أراد، غالباً، القول بأن المتطرفين خطر ماثل (وتفجير شارع بورقيبة يدل واقعياً على ذلك) لكن هذه الرسالة تبدو كما لو أنها تؤكد أمراً آخر وهو أنها قوة لا يمكن لها أن تُغلب وأن مصير إبراهيم هو النتاج الوحيد الممكن.
عدا ربع ساعته الأخيرة فإن «فتوى» فيلم جيد الإدارة كإخراج (ميزنسان) وككتابة وكتمثيل. كل أبطال أفلام بن محمود رجال ناضجون في محن تفرض عليهم معالجتها فردياً. هكذا كان حال يوسف (فاضل ظهيري) في «عبور» وحال سي عباس (جميل راتب) في «شيش خان»، كما حال وحيد (هشام رستم) في «قوايل الرمان».
أحمد الحفيان ينتمي إلى هذه الثلة من الشخصيات التي تصمد حيال ما يواجهها، رغم أن ما تواجهه أكبر حجماً وخطورة من إمكانياته كفرد. إلى ذلك، في فيلم بن محمود الحالي معايشة واقعية لحياة يختار لها من المشاهد (والسيناريو من كتابته) ما يفتح العين على خطر ينساب وينتشر بلا حسيب فعلي. في أحد المشاهد يذكر إبراهيم فتاة شابة محجبة بأن ما يستخدمه المتطرفون هو أجهزة ابتكرها من يعتبرونهم صليبيين جددا (بما فيه الكومبيوتر والسيارة... إلخ). وإذ يرى هؤلاء أن السياحة حرام يذكر بأن عشرات آلاف التونسيين يعيشون من وراء السياحة.
حالات أخرى
بالطبع طغيان الموضوع المدهم حول التطرف والإسلام لا يعني أن كل شيء نراه هنا يمتثل لهذا الخيط القصصي. والمخرج التونسي الآخر نجيب بلقاضي يبتعد عن كل ذلك في فيلمه الجديد (الثاني له بعد «باستاردو» قبل أربع سنوات) «في عينيا». كما إبراهيم في «فتوى» هناك عودة. لطفي الشاب يعود كذلك من باريس (حيث يعيش مع زوجته وينتظر طفلاً) إلى تونس ليعالج مسألة عائلية مع زوجته وابنهما. بعد ذلك يختلف الفيلمان في الحكاية على نحو ما سبق بالنسبة لفيلم «فتوى» وما سيلي في فيلم بلقاضي.
هنا للطفي ولد يعاني من مرض التوحد. ابنه الصغير من زوجته السابقة يتصرف بجنون ولا يقدر على ضبط تصرفاته أحد. المشكلة كانت حاضرة منذ سنوات لكن شقيق لطفي نبهه إلى أن مصير الولد في خطر بعدما طالبت خالته بتبنيه.
هذا ما يقودنا إلى فيلم جيد التكوين بصرياً مع قدر من ثغرات التصرف في الكتابة كان يمكن لو عولجت أن تساعد في تنويع الحدث الماثل والمتكرر ومفاده سعي الأب لفهم ابنه وتأخره في ذلك الفهم إلى أن يجد السبيل في الصبر والملاحظة وإيجاد السبيل (الصعب) للتواصل معه.
الناتج في النهاية فيلم مختلف عن «باستاردو» ولو أن الفيلمين يدوران حول رجل شاب قوي البدن وحول عنف ينال من بعض شخصياته. هذا العنف موزع في أرجاء الفيلم من خلال تقديم شخصية لطفي الذي لن يستطيع التحول إلى إنسان أفضل إلا إذا عاد إلى طفولته مواكباً في ذلك طفولة ابنه.
ما زال هناك فيلم تونسي ثالث يتناول حياة الزوجين حيال مشكلة عائلية. ففي «ولدي» لمحمد بن عطية بحث في محاولة أب وأم معالجة ابنهما الشاب من صداع نصفي يهدد مستقبله. فلو أضفنا هذا الموضوع لما مر سابقاً مثل «في عينيا» فإن الناتج فيلمان يجدان الحياة العائلية بعيدة عن التماثل والسعادة بوجود ابن يعاني من مرض عضال. يختلف «فتوى» بالطبع من حيث إن ذلك الابن مات قبل بدء أحداث الفيلم، لكنه لا يختلف في أن الحلقة تشمل حياة الزوجين (سابقين أو حاضرين) حيال المشكلة المتفاقمة.
ومن مرض «التوحد» إلى مرض «الجذام» كما يتبدى في فيلم «يوم الدين» لأبو بكر شوقي. هنا ذلك الرجل الذي عانى من ذلك المرض الذي ترك آثاره الواضحة على محياه وأطرافه. الآن يحاول الرجل العودة إلى قريته البعيدة التي لا يعرف طريقها يواكبه في المهمة صبي لا يعرف عائلته. المصاب بالجذام يكشف عن أن والده تركه طفلاً وهو بعودته إلى قريته يريد العودة إلى والده. المشكلة هي أنه بعدما فعل ذلك (بسهولة لا تخلو من كليشيهات الصدف) قرر أنه يريد الآن العودة إلى ضفاف القاهرة.
فيلم جيد بحد ذاته وجديد تماماً من حيث بلاغة رسالته الإنسانية لكنه يحتاج إلى بعض الحدة. مشاهد كثيرة غالبة تمضي بلا حدة أو صعوبة فعلية. كل واحد من الشخصيات المحيطة يبدو تطريزا للثوب. ليس من بينها من هو سلبي بالنتيجة، حتى لا نقول شريراً. لكن تأثير ذلك يبقى محدوداً في نهاية الأمر، والفيلم سبق وأن نال جائزة مهرجان «الجونة» في مصر وتقديراً جيداً من مهرجان «كان» حيث تم افتتاحه عالمياً في ربيع هذه السنة.