أراد البروفسور محمود شريف بسيوني أن يصل بي إلى خلاصة، حول الفرق بين صاحب السلطة الذي تبدو قراراته مباشرة وواضحة على اختلافها، سواء كانت سياسية في الأزمات الدبلوماسية أو قرارات عسكرية، وبين أصحاب النفوذ. وقد توصل بسيوني خلال حياته وما مرّ به من تجارب، إلى اعتبار نفسه، في مناسبات عدة، من أصحاب النفوذ.
ومن أهم التجارب التي تحدث عنها، دوره في أزمة الرهائن الأميركيين في إيران سنة 1978، وفي انتقال شاه إيران إلى مصر ليقيم فيها كلاجئ سياسي، واعتماد الخارجية الأميركية على استشاراته في هذه المسألة، وكذلك في قضية الرهائن واحتمال محاكمتهم آنذاك، كما عرفنا بسيوني وعبر سرد ممتع، على الفرق بين مرتبتي «الأسرار» و«الأسرار العليا» (توب سيكرتس) التي تمنحها السلطات الأميركية لمن تتعامل معهم.
لما وقع احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية في إيران، اهتم الرئيس الأميركي، جيمي كارتر بالأمر. وقد رأيته يتصرف مثل أب يحاول انقاذ أبنائه. رأيته مرات عدة، وتحدثت مع من يعملون في البيت الأبيض. كانت مشاعره العاطفية متداخلة جدا. وكان يشرف على أدق التفاصيل، ويتابع كل العمليات ويديرها بصورة شخصية، على الرغم من وجوده في البيت الأبيض.
كان هناك فريق يعمل حينها، تحت رئاسة هيرل ساندرس، الذي كان وكيل وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. وكان مفتاح إدارة العمليات. لكن كارتر كان يتدخل شخصيا في كل التفاصيل. وبدأ يفكر في القيام بعملية عسكرية، وهي تلك التي بدأت بالطيران الأميركي وفشلت؛ لأن بعض الطائرات سقطت نتيجة زوبعة رملية. وبدأت تتردد اشاعات بأن الشباب الثوري الإيراني (الحرس الثوري)، سيحاكمون الرهائن عسكريا. وأخذت الفكرة تتبلور. كان موقف الحكومة الأميركية الرسمي، قائما على أن اتفاقية فيينا لسنة 1969، تمنع أي محاكمة، لكن الشباب الإيراني كان يرد بأنه سيحاكم أولئك الدبلوماسيين وفقا للشريعة الإسلامية.
بدأ الجانب الأميركي يتجه إلى استشارة خبراء في الشريعة الإسلامية، خصوصا في المجال الجنائي. كنت قد كتبت في هذا الموضوع قبل ذلك، ودعيت إلى مكتب مدير إدارة الشؤون القانونية في وزارة الخارجية، واستشرت في الشريعة الإسلامية، ففسرت لهم أن الشريعة الإسلامية مؤيدة لفكرة الحصانة الدبلوماسية منذ أيام الرسول؛ حيث كان يوفد الكثيرين إلى دول أخرى، ويستقبل وفودا. فهذه الفكرة موجودة وصيانة الدبلوماسي موجودة. طبعا اطمأنوا إلى هذا، وقالوا إذا كانت هناك محاكمة في إيران لا بد من الاستعداد لها. في هذا الوقت، كان ثمة خلاف في الرأي بين الاستخبارات والخارجية. فكان جهاز الاستخبارات (سي آي إيه) لا يرى ضرورة التحضير لأي محاكمات، خوفا من أن يشجع ذلك الإيرانيين، ويعطيهم انطباعا بأن الأميركيين يقبلون فكرة التطبيع، بينما كانت وزارة الخارجية تفكر بشكل آخر، وترى أن الاستعداد أفضل.
في النهاية، قامت وزارة الخارجية بعملها بطريقة غير مباشرة، إذ طلبت مني النظر في كيفية الدفاع، استنادا إلى الشريعة الإسلامية، وخصوصا وفق فقه الاثنى عشرية في إيران، وبالتالي بدأت العمل لتحضير هذا الدفاع، وكانت الأمور تجرى بسرية. ومن ضمن ما تعرضت له مما لا يخلو من طرافة، أن منحتني السلطات الأميركية صلاحية مرتبة السر، وهناك السر الأعلى أي «توب سيكرت»، ولم أكن أفهم أن مرتبة السر هي أدنى مستوى؛ فحتى السكرتيرات العاملات في جهات حكومية لهن مرتبة السر. لكن كل ما كنت انتجه من أعمال كان يصنف باعتباره «سرا أعلى» (توب سيكرت). ولم أكن أفهم ذلك، بالإضافة إلى أنني لا أستطيع الحصول على عملي أو توزيعه على آخرين، وليس من حقي التحدث عنه. واستمريت، وانتهت أزمة الرهائن بالتفاوض بين كارتر، في آخر أيام رئاسته، وحكومة إيران الإسلامية. وانتهى الأمر بالإفراج عن الرهائن.
أثناء مرحلة احتجاز الرهائن، كان الشاه قد جاء إلى الولايات المتحدة للعلاج، فقد كان مصابا بالسرطان. بدأت معالجته وسط ضغوط كبيرة على أميركا، التي كانت تتخوف من تصعيد يقوم به الحرس الثوري. فاتفقت واشنطن مع بنما التي كان يحكمها وقتها الجنرال توريخوس، على نقل الشاه إلى مستشفى هناك؛ حيث توجد منطقة عسكرية أميركية ومستشفى، فنقل إليه الشاه، وبهذه الطريقة جرى تخفيف العبء عن الولايات المتحدة. كان عدد الرهائن الحقيقي 59، وكانت أميركا تكرر حينذاك انهم 76؛ لأن عددا منهم تمكنوا من الفرار، ومنهم من هرب عبر سفارة كندا واختبأ فيها. ولم ترد أميركا الكشف عن أنها علمها بالموضوع، فاقتنع الإيرانيون بأن الأميركيين لا علم لهم بالهاربين.
في هذه الفترة، كان للمستشار القانوني للبيت الأبيض، لويد كاتلر، دور في هذه العملية. فقد استدعاني ذات يوم إلى البيت الأبيض، لكي يسألني عن الحالة في مصر، وما يمكن أن يحصل فيها لو أن الشاه ذهب إليها وحصل على اللجوء السياسي، أو لبى دعوة رئاسية؟ أجبته بأنني مطمئن تماما، إلى أن الشعب المصري سيتقبل هذا. فقال إن هناك تقارير تفيد بأن الشعب المصري لن يتقبل ذلك، وأن الإخوان سيثورون وكذلك التيار الإسلامي. فأجبته بأنه لا يوجد في مصر تيار إسلامي شيعي، وبأنني لا أعتقد أن الإسلام السني سيثور على دعوة شاه إيران، فقد كانت مصر معروفة، وقتها على الأقل، بأنها منفتحة على استقبال الرؤساء الأجانب، كما حصل فخلال الحرب الثانية.
وكان منح اللجوء تقليدا. وأبديت رأيي، بأني لا أرى أنه سيسبب أزمة داخلية في مصر. فسألني: هل سيسبب مشاكل لأنور السادات؟ أجبته بأني لا أعتقد ذلك سيسبب مشاكل للسادات أيضا. ثم تحدث قائلا إن بعض الجماعات يمكن أن تستغل هذا وتربطه باتفاقية السلام. أجبته بأن النظام في مصر ثابت، وأنور السادات ثابت في النظام، ويتمتع بتأييد شعبي جيد. فطلب مدير مكتب الرئيس كارتر هاتفبا، وكان اسمه هاملتن غوردن، فقيل له إنه خارج واشنطن في مهمة سرية للرئيس. فطلب سكرتيرة الرئيس كارتر لمقابلته، فقالت إنه في اجتماع. فأعاد سؤاله لي: هل أنت متأكد؟ قلت: نعم مائة في المائة، فرفع سماعة هاتف آخر على مكتبه، وطلب من سكرتيرته أن توصله بشخص معين، وعندما خاطبه قال له: «إتس آي غو» يعني موافقة على مسألة ما.
أنا لم أفهم ما كان يحدث. فكنت أتلكأ، بينما بدا الرجل وكأنه يقول لي دورك انتهى، يمكنك أن تذهب. فأبلغته بأني أرغب في فهم ما يحدث، فقال إن أردت ذلك، فعليك البقاء في هذا المكان لساعتين. فقلت: لا مشكلة. ثم طلب إذنا من الأمن فجلست لساعتين.
وفيما كنت أتحدث مع لويد كاتلر، لم يكن أي منا يعلم أن هاملتن غوردن، مدير مكتب الرئيس، كان في بنما في مهمة سرية للتفاوض مع الجنرال توريخوس على بقاء الشاه في المستشفى العسكري الأميركي، لأن طائرة آتية من إسبانيا إلى بنما تحمل محاميا فرنسيا يمثل حكومة إيران، ومعه أوراق تطالب بالقبض على الشاه لتسليمه كمجرم مطلوب للمحاكمة في إيران.
اتضح أنه في الوقت الذي كنت أتحدث فيه مع لويد كاتلر، لم أكن أي منا هعلى علم بأن هاملتن غوردن، مدير مكتب الرئيس، كان في بنما، في مهمة سرية للتفاوض مع الجنرال توريخوس، على بقاء شاه إيران في المستشفى العسكري الأميركي، لأن طائرة آتية من إسبانيا إلى بنما، على متنها محام فرنسي يمثل حكومة إيران، ومعه أوراق تطالب بالقبض على الشاه لتسليمه كمجرم مطلوب للمحاكمة في إيران. يبدو أن المخابرات الأميركية كانت على علم بهذا، وربما علمت لأن المحامي الفرنسي أبلغ المخابرات الفرنسية، التي بدورها أبلغت المخابرات الأميركية. المهم أنهم علموا، وكان أمام الطائرة التي تنقل المحامي ساعتين، وكان يجب أن يتخذ قرار خلال هذه الفترة الزمنية، ما إذا كان ينبغي القبض عليه حقيقة في بنما، أم يبقى في المستشفى العسكري الأميركي، أو يرحل إلى مصر. حين كنت مع فلويد كارتلر صباحا، لم يكن يعلى علم بان غوردن كان في بنما يتفاوض حول الموضوع. فقد كان يتصرف وفق تعليمات سابقة من الرئيس كارتر، ولم يبلغ بأن الرئيس أعطى تعليمات أخرى لهاملتن غوردن. وقتولّت شركة طيران من فلوريدا، يبدو أنها مملوكة للمخابرات الأميركية، بنقل الشاه وعائلته تحت حماية جوية أميركية رافقتها حتى ازورس إلى إسبانيا إلى البحر الأبيض المتوسط، ثم جاء دور الطيران المصري فتولى الأمر.
أنا لم أعلم بقية التفاصيل إلا بعد ثمانية أشهر. في البيت الأبيض، لم أكن أعلم أكثر من أن اللورد أعطى التعليمات. وكان هناك برنامج لبيير سالغر، الذي كان يعمل صحافيا في حكومة كيندي، وقد وصف مواقف الرئيس كارتر بالتخبط؛ ففي حين أمر هاملتن غوردن بالتوجه إلى بنما، أمر لويد كابلر بتصرف آخر.. وقتها فهمت.
ومع مضي الوقت، أردت أن أفهم كيف أتت دعوة الشاه إلى مصر. ففي إحدى زياراتي إلى مصر بفيما بعد، دعتني السيدة جيهان السادات إلى منزلها لتناول الشاي وكان الرئيس السادات نائما. استيقظ وحضر للجلوس معنا لتناول الشاي، وكنت قد سمعت من قبل أن دعوة الشاه لمصر كانت من جيهان فأردت التأكد. سألت السادات عن حكاية الشاه كيف تمت؛ هل كان بطلب أميركي أم أن الدعوة أتت من طرفك؟ فأجاب: لا من الأميركان ولا مني.. قال: «بالبلدي كده من عندها»، مشيرا إلى السيدة جيهان. وقال: هي كانت تتكلم مع زوجة الشاه التي قالت لها إنه مريض جدا. فقالت لم لا يأت إلى مصر، فأجابت زوجته بأن الأمر ليس بيديهما، لكن يمكن أن يكون الكلام بين زوجيهما. وأضاف أنها قالت لا مشكلة، وأعطتني سماعة التليفون، فقلت ما هذا؟ فقالت إنه الشاه. وتحدثت مع الشاه ووجهت له دعوة لمصر، وأخذها بتلقائية وشهامة من دون التفكير في أي عواقب سياسية وكأنه فلاح مصري يدعو صديقا.
النقطة التي تهم القارئ العربي المتعود على أن المجتمع العربي مبني على السلطة، هي ان المجتمع الأميركي والمجتمعات الغربية ليست مبنية فقط على السلطة ولكن على النفوذ أيضا. فهناك شخصيات لها نفوذ من دون أن تكون لها سلطة. ومن الصعب تقييم ذلك، وكيف يتجري. ما شرحته يعبر عن نفوذ أو ظروف هيأت لي أن أكون في مكان ملائم في وقت ملائم لأنتج.
34 سنة على أزمة رهائن السفارة الأميركية في طهران
قبل 34 عاما، وتحديدا في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1979، شهدت العلاقات الأميركية - الإيرانية أشهر أزمة سياسية في العصر الحديث، حينما احتل طلاب من الثوار الإيرانيين السفارة الأميركية في طهران، واحتجزوا 52 أميركيا كرهائن على مدى 444 يوما، احتجاجا على سماح الرئيس الأميركي جيمي كارتر لشاه إيران السابق، محمد رضا بهلوي، بالعلاج من مرض السرطان، في مستشفى بالولايات المتحدة.
تسببت الأزمة، التي جاءت بعد أشهر عدة فقط، على إطاحة نظام الشاه وقيام الثورة الإسلامية في إيران، في قطع العلاقات بين البلدين طوال هذه الفترة، وما تزال العلاقات مقطوعة حتى اليوم.
وقد أيد المرشد الأعلى للثورة الإمام الخميني، عملية الاحتجاز في حينها، ونادى بأن يظل الرهائن محتجزين. وكانت الدوافع وراء احتجاز الرهائن، المطالبة بعودة الشاه لمحاكمته في إيران. لكن الشاه توفى في يوليو (تموز) 1980، واستمر احتجاز الرهائن بعد وفاته لأشهر، إلى أن أفرج عنهم في يناير (كانون الثاني) 1981. ويقول مقربون إن الخميني لم يكن يعلم مسبقا بخطوة الطلبة للاستيلاء على السفارة الأميركية، فالطلبة لم يفاتحوا أحدا في الأمر سوى موسوي خوئيني، أحد مستشاري الخميني.
بعد أيام من الاحتجاز، نجح ستة من الدبلوماسيين الأميركيين في الفرار، واللجوء إلى منزل الدبلوماسي الكندي جون شيردوان، المسؤول السابق عن القنصلية الكندية في إيران، الذي تواصل، في سرية غير عادية، مع وزيرة الدولة الكندية للشؤون الخارجية فلورا ماكدونالد، ومع رئيس الوزراء الكندي جو كلارك، للمساعدة. وفي الحال، أعربا عن دعمهما للجهود، وتقرر تهريب الستة أميركيين في رحلة جوية دولية باستخدام جوازات سفر كندية.
وبالفعل أمر رئيس الوزراء الكندي بإصدار جوازات سفر كندية للدبلوماسيين الأميركيين. فقام شيردوان بمغامرة دبلوماسية خطيرة بإصدار جوازات السفر، وفيها مجموعة من التأشيرات الإيرانية المزورة، أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، كما قامت بإعداد ملابس مناسبة ومواد تغير مظهر الأميركيين.
وبعد ترتيبات سرية ومعقدة، تمكن الدبلوماسيون الستة من مغادرة إيران في يناير 1980، بفضل جوازات سفر كندية.
خلال تلك الفترة، قامت الولايات المتحدة بعملية عسكرية لإنقاذ رهائنها بعد شهور من التدريب، حيث انتقلت القوات الأميركية مدعومة بطائرات ومروحيات عدة إلی صحراء «طبس» شرق إيران، علی حين غفلة من الحكومة الإيرانية، لكن عاصفة عاتية تسببت في اصطدام الطائرات الأميركية فيما بينها، فقتل جمیع أفراد القوة، وافتضح أمرهم في اليوم التالي. وقد اعتبر الإمام الخمیني هذه الحادثة، من «المعجزات الإلهية» لتأييد الثورة الإسلامية في إيران.
أفرج عن باقي الرهائن الأميركيين في 20 يناير 1981 بعد اتفاق بين واشنطن وطهران بوساطة جزائرية، في آخر يوم للرئيس كارتر في البيت الأبيض، وأول يوم في حكم الرئيس رونالد ريغان.
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (3)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (2)
مذكرات شريف بسيوني الحلقة (1)