يقول الفيلسوف اليوناني القديم سقراط «العلم هو الخير والجهل هو الشر»، بمعنى أن الوقوع في الشر يأتي نتيجة الجهل، ما قد يدل على إمكانية إعادة تأهيل الأشخاص الذين وقعوا في هاوية التطرّف فانتموا لتنظيم إرهابي... لكن هل ينطبق هذا المبدأ على الإرهابيين والمتطرفين النازعين إلى العنف الدموي، لا سيما بحق المدنيين الأبرياء.
عودة المقاتلين الأجانب من مناطق النزاع تطرح مسألة ما إذا كان من الممكن إعادة تأهيلهم، وبالأخص، أولئك الذين انضموا لتنظيم متطرف نتيجة جهل تسبب بسوء اختيار. ولقد تكثف الاهتمام بأسباب الانضمام للتنظيمات الإرهابية تحديداً في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وذلك من أجل معرفة إمكانية إعادة تأهيلهم من عدمه حسب الأسباب التي أدّت لذلك التطرف، فقد كانت في السابق مرتكزة على مسببات سياسية أو دينية تحتم ضرورة القتال من أجل البقاء.
إلا أن ذلك لم يعد السبب الأبرز، لا سيما أن غالبية المجتمعات أصبح لديها وعي بمدى خطورات الجماعات المسلحة على الشعوب لتضررها من الهجمات الإرهابية. وهذا حاصل اليوم ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط أو في مناطق النزاع الأخرى، وإنما في العالم أجمع، نتيجة قدرة التنظيمات الإرهابية على نشر أعضائها في مناطق مختلفة من العالم، حتى وإن كانوا ذئاباً منفرداً دون وجود بيئة خصبة تحتضنهم.
التسلسل الهرمي للإرهابي
تختلف إمكانية إعادة تأهيل مقاتل من عدمه، حسب موقعه في التسلسل الهرمي للتنظيم، فكلما ارتقى عضو التنظيم إلى أعلى الهرم استحال إعادة تأهيله وقد تشبع بمبادئ التنظيم وأصبح جزءاً من صنّاع القرار فيه. على سبيل المثال، يستحيل تصور شخصية مثل خالد شيخ محمد، أحد أبرز قيادي تنظيم «القاعدة»، والمسؤول عن التخطيط لـ29 عملية إرهابية؛ تضمنت الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك وتفجيرات بالي في عام 2002، تائباً عن انتمائه للتنظيم، وراغباً في الاندماج في مجتمع والإصلاح فيه. وكان صيت شيخ محمد قد ذاع بعد الرد الذي نطق به في المحكمة الأميركية حين سئل إبّان محاكمته عما إذا كان يفهم أنه سيواجه عقوبة الإعدام فأجاب: «هذا ما أتمناه وما أردته طويلاً عندما حاربت الروس في أفغانستان».
مثل هذه الشخصيات التي صعدت هرم التنظيم يستحيل أن يعطى فرصة لإعادة تأهيله، إذ إنه يفضّل الموت على ذلك. كذلك يستحيل تصوّر احتمال إعادة تأهيل أمثال الناطق باسم تنظيم داعش الإرهابي «أبو محمد العدناني» الذي قتل في عام 2016. وقد دشّن كلمات صوتية عديدة هدفها الحث على الانضمام إلى التنظيم على نسق: «الآن الآن جاء القتال» و«قل موتوا بغيظكم». أمثال هذا وذاك شخصيات وصلت إلى قمة الهرم، وساهمت في تطوير استراتيجيات القتال والتجنيد، ولم تتحقق لها مكانة قيادية لولا تمتعها بدرجة من الثقافة والقدرة على الإقناع.
على الرغم من ذلك، ما زال يظهر من يحاول التخفيف من شيطنة الإرهابيين المتسببين بالكوارث التي أودت بحياة العديد ممن لم يستحقوا الموت. عليا غانم، والدة مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، التي رفضت على مدى سنوات عديدة التحدث عن ابنها، ظهرت أخيراً بعد مضي سبع سنوات على قتل ابنها لتصفه بأنه كان طفلاً خجولاً ومتفوقاً في دراسته، تحول إلى شخصية مندفعة وشديدة التدين في بداية عشريناته حين أصبح - حسب تعبيرها - «رجلاً آخر مختلفاً»، في إشارة إلى تأثره بـ«جماعة الإخوان» ومن ثم اعتناقه للفكر المتطرف. في هذا الكلام إيحاء بأن مؤسس «القاعدة» نفسه كان ضحية تأثره بآخرين، وكأن في ذلك وقوعاً في حلقة مفرغة من توجيه الاتهامات لتأسيس التنظيم أو من هو الجلاّد ومن يعد الضحية، إذ قد يكون الجلاّد ذاته عبارة عن ضحية هو الآخر، وإن كان ذلك في منظور والدته. أما مَن لا يحمل صفة قيادية في التنظيمات الإرهابية والمتطرفة مثل الانتحاريين العاديين فهو أقل قدرة على إقناع الآخرين بمبرراته، فعلى سبيل المثال تظهر وصية السعودي المنتمي لتنظيم داعش الذي فجر نفسه بمسجد الصادق في الكويت، عبر التسجيل الصوتي الذي ظهر له، غير مقنعة البتة. لقد كان كلامه حديثاً محشواً بآيات وكلمات مبهمة مثل «أبشروا بالدم. أبشروا بالموت»، موجهاً إياه للفئة التي قام بشيطنتها، فيما يذكر محاولاً طمأنة أعضاء تنظيم داعش هاتفاً: «أبشروا يا إخوة الدين والعقيدة فإنكم على حق وألا إن نصر الله قريب».
عامل الأزمات النفسية
من جهة أخرى تظهر التنظيمات الحديثة مثل «داعش» احتضانها لأولئك المنغمسين في أزمات سلوكية شخصية أو نفسية، وكأن الانضمام لجماعة ستنتشله من حالة الوهن التي يمرّ بها حتى وإن كان مجرد مجرم ليست له توجهات دينية أو سياسية مفضية للإرهاب.
ولقد لوحظ هذا الأمر من خلال عمليات «الذئاب المنفردة» التي تبدو أشبه بعمليات إجرامية عادية مثل حالات الطعن والدهس، على نسق ما قام به الإرهابي الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف (21 سنة) في باريس وقد أظهر ميلاً سابقاً للتطرف، من طعن للمارة بالقرب من دار الأوبرا بباريس. ولقد تبنى تنظيم داعش الحادثة مع أنها كانت عملية عشوائية هوجاء. كذلك شن البريطاني خالد مسعود (52 سنة) هجوماً انتحارياً أخرق أمام مبنى البرلمان البريطاني أسفر عن مقتله إلى جانب مقتل ثلاثة آخرين، ولم تتجاوز سوابقه عمليات إجرامية مثل حمل سلاح أو اعتداء على أفراد دون أي دليل على ميله للتطرف. وهذا ما يشير إلى عامل الأزمات النفسية والسلوكية لـ«الذئاب المنفردة» المغرر بها، والمتأثرة بالتنظيمات الإرهابية، ومنها إشكالية شعور بعض الأفراد المنتمين للأقليات بالنبذ في تلك المجتمعات، وهنا تبرز أهمية احتضانهم ودمجهم في المجتمع.
هذا الجانب الأخير تفاوتت طرق معالجته بالأخص مع عودة المقاتلين الأجانب من مناطق النزاع، ما بين التعامل الناعم والعقاب التأديبي الذي وصل إلى سحب الجنسيات ومنع العودة إلى أوطانهم. وتعتبر «مذكرة روما لإعادة تأهيل المجرمين في عام 2012» من أبرز المساعي العالمية الجدية لسن قوانين دولية غير ملزمة تؤيد الدول المكافحة للتطرف في جهودها من أجل التخلص من التطرف في السجون. ومن جهة أخرى، ظهرت وطبقت تجارب عدة دول اختارت أسلوب القوة الناعمة لمكافحة التطرف مثل «برنامج المناصحة السعودي» الذي أسس في المملكة العربية السعودية عام 2006، وتضمن البرنامج إعادة تأهيل المتطرفين من خلال «المناصحة»، ومن ثم تزويدهم بالمهارات الوظيفية وكذلك إعادة دمجهم في المجتمع. وثمة دول أخرى اختارت اعتماد نهج مماثل منها سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا.
ويرى خبراء في هذا المجال أنه لا بد من معرفة خلفيات وحيثيات انضمام المقاتلين للتنظيمات المتطرفة المنساقة نحو الإرهاب. ومن الضروري أيضاً معرفة ما إذا كان سبق لمن يوقفون بتهم الإرهاب اقتراف أعمال جنائية سابقة تستلزم محاكمتهم عليها، من أجل محاولة اكتشاف ما إذا كانت لديهم قابلية ارتكاب هجمات إرهابية، أم إن ما فعلوه جاء نتيجة للتضليل والتغرير بهم، أو حتى وجود ظروف جعلتهم في بيئة إحباط وتطرف كحال أبناء الأهالي القاطنين في مناطق النزاعات الساخنة مثل سوريا والعراق. والمعروف أن كثيرين ممن يشكلون الفئة الأخيرة أجبروا رغم إرادتهم على الانضمام للتنظيمات المتطرفة في نطاق سعيها لتعويض نقص عدد المقاتلين في صفوفها، وهو ما حدث لـ«داعش» بعد استهدافه من قبل قوات التحالف الدولية.
ثم إن هناك كثيرين من أبناء المتطرفين العائدين من مناطق النزاع تأثروا بمشاهد العنف، وظهرت أيضاً أساليب استقطاب عديدة للأطفال من أجل أدلجتهم وإنتاج جيل جديد أكثر بطشاً وقسوة ممن انضم للتنظيم في سن كبير، لا سيما أن من الأصعب إقناع شخص نشأ على العنف والتطرف بأن تلك السلوكيات لا أخلاقية وغير صائبة إذا كان أحد والديه منتمياً للتنظيم، أو جرى اختطافه وتربيته عليه.
إن البيئة تعد مكاناً خصباً لنمو التطرف أو درئه، وهذا ما لوحظ أخيراً في الهجمات التي استهدفت كنائس في مدينة سورابايا الإندونيسية حين نفذت أسرة إندونيسية بأكملها لتشمل الأم والأطفال الهجمات الانتحارية. إن «أدلجة» أسرة بأكملها تجعل من الصعب إقناع مرتكبي العمليات الإرهابية بلا أخلاقيتها، وهذا بعكس الحالات التي تلقى رفض المجتمع المحيط بها، مثل ما حدث مع والد الإرهابي السعودي فواز عبد الرحمن الحربي، حين تواصل الوالد مع السلطات الأمنية السعودية نتيجة ارتيابه في تصرفات ابنه، بعدما حمل أسلحة وغادر منزله من أجل تنفيذ عملية إرهابية بمحافظة البكيرية في السعودية. وكانت النتيجة القبض عليه والإشادة بذلك إعلامياً. مثل هذه الواقعة تؤكد ضرورة الاهتمام بكسب القلوب والعقول في أي مجتمع، والتأكيد على رفضه للإرهاب من أجل منع احتضان أهالي ذلك المجتمع أي منتم للتنظيمات الإرهابية.