حدود التوتر المصري ـ السوداني

القاهرة تتفادى التصعيد وتسعى لـ«الاحتواء»... والخرطوم مع حسم القضايا العالقة

حدود التوتر المصري ـ السوداني
TT

حدود التوتر المصري ـ السوداني

حدود التوتر المصري ـ السوداني

على مدار تاريخ العلاقات المصرية السودانية، لم تنجح الكلمات المعسولة لمسؤولي البلدين وعباراتهم الودودة التي تتحدث عن تاريخيتها الضاربة في القدم، في تصفية الأزمات، وإن لعبت دورا مهماً في تلطيفها وتسكينها، قبل أن يشتعل الوضع من جديد.
وفي الآونة الأخيرة شهدت العلاقات توتراً غير مسبوق، كان محور الخلافات فيه مثلث «حلايب وشلاتين وأبو رماد» الحدودي، والموقف من سد «النهضة» الإثيوبي، إضافة إلى اتهامات سودانية للقاهرة بدعم متمردين مناهضين لنظام الرئيس عمر البشير، وهو ما نفته مصر جملة وتفصيلاً. وبلغ التوتر ذروته مع قرار السودان، قبل نحو أسبوعين، استدعاء سفيره في القاهرة للتشاور، في قرار واجهته القاهرة، بهدوء وحذر شديدين على المستوى الرسمي، فأشارت وزارة الخارجية إلى أنها «تقوم بتقييم الموقف بشكل متكامل لاتخاذ الإجراء المناسب». واتهمت مصر دولاً إقليمية (في إشارة إلى قطر وتركيا) بالسعي إلى توتير العلاقات بين البلدين.
مع كل أزمة تنشب بين البلدين الشقيقين مصر والسودان، تثار التساؤلات، حول حدود التوتر بين البلدين، وماذا سيفضي في النهاية، هل يمكن أن ينتج عنه قطيعة دائمة.... وهل يتطوّر إلى نزاع حدودي مسلح بين شعبي وادي النيل؟
ترى الدكتورة أماني الطويل، عضو المجلس المصري للشؤون الأفريقية، التي تحدثت إلى «الشرق الأوسط» عن العلاقات المصرية السودانية، أن هذه العلاقات «لم تخرج من نفق الوضع المأزوم طوال تاريخها، وهي تقدم نموذجاً فريداً من المد والجزر في حركة دائرية تأبى أن تتقدم إلى الأمام».
- المكوّن العاطفي
وفي حين يؤكد مصدر سياسي مصري مطلع لـ«الشرق الأوسط»، أن «مصر ترغب في تهدئة الأجواء مع السودان.... وتأمل ألا يكون (السودان) مخلباً لقوة إقليمية تريد الضغط على مصر وتسميم الأجواء». تشرح الطويل أن «هذه ليست أولى أزمات العلاقات بين البلدين ولن تكون آخرها، فهذه طبيعة العلاقات بين البلدين منذ خمسينات القرن الماضي، بعضها بسبب أزمات واقعية، والآخر بسبب إدراكات مختلفة لكل طرف عن الأخر...»... غير أنها، في المقابل، استبعدت بالمطلق «أن تنهار العلاقات بين البلدين إلى حد ممارسات مسلحة مثلا»، مشيرة إلى «وجود محدّدات للعلاقات بين البلدين، أقصاها التصعيد الإعلامي والتلاسن المتبادل في التصريحات»، ومضيفة «هناك مكوّن مميز في العلاقات المصرية السودانية غير موجود في أي علاقات أخرى، وهو المكوّن العاطفي وعلاقة النسب بين الشعبين، وهي أمور من الصعب كسرها.... وحتى في حالة التلاسن بين البلدين، يكون محصورا في علاقات النخب السياسية، والإعلام بعيدا عن الشعبين.... ومرتبطة بتوافق أو عدم توافق النظامين الحاكمين في البلدين، تحت مظلة الوضع الإقليمي أو النظام الدولي».
ومن جهة ثانية، يرى المحلل السياسي السوداني محمد لطيف، أن التحفظ السوداني حول قضية حلايب وشلاتين والتحفظ المصري حول سد النهضة، هما ما أحدث التوتر بين البلدين، وأن هذه «التطورات حدثت بعد تأسيس «التحالف العربي» و«عاصفة الحزم» وأزمة سوريا مع وجود تركي في البحر الأحمر، ومع الأخبار المتداولة حول تعاون مصري إريتري، زُعم أنه موجّه ضد السودان وإثيوبيا».
والواقع أنه منذ بداية عام 2017 شهدت العلاقات السودانية - المصرية توترات مكتومة على المستوى الرسمي، إلى أن خرجت تصريحات لمسؤولين سودانيين متتالية، أظهرت مدى هذا التوتر، الذي لم يتوقف عند استدعاء السفير، بل طالبت العديد من الصحف السودانية بإلغاء اتفاق الحريات الأربع «غير المفعل»، والذي وقع بين البلدين عام 2004. وينص على إلغاء كل القيود الهجرية الخاصة بالحق في حرية الدخول والخروج والتنقل والامتلاك.
- سد النهضة... يعمّق الخلافات
إحدى أهم الأزمات التي أشعلت الخلاف بين البلدين أخيراً، هي أزمة سد النهضة الإثيوبي، إذ تتهم القاهرة الخرطوم بدعم موقف أديس أبابا في ملف السد، الذي تخشى أن يؤثر سلباً على حصتها السنوية من مياه نهر النيل، مصدر المياه الرئيسي لمصر. ولقد عبّرت الخرطوم أكثر من مرة عن اعتقادها بأن السد سيكون له فوائد. وسلكت المسلك الإثيوبي (المضاد للموقف المصري) في التحفظ عن تقرير استهلالي أعده مكتب استشاري حول التأثيرات المحتملة لبناء السد، ما أدى إلى توقف المفاوضات الفنية بين الدول الثلاث واستمرار الأزمة.
وقبل أسابيع نقلت وسائل إعلام سودانية ادعاءات بأن وزير الخارجية المصري، أبلغ رئيس وزراء إثيوبيا، طلب بلاده بدء مفاوضات ثنائية، برعاية البنك الدولي، حول سد النهضة مع استبعاد السودان من المفاوضات. وتعامل مسؤولون سودانيون مع هذه التقارير الصحافية بجدية، رغم النفي الرسمي المصري، وسط مطالب بوقف إطلاق اتفاق الحريات الأربع (الدخول، والإقامة، والعمل والتملك) مع مصر.
وفي سياق الخلافات حول سد النهضة أيضا، نفت مصر اتهامات وجهها لها السودان بالتعدّي على حصتها من مياه نهر النيل، وقال وزير الخارجية المصري سامح شكري إن السودان «يستخدم بالفعل كامل حصته من مياه النيل ومنذ فترة طويلة». وجاء ذلك ردا على تصريحات لوزير الخارجية السوداني - آنذاك - إبراهيم غندور قال فيها إن «مصر كانت على مدى السنوات السابقة تأخذ حصة السودان من مياه النيل».
الدكتورة الطويل، ترى أن مصر «تشعر بالخذلان من السودان في موقف سد النهضة، لسببين: الأول أن مصر والسودان دولتا مصب لنهر النيل، وليسا كما يقول السودان أنهما دولة ممر، وبالتالي لا بد أن تكون المصالح متطابقة»، والثاني أنه «إذا كان السودان يعول اليوم على الأمطار فنحن مقبلون على ظاهرة تصحر في هذه المنطقة من العالم، والاعتماد على الأمطار بديلا للأنهار أمر في غاية الخطورة، وبالتالي، فجعل محابس النيل العليا في إثيوبيا ليس في صالح السودان لا على مستوى وزنه الإقليمي ولا في مصالحه الاستراتيجية».
ومن جانبه، يقول الباحث المصري مشهور إبراهيم أحمد إن «الأمر اللافت أنه بدلا من أن يكون ملف سد النهضة دافعاً نحو توطيد العلاقات المصرية السودانية، في ظل الخطر، الذي يمكن أن يصيب البلدين من وراء تدشينه باعتبارهما دولتي مصب نهر النيل، فإن الأمور توترت بين البلدين، ولم تكن هناك رؤية مشتركة لمدى تأثير السد على البلدين، بل وظهرت الخلافات بين البلدين إلى العلن، وهو ما يصب بالطبع في صالح الجانب الإثيوبي ويزيد من قوة موقفه».
في المقابل، يرى المفكر السوداني الدكتور حسن مكي، أستاذ العلوم السياسية والمدير السابق لجامعة أفريقيا العالمية، أن «هناك حساسية متزايدة من موقف السودان المستقل في قضية سد النهضة.... السد لا يقام على أرض سودانية، وإنما على أرض إثيوبية». ويضيف مكي، نقلا عن وكالة «الأناضول» «ليس من سبيل لمحاسبة السودان على سياسة دولة أخرى، وإذا كانت لدى مصر تصفية حسابات في هذه القضية، فالسودان لا يريد أن يكسب عداء إثيوبيا في قضية ليس له فيها شأن». ويستطرد منتقداً «مصر تقاعست في مواقف كثيرة، مثل قناة جونقلي.... المصريون يريدون تحقيق مكاسب دون تقديم تضحيات، ما أدخلهم في مأزق سد النهضة». وللعلم، قناة جونقلي هو مشروع لإنشاء قناة ري لنقل بعض مياه بحر الجبل شمالاً لري الأراضي الزراعية في كل من مصر والسودان، وقد بدأ شقها، لكن المشروع توقف، وتحمل الخرطوم القاهرة المسؤولية.
- أبعاد إقليمية للتوتر
على صعيد آخر، شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للسودان، الشهر الماضي، وطلبه من نظيره السوداني عمر البشير منح جزيرة سواكن لتركيا «على سبيل الاستثمار»، محورا في إشعال الأزمة الأخيرة بين البلدين، رغم الصمت المصري الرسمي. إذ شنت وسائل إعلام مصرية هجوما حادا على الخرطوم، واعتبرت الطلب محاولة من السودان وتركيا لتهديد الأمن الإقليمي، وإدخال طرف جديد في معادلة أمن البحر الأحمر. وهو ما رد عليه وزير الخارجية السوداني – آنذاك - إبراهيم غندور، بالقول إن «الرئيس إردوغان يعني جزيرة سواكن، وليس كل منطقة سواكن.... والرئيس البشير وافق على الطلب التركي لتكون هذه منطقة سياحية تُعاد سيرتها الأولى، لينطلق منها الحجاج وتكون سياحة وعبادة (....) هي شراكة استثمارية بين بلدين، وهذا أمر طبيعي».
وحول هذه النقطة أبلغ مصدر سياسي مصري مطلع «الشرق الأوسط» أمس أن مصر «ترغب في تهدئة الأجواء مع السودان في هذه الآونة.... وتأمل ألا يكون السودان مخلباً لقوة إقليمية تريد الضغط على مصر وتسميم الأجواء». وشدد المصدر المطلع (الذي فضل إغفال اسمه) أن «لدى مصر مصالح دائمة وحيوية مع السودان لا تقع فقط في ملف المياه، لكنها تشمل أيضا وجودا عسكريا مصيريا في منطقة دارفور ضمن قوات حفظ السلام الدولية».
أما الدكتور هاني رسلان، رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في «الأهرام» فيرى أن الظهور التركي في وسط البحر الأحمر والمتمثل في جزيرة سواكن السودانية، رغم أنها دولة غير متشاطئة «يعد نواة لتحالف سوداني - قطري - تركي، يمتد ضلعه الرابع إلى دولة إثيوبيا، ويشكل تهديداً لمصر». ويعتبر رسلان أن ذلك يأتي كـ«حلقة من حلقات الانتقال السريع في تحالفات الرئيس السوداني عمر البشير الإقليمية والدولية، وأن التصعيد السوداني مع مصر وصل إلى إقامة تحالفات مع دول تشهد علاقتها مع مصر توترا منذ فترة وهو ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة إلى حد كبير».
وفي السياق ذاته، تعتبر الدكتورة الطويل أن «استدعاء أطراف خارجية في الأزمات مع مصر مسؤولية سودانية بامتياز، تاريخيا، ففي التسعينات استدعت إيران.... وهم يحاولون الآن الاستقواء على مصر بأطراف إقليمية عندما تكون هناك خلافات.... ومصر بدورها استطاعت من قبل أن تستوعب الوجود الإيراني في السودان في فترة حرجة بالنسبة لها، ومن ثم فإن الاستدعاء السوداني لتركيا وقطر أمر قد يقلق مصر.... لكنه لا يصل إلى حد التهديد، وهي قادرة على التعامل معه». وتشير إلى «وجود توازنات إقليمية يجب أن تراعى لأن الخروج عن هذه التوازنات الحرجة يشكل تهديدا للأمن الإقليمي والدولي، ويتسبب في صراع مباشر».
الاتهام ذاته يكرّره السودان الذي يلقي اللوم على أطراف إقليمية بتوتير علاقته بمصر، فوفقا للسفير عبد المحمود عبد الحليم، فإن «بعض الأصداء البيئية الإقليمية والدولية تقف وراء أزمة مصر والسودان حالياً». ويرى المحلل السوداني لطيف، في تصريحات لموقع «سبوتنيك» أن «التطوّرات التي حدثت بعد تأسيس «التحالف العربي» و«عاصفة الحزم» وأزمة سوريا مع وجود تركي في البحر الأحمر ومع الأخبار المتداولة حول تعاون مصري إريتري وما قيل إنه موجّه ضد السودان وإثيوبيا، كان لها دور في هذه التوترات». ويتابع «إن السودان انحاز إلى مصالحه الخاصة، بلا شك»، مشيراً إلى أنه «ليس لمصر الحق في الحديث حول علاقات السودان مع أي دولة أخرى».
- حدث نوعي
غير أن الحدث النوعي في الاتهامات، جاء عبر مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود، الذي ذكر الأسبوع الماضي، أن بلاده تتحسب لتهديدات أمنية من جارتيها مصر وإريتريا، بعد «تحركات عسكرية» في منطقة ساوا الإريترية المتاخمة لولاية كسلا بشرق السودان. هذا التصريح استدعى رداً من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نافياً وجود دعم عسكري مصري للحركات المتمردة في السودان، إذ قال السيسي «مصر لا تتآمر ولا يمكن أن تحارب أشقاءها.... وقوة الجيش المصري لا تعني الطغيان على الآخرين، وتطوير أمن قومي»، مطالباً وسائل الإعلام «بالانتباه للعلاقة مع الأشقاء». وسبق ذلك تصريح للوزير سامح شكري قال فيه إن مصر «دائما لديها أمل في أن تشهد العلاقات (مع السودان) القدر الكافي بما يراعي تطلعات الشعبين ومصلحتهما وفقا للاتفاقيات السابقة.... وهذا يتطلب جهدا وانفتاحا لسياسات تكون داعمة لهذا التوجه... وهذا تطلع مصر دائما».
هذا، ويبدو أن السودان لمس خلال الأيام الماضية حرص مصر الكامل على علاقاتها معها، كما ترك تصريح السيسي الأخير انطباعاً جيدا عن نيات مصر تجاه السودان. ففي لقائه مع السفير عبد المحمود عبد الحليم؛ يوم (الخميس) الماضي، أكد الرئيس المصري ثقة بلاده في الدبلوماسية السودانية نحو تأسيس علاقات مع دول الجوار كافة تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. وقال عبد الحليم إن البشير «وجّه بالعمل على حل القضايا العالقة مع مصر.... كما اطمأن الرئيس البشير خلال اللقاء على أوضاع الجالية السودانية بمصر».
وهنا، تقول الطويل إن مصر استطاعت أن تتعامل مع التصعيد السوداني بحكمة، لكنها ألقت اللوم أيضا على القاهرة فيما يتعلق بتجاهلها تعظيم المصالح المشتركة بين البلدين، مشيرة إلى وجود «تقصير يجب أن يعترف به، في أفريقيا بشكل عام وفي السودان بشكل خاص، منذ عشرات السنوات، وهو تقصير بدأت مصر تجني ثماره في الوقت الراهن، إذ فقدت أدواتها التفاعلية.... لكن يمكن تجاوز هذا الأمر في المرحلة المقبلة والرئيس السيسي يعمل على ذلك». وتتابع أن «مصر والسودان، لاعتبارات متعلقة بالتاريخ والجغرافيا وثوابت الأمن القومي والمصالح المشتركة بينهما، يجب أن يشكلا نموذجا لأي تكامل عربي يضع في اعتباره تحقيق طفرة اقتصادية لمصلحة رفاهية أبناء المجتمعين وتقدمهم».
-- مثلث «حلايب»... محور صدام دائم
> يشكل النزاع على مثلث حلايب وشلاتين، محور الخلافات الدائمة بين مصر والسودان، لكنه في أحيان كثيرة يستخدم للتعبير عن أزمات أخرى، متعلقة بعدم توافق رأسي السلطة في البلدين حول ترتيبات إقليمية أخرى.
تبلغ مساحة المنطقة الحدودية محل النزاع نحو 22 ألف كيلومتر، وتطل على ساحل البحر الأحمر، على الطرف الجنوبي الشرقي من الجانب المصري، وعلى الطرف الشمالي الشرقي من الجانب السوداني (جنوب مصر)، وتقع فعليا تحت السيادة المصرية. ويطلق على هذه المنطقة اسم «مثلث» كونها تضم ثلاث بلدات كبرى هي حلايب وأبو الرماد وشلاتين.
وطفت القضية لسطح الأحداث أخيراً، بعدما أعلن السودان الشهر الماضي رفضه الاعتراف باتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية السعودية، بحجة مساسها بحق السودان في «المثلث» الحدودي، لكونها اعترفت بحلايب ضمن الحدود المصرية. ولقد اعتاد السودان تقديم شكوى سنوية إلى الأمم المتحدة عن حقه في «مثلث» حلايب، بينما ترى مصر أن الأمور محسومة لصالحها ولا ترغب في مزيد من التصعيد، اعتمادا على أن السيادة على الأرض لصالحها، بما يشمل ذلك العملة المستخدمة والنظام المصرفي، والوجود الفعلي لقوات الجيش والشرطة المصرية، إضافة للمدارس الحكومية ونظام التعليم وغيرها من المؤسسات. وسبق للخارجية المصرية أن أكدت أنها «غير راغبة في النزاع حول شيء تمتلكه بالفعل، كما أنها تمتلك من الوثائق والأدلة الكافية لإثبات حقها إن اقتضى الأمر ذلك».
ولكن، مع تصاعد التوتر بين البلدين أخيراً قررت السلطات المصرية تكريس السيطرة القائمة هناك بالفعل، عبر إجراءات اتخذت بشكل لافت خلال الأسابيع الماضية، تتضمن بناء عشرات المنازل الجديدة، وإنشاء سد لتخزين مياه السيول وميناء للصيد، وزيارات لمسؤولين كبار، على رأسهم وزير الأوقاف الذي أدى صلاة الجمعة هناك، بثها التلفزيون على الهواء مباشرة. غير أن الخرطوم ترى أن الوجود المصري في المثلث هو {احتلال}.
وفي هذا الشأن يقول الدكتور هاني رسلان (مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في «الأهرام»)، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن السودان يعتمد على قرارين صدرا من وزير الداخلية عامي 1902 و1904 يتعلقان بتبعية تلك المناطق للسودان، لكنه أكد أنهما كانا قرارين إداريين لا يخصان السيادة أو يغيران في الأوضاع. وحسب رسلان «كل الأراضي التي تقع شمال خط 22 الحدودي، أراض مصرية. ومطالب السودان بحقه بتلك المنطقة لوجود قبائل تابعة له هناك، أمر غير صحيح، إذ تنتشر تلك القبائل في مصر وفي كل دول الجوار الأفريقي أيضاً».
لكن الجانب السوداني متمسك بان الحدود الادارية تحولت الى سياسية بقرار الحاكم البريطاني، ويدخل ذلك المثلث ضمن حدود السودان.
من جانبه، يقول الباحث مشهور إبراهيم أحمد إن «توتر العلاقات المصرية السودانية ليس أمراً جديداً، وللأسف لن يكون الأخير، ما دامت هناك مشكلات قائمة لم تحسم بعد، وتثار كل فترة، سواء من قبل دول أخرى، لمنع توطيد العلاقات بين البلدين والاستفادة من تأجيج الخلاف، أو لأسباب داخلية أو مكاسب انتخابية». ويرى مشهور في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن مشكلة حلايب وشلاتين تحديداً «نموذج واضح على ذلك، ولا أحد يعلم في كل مرة لماذا تتم إثارتها في توقيت معين، أو لماذا تهدأ الأزمة فجأة رغم أنها لم تحل!!، أو لماذا يحدث اشتباك إعلامي بين البلدين دون أن يكون هناك جديد على أرض الواقع يدعو إلى ذلك»، مطالباً بتشكيل لجنة بين البلدين بخصوص حلايب وشلاتين وغيرها من المشكلات القائمة بالفعل، لحسمها بشكل نهائي، بدلا من الحلول الجزئية لمجرد تهدئة الوضع.
ويضيف مشهور «يجب أن ننتبه لبعد آخر في مشكلة حلايب وشلاتين، إذ أنها تُلقي بآثارها السلبية على العلاقة بين الشعبين، وهنا مكمن الخطورة الأكبر. لأن الحملات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، مثلما هي تسهم في توعية الشعوب بالقضايا، فهي قد تؤجج هوة الخلافات والانقسامات إذا جرى توجيهها بشكل ما، وحتى إذا لم توجه، فإن المشاعر الوطنية ودفاع مواطني كل دولة، عما يشعرون أنه حق لهم قد يؤدي إلى مشاحنات وزيادة المشاعر العدائية».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.