حمل المشهد في ملعب «لوجنيكي» الأحد الماضي، دلالات ستبقى طويلا في ذاكرة الروس. كان الرئيس فلاديمير بوتين محاطا بعشرات الألوف من أنصاره، وهو يلقي خطابا حماسيا، ويعدهم بـ«قرن من الانتصارات». كادت الهتافات الصاخبة وتظاهرة الإعلام والشعارات، أن تغطي على صوت الزعيم وهو يتحدث عن «روسيا القوية المجيدة»، وعن «بناء الدولة العظمى الساطعة». وامتزجت كلمات «زعيم الأمة» المتوج بمشاعر العنفوان القومي الهائج، الذي برز عندما وقف الجمع مشدودا وهو يردد النشيد الوطني لروسيا، ومطلعه «روسيا... القوة العظمى المقدسة». مشهد تبلورت ملامحه بعناية فائقة ليذكر بالتجمعات الحاشدة في العهود السوفياتية، رغم الفوارق الظاهرة بين الشعارات المرفوعة. لم يكن بمقدور ألوف من الحضور أن يلاحظوا اعتقال بضع عشرات استغلوا المناسبة لرفع شعار يطالب بالانسحاب من أوكرانيا. بكل تفاصيله وصخبه وتناقضاته وعنفوانه الوطني الجامح، عكس المشهد واقع روسيا 2018.
لم يعد الاهتمام في روسيا منصبا على تفاصيل حملة الانتخابات الرئاسية التي دخلت مراحلها الأخيرة. وبات واضحا أن الاستحقاق الانتخابي المقرر في 18 المقبل سيمر من دون مفاجآت تعكر صفو الفوز الكبير المتوقع للرئيس الروسي، الذي يستعد لفترة رئاسية جديدة تمتد إلى 6 سنوات. كما لا يهتم أحد باستثناء بعض أوساط المعارضة المهمشة بمسار التحضيرات و«الانتهاكات» الصغيرة أو الكبرى التي تشهدها، إذ لم يتوقف الإعلام الحكومي أمام شكاوى لجنة الانتخابات المركزية، من توظيف النفوذ الإداري والحكومي لطاقم الرئيس في خدمة حملته الانتخابية، وهو ما أظهره استخدام جيش الموظفين والإداريين والقدرات الإعلامية الحكومية الفائقة، للتركيز على تحركات الرئيس وتوظيفها انتخابيا. ويكفي أن القناة الحكومية الأولى ضربت بعرض الحائط تنبيهات لجنة الانتخابات، وأعلنت لجمهورها أنها تنوي بث فيلم «القرم» الوثائقي ليلة الانتخابات، أي في اليوم الذي يفترض بحسب القوانين الروسية أنه يوم «صمت انتخابي». والفيلم يبرز الدور الأساسي لبوتين في عملية ضم القرم، التي باتت إنجاز القرن بالنسبة إلى الرئيس، ما يحوله أداة دعاية انتخابية كبرى.
عشرات الملاحظات الأخرى التي تتحدث عنها مواقع إلكترونية للمعارضة، وتلتقطها وسائل إعلام غربية لتسليط الضوء عليها في سياق الحملات الدعائية المتبادلة بين روسيا والغرب؛ لكنها لا تحظى باهتمام داخلي، بعدما طغى عليها بقوة عنصران: أولهما الاهتمام الزائد بشخصية بوتين في «نسخته الجديدة» وهو يستعد لولاية رابعة، وحجم التغيير الذي طرأ على أدائه منذ أن تعرف عليه الروس والعالم للمرة الأولى في عام 1999. والعنصر الثاني يرتبط ببوتين أيضا، من خلال الاهتمام المنصب على الأولويات التي وضعها لروسيا على صعيد السياسة الداخلية والخارجية، وهو يستعد للتربع على عرش الكرملين في ولايته الجديدة. عندما قال الرئيس الروسي في رسالته السنوية إلى الهيئة الاشتراعية أخيرا، إن روسيا «أنجزت في عشرين عاما ما تعجز عن إنجازه بلدان أخرى في قرون»، كان يتحدث عن «قوة عسكرية خارقة تتحدى الغرب وتدافع عن البلاد»؛ لكن العبارة ذاتها يمكن أن تنسحب على التغيرات الكبرى التي طرأت على النظام السياسي وآليات الحكم في روسيا خلال عقدين، كان سيد الكرملين يمسك فيهما بكل مفاتيح القرار، وجمع بين يديه صلاحيات كان بعض القياصرة يحلم بها في عصور مضت.
بوتين بين 2000 و2018
الرجل الذي ارتبط اسمه خلال سنوات ظهوره الأولى بعمله السابق عميلا لجهاز المخابرات السوفياتية في ألمانيا، وشكل صعوده الصاروخي إلى سدة الحكم عام 1999 لغزا ما زال كثير من جوانبه غامضا حتى الآن، نجح خلال ولايتين بين 2000 و2008 في إعادة تركيب هياكل السلطة في روسيا، وإعادة بناء النظم الإدارية وأدوات السلطة التي كانت تقريبا مفقودة. إذ ليس سرا أن روسيا مع وصول الشاب النحيف قاسي الملامح إلى مقعد الرئاسة بعد تنازل الرئيس السابق بوريس يلتسن ليلة 13 ديسمبر (كانون الأول) 1999 عن الرئاسة، كانت أشبه بإقطاعيات منفصلة يحكم كل منها خليط من حيتان المال ورجال الدولة الفاسدين، وناشطي الجريمة المنظمة، ولا سلطة للمركز الفيدرالي عليها.
وفي واقع سياسي داخلي متخبط تأكله الفوضى، كانت روسيا تخسر سنويا مليون نسمة بسبب تردي الخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية، وكانت تستجدي المنح المالية من الغرب. أما في مكاتب الـ«كي جي بي» والوزارات الرئيسية في البلاد، فقد جلس مستشارون أميركيون يديرون مقدرات الدولة العظمى السابقة. عندما تذكر بوتين هذه التفاصيل في خطابه السنوي الأخير، كان يتعمد تحفيز الروس لعقد مقارنات عن أحوال روسيا في عقدين كان فيهما صاحب القرار.
وبوتين الذي ركب موجة مكافحة الإرهاب في القوقاز، في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، واستخدمها لضرب خصومه بقوة، انتقل سريعا إلى ترتيب البيت الداخلي بفرض سلطات مباشرة على الأقاليم وتطويعها، لينا في بعض الأحيان كما ظهر في تتارستان مثلا، أو قسرا في أحيان أخرى كما كان الحال في القوقاز؛ لكن في الحالين أنجز مهمته بسرعة قياسية. لكن المعضلة التي واجهت الرئيس طويلا كانت البحث عن هوية روسيا الجديدة. وفي هذا المجال انتقل بوتين من الرهان لسنوات على تعزيز الشعور القومي واستعادة أمجاد روسيا القيصرية، وتنشيط دور الكنيسة بهدف إعلاء الانتماء الوطني، إلى التغني بأمجاد الاتحاد السوفياتي أخيرا، بعدما استقر الوضع الداخلي الروسي، وعادت أحلام الإمبراطورية تسيطر على صناع القرار. في المرحلة الأولى كان الشعار الوطني المرفوع يتحدث عن روسيا كـ«قوة محافظة تعد النموذج الروسي البديل عن الليبرالية الغربية». وفي الثاني لم يعد الكرملين يخفي تطلعه إلى بسط نفوذ واسع على مناطق كانت تعد تاريخيا مساحة النفوذ الحيوي لروسيا.
واللافت في هذا السياق أن بوتين 2018 عندما تذكر أخيرا الاتحاد السوفياتي، بدا مختلفا عن بوتين 2008. وفي المرة الأولى أكد أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين، ما عكس حرصا على إبراز الخسارة الكبرى التي مني بها العالم بسبب انهيار التوازن الدولي وبدء عهد القطبية الأحادية.
لكن حديث بوتين أخيرا عكس جانبا أخيرا لـ«الكارثة» يتعلق بخسائر روسيا ذاتها. فهو لم يعر اهتماما كبيرا بتداعيات انهيار الدولة العظمى على البلدان السوفياتية السابقة وشعوبها، بقدر ما ركز على أن «روسيا فقدت 23 في المائة جغرافيا، و41 في المائة من الناتج المحلي، و39 في المائة من قدراتها الصناعية، ونحو نصف قدراتنا العسكرية». هذه النظرة تعكس بشكل جلي الطموحات الجديدة لدى بوتين وهو يكرر الحديث عن أن «لو استطعت لمنعت انهيار الاتحاد السوفياتي». في وقت انشغلت وسائل الإعلام الحكومية بالحديث عن «حنين الشعوب السوفياتية للدولة العظمى»، وأن «كثيرين مستعدون حاليا للانخراط مجددا في دولة كبرى».
بوتين يتحدى العالم بنموذج كوريا الشمالية
لا بد أن خطاب بوتين السنوي أمام الهيئة الاشتراعية سيظل محفورا في ذاكرة كثيرين، بصفته شكّل نقطة تحول أساسية تمهد لسياسات الكرملين في المرحلة المقبلة. وكما حمل الخطاب الناري الذي ألقاه بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2008، عندما قال للغرب إن صبر روسيا نفد، وإنها لن تسمح بعد ذلك بالتعامل معها كدولة مهزومة في الحرب الباردة، مقدمات لتحولات كبرى في السياسة الروسية، بدأت من جورجيا في العام ذاته، ولم تنته في أوكرانيا، ثم في سوريا، فإن الخطاب الجديد يفتح كما رأى كثيرون في روسيا على مرحلة جديدة. وأثار الخطاب الناري الذي كرس بوتين نصفه لاستعراض قدرات بلاده العسكرية «الخارقة» ردود فعل متباينة بشدة في الداخل. بين موالين أشادوا بحزمه واعتبروه يمهد لانتصارات متتالية ستفرضها روسيا العائدة بقوة إلى المسرح الدولي، ومعارضين رأوا فيها مقدمات لتقوقع روسيا على نفسها، وبدء مرحلة قاسية من العزلة الدولية، وبناء سياج حديد جديد حول روسيا.
لكن باحثين من الفريقين أجمعوا على أن التوصيف الذي يمكن أن يطلق على المرحلة المقبلة هو «نهاية الدبلوماسية» وفقا لعنوان مقالة للكاتب نيكيتا إيسايف، وهو مدير معهد الاقتصاد الحيوي، يمكن أن يشكل محتواها أبرز مثال على المخاوف الواسعة التي انتابت نخباً مالية واقتصادية، وممثلي قطاعات واسعة في روسيا بسبب خطاب بوتين.
يرى فريق من الخبراء أن روسيا عمليا اعترفت بالهزيمة على الساحة الدولية، وأقرت بفشل دبلوماسيتها. ويتذكر الكاتب أن وزير الخارجية سيرغي لافروف كان أول من لوح بالقبضة النووية لروسيا أثناء انهماك الكرملين بإعداد رسالة الرئيس إلى البرلمان. وقال: «إذا لم يتعاملوا معنا بشكل ندي ومتكافئ، فإن روسيا سترد». مشيرا إلى أن لديها القوة العسكرية، وخصوصا النووية، القادرة على الدفاع عن مصالحها. ثمة قناعة لدى أوساط بأن موسكو فشلت في فرض وجهات نظرها خلال العامين الماضيين، على الصعيدين الاقتصادي أو السياسي، وخصوصا في المناطق الساخنة التي تدير فيها الصراع. وتبرز المشكلة في أن روسيا قادرة على تحقيق انتصارات محددة؛ لكنها ليست قادرة بعد على ترجمتها سياسيا.
لذلك فإن أهم رسالة وجهها بوتين في خطابه، أن الدبلوماسية لم تعد تعمل، وروسيا ليست المذنبة في ذلك. والفكرة التالية التي يثبتها الخطاب، أن الرئيس بوتين وحده هو القادر على حماية الوطن حيال خطر حرب محتملة، أو خطر فقدان السيادة. وثمة عنصر آخر، أن بوتين يعد بأن روسيا ستحاول خلال السنوات المقبلة تهيئة الظروف لحياة أفضل للروس. وعد يلبي الرغبة الروسية الواسعة بالتغيير والإصلاح. وفقا لصحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا»، فإن «المواطن الروسي يرى الآن أن الرئيس ينوي توجيه القوة الجامحة إلى الخارج، وأن يحاول اتخاذ خطوات للتهدئة في الداخل. والناس يفضلون عموما هذه السياسة. عندما يتم التعامل معهم بود ويتم في الوقت نفسه معاقبة أشرار خارجيين، وهُم المتهمون بكل مصائب البلاد. هذا يعزز مشاعر العزة الوطنية؛ لكن اللافت أن هذا هو تحديدا سيناريو كوريا الشمالية».
هنا يبرز تباين الرهانات بين الأوساط المختلفة في روسيا. ثمة من يدعم بقوة في خطاب الحرب، وهذا فريق واسع كما يرى محللون يمتد ليشمل كل قطاعات الموظفين ورجال المال والأجهزة الأمنية والعسكرية، وفئات من المتحمسين الشباب. وثمة فريق آخر لديه مخاوف جدية من أن الإصلاحات السياسية والاقتصادية منتظرة في روسيا منذ عام 2012، ونضجت الظروف جدا لإدخال تغييرات جذرية على النظام الإداري للبلاد، ولا يقل أهمية عن ذلك ضرورة بناء علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي؛ لكن لم يحصل شيء من هذا، وأن «روسيا محشورة في زاوية اقتصادية خانقة، وعزلة دولية جيوسياسية». النتيجة التي يذهب إليها هذا الفريق أن «خطاب الرئيس لم يكن اقتصاديا، وليس عن هموم الناس؛ بل كان عن انغلاق روسيا سياسيا واقتصاديا، عن توجه البلاد نحو التقوقع والعزلة، وعن وقف الحوار مع العالم الخارجي».