على حافّة الجبل الغربي في مركز ملوي بمحافظة المنيا في جنوب القاهرة، يعكف الشاب الثلاثيني عبد الهادي زروق، على ممارسة الحرفة التي ورثها عن أبيه منذ أكثر من عقدين من الزمن، حتى بات أحد أشهر الرجال المصريين القلائل في منطقته من الذين لا يزالون ينحتون القبور في باطن الجبل الذي يطلّ على قرية أبو زروق من الجانب الغربي، مع انحصار الوادي الأخضر، وهي طريقة حفر قبور أجداده من الفراعنة.
وتُعدّ حرفة نحت القبور يدوياً في باطن الجبال أو الصحراء، من المهن النادرة في مصر، بعد انتشار آلات الحفر الحديثة، وبناء المقابر أعلى سطح التربة، كما هو الحال في القاهرة الكبرى والدلتا.
«الشرق الأوسط» زارت المنطقة ورصدت طبيعة عمل عبد الهادي ووالده على مدار يوم كامل، لإلقاء الضوء على إحدى المهن الفرعونية القديمة والنادرة التي يمارسها القليل من المصريين حتى الآن، بجانب معرفة المصاعب التي تواجه هؤلاء النحاتين في محافظة المنيا.
يعمل عبد الهادي في نحت القبور بصحبة والده الستيني الذي يحرص على الذهاب إلى مقابر القرية مع بزوغ فجر كل يوم جديد، ويقطعان كل صباح نحو 500 متر، للوصول إلى مقابر القرية الفسيحة، ويسيرون بين تلال صغيرة، وأراضٍ خضراء مزروعة بالفول السوداني الذي يقاوم التصحر، ويكسر صفحة الصحراء الصفراء، بعد توسع الأهالي في الاستصلاح الزراعي.
عمل عبد الهادي اليومي، يبدأ قبل الساعة السادسة صباحاً، ويستمر حتى أذان المغرب، ويتخلله أوقات راحة في أيام الصيف القائظ لتفادي ضربات الشمس الملتهبة في فترة القيلولة.
يقول عبد الهادي: «أمارس هذا العمل مذ كان عمري 12 سنة، فأنا لم أذهب قط إلى المدارس، ولم أتعلم القراءة أو الكتابة، ونحت القبور هو مصدر الرزق الرئيسي للأسرة، ونستعين في كثير من الأحيان بابن عمي حسني في أعمال النحت والحفر، ويحصل على أجر يومي يُقدّر بـ90 جنيهاً مصرياً في اليوم الواحد (الدولار الأميركي يعادل 17.6 جنيها مصريا)».
ويشرح عبد الهادي طبيعة عمله اليومي قائلاً: «قبل أن نشرع في حفر المقبرة نختار مكاناً مناسباً يبعد عن المقابر القديمة بمساحات مناسبة، ثم نبدأ في إزالة الرمال حتى نصل إلى التربة الثابتة أو الصخرة، ونبدأ في النحت، حتى نصل إلى عمق مترين، وتبلغ مساحة تلك الحفرة التي نطلق عليها (بيّارة)، نحو مترين، وبعد الانتهاء منها ننحت غرفتين متضادتين؛ الأولى تخصص لدفن الرجال، فيما تخصص الثانية لدفن السيدات، وتفصل البيارة بين الاثنين».
المقبرة المنحوتة في باطن الجبل يبلغ عمقها مترين، ومساحتها متفاوتة، بمتوسط مترين أو مترين ونصف المتر، ووفقاً لوالد عبد الهادي، فإنّ الصّخور تُنحت بأدوات حديدية صلبة قبل رفع ناتج النحت في مقطف خاص ورفعه إلى أعلى بحبل بواسطة عبد الهادي ووالده، وتكرر هذه المسالة حتى يتم الانتهاء من رفع التراب كل فترة. ويُلقى ناتج الحفر على بعد نحو 7 أمتار من المقبرة.
يقول عبد الهادي: «ترجع فكرة نحت المقابر إلى الفراعنة، حيث يوجد بالقرب منا معبد تونا الجبل الأثري والمقابر الفرعونية المكتَشَفة به، وكلها منحوتة في باطن الجبل الصخري». وأوضح أنّهم «يبيعون المقبرة الواحدة إلى أهالي المنطقة الرّاغبين في الشراء، بسعر يتراوح بين 2700 جنيه و3000 جنيه مصري».
وعن الصعوبات التي تواجه عبد الهادي ووالده، يقول: «نواجه أحياناً صخوراً شديدة الصلابة، يستغرق نحتها وقتاً طويلاً، وأكثر من المدة المعتادة التي تستغرق نحو 8 أيام عمل متواصل، لكن في بعض الحالات الصعبة، يستغرق نحت تلك الصخور الصلبة شهراً كاملاً».
وللتغلب على نحت المقابر داخل التربة الصخرية الجافة، يستعين عبد الهادي والذين معه بالمياه، التي يحصلون عليها من إحدى الآبار الإرتوازية القريبة من مقابر القرية... إذ يسير عبد الهادي الذي يرتدي جلباباً متواضعاً، تكسوه جزيئات التراب الناعمة التي تميل إلى اللون الأصفر، بخطوات حثيثة، لملء جركن كبير بالمياه، قبل أن يحمله على كتفه ويعود به إلى موقع العمل، ويسحب خرطوم مياه قصير ويوصل أحد أطرافه بعنق الجركن ويلقي الطرف الآخر إلى ابن عمه حسني بداخل المقبرة الجديدة قبل أن يضعه في فمه ثم يشفط بقوه لسحب المياه من الجركن المرتفع، حتى تنساب إلى أسفل بسلاسة شديدة، ويوجه بعدها طرف الخرطوم يميناً ويساراً على جدران المقبرة من الداخل للتخفيف من حدة صلابة الصخور الجيرية وتسهيل عمليات النحت».
مقابر قرية أبو زروق هي المكان المفضَّل لأسرة عبد الهادي إذ يقضون بها أوقاتاً طويلة، ويسمحون للفتيات الصغيرات بالحضور معهم ومساعدتهم في الأعمال الخفيفة والثقيلة أحياناً، حيث قام عيسى أبو زروق والد عبد الهادي، بالاستعانة بابنته الكبرى لمساعدته في أعمال الحفر، عندما سافر معظم أبنائه من الرجال إلى ليبيا للعمل بها في مجال المعمار.
ابتسامة «نحّات القبور» الذي يُطلق عليه «حفّاراً»، تحولت بسرعة إلى صمت عندما تذكر أولاده الذكور الثلاثة الذين توفوا قبل ولادتهم بساعات قليلة وبعد الولادة، وأشار إلى المقبرة الخاصة بأسرته، وقال: «دفنتهم هنا، لأُدفَن معهم أنا وأبي عند مماتنا، ورفضت دفنهم بجوار المقابر من أعلى كما يفعل كثيراً من الأهالي».
9:32 دقيقه
«نحّات القبور»... مهنة نادرة تستلهم طريقة عمل الفراعنة في مصر
https://aawsat.com/home/article/1221331/%C2%AB%D9%86%D8%AD%D9%91%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%88%D8%B1%C2%BB-%D9%85%D9%87%D9%86%D8%A9-%D9%86%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D9%84%D9%87%D9%85-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D9%86%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1
«نحّات القبور»... مهنة نادرة تستلهم طريقة عمل الفراعنة في مصر
تتوارثها أجيال من عائلات بعينها
عبد الهادي ووالده أثناء رفع مخلفات حفر إحدى المقابر في المنيا («الشرق الأوسط») - عبد الهادي يعمل في نحت الصخور مذ كان عمره 12 سنة («الشرق الأوسط»)
- المنيا: عبد الفتاح فرج
- المنيا: عبد الفتاح فرج
«نحّات القبور»... مهنة نادرة تستلهم طريقة عمل الفراعنة في مصر
عبد الهادي ووالده أثناء رفع مخلفات حفر إحدى المقابر في المنيا («الشرق الأوسط») - عبد الهادي يعمل في نحت الصخور مذ كان عمره 12 سنة («الشرق الأوسط»)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة

