قريباً ستواجِه قرية حسن كيف التاريخية في جنوب شرقي تركيا مصيرها المحتوم بالغرق في مياه سد إليسو الذي سيُقام على نهر دجلة، في إطار مشروع كبير لتنمية جنوب شرقي تركيا، أثار المخاوف على حياة سكان المنطقة، وأثار الخلافات مع العراق على تقاسم الحصص في مياه النهر.
وبعد جدل طويل دام نحو 13 سنة، اعتبرت المحكمة الدستورية العليا في قرار لها، أمس، أنّ إقامة السد وإنشاء محطة كهرومائية في المنطقة هو عمل يرجع لتقدير الدولة كونه من الأمور التي تتعلق بـ«المصلحة العامة»، وتقع خارج نطاق اختصاص المحكمة.
وقفز اسم قرية حسن كيف التي يرجع عمرها إلى نحو 12 ألف عام إلى الواجهة بقوة اعتباراً من عام 2006، عندما وضع رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان (رئيس الجمهورية حالياً)، حجر الأساس لمشروع سد إليسو، الذي سيكون بعد الانتهاء من بنائه ثاني أكبر سد في تركيا، من حيث سعة تخزين المياه.
وتقول الحكومة التركية إن السد سيوفر الطاقة الكهربائية وفرص العمل للمنطقة الفقيرة في جنوب شرقي الأناضول، حيث الغالبية الكردية من السكان، لكنّ معارضي المشروع يحذّرون من آثار كارثية على بيئة المنطقة وإرثها التاريخي، وفي المقدمة قرية حسن كيف إلى جانب تشريد أكثر من 50 ألف شخص من السكان.
وكانت المجالس المحلية في المنطقة ومنظمات المجتمع المدني ومجموعات أخرى قد اعترضت على بناء السد، وشكّلت تحالفاً للضغط على الحكومة من أجل الحفاظ على قرية حسن كيف التي يقطنها نحو 4 آلاف شخص، ومنع إقامة السد ما دفع الجهات الممولة إلى الانسحاب من المشروع. وقرية حسن كيف التابعة لولاية بطمان في جنوب شرقي تركيا هي موطن لتراث أثري غني يمثل 9 حضارات، بما في ذلك الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية، وحققت 9 من أصل 10 معايير لمنظمة يجب توافرها في أي موقع لينضم إلى قائمة منظمة اليونيسكو للتراث العالمي. وسيرفع السد مستوى مياه نهر دجلة بنحو 60 متراً، ويغمر البلدة القديمة والقرى المحيطة بها، بما في ذلك القطع الأثرية غير المنقولة.
وأقيمت الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا في تركيا من قبل «مبادرة الحفاظ على (حسن كيف) على قيد الحياة»، وهي حركة تأسست في عام 2006 للحملة ضد مشروع سد إليسو. ولكن مع صدور حكم المحكمة العليا بإعطاء الموعد النهائي لبناء السد، ستختفي المدينة القديمة قريباً. وتزخر منطقة جنوب الأناضول في تركيا بكثير من المعالم التاريخية والأثرية والقرى والمناطق الجبلية التي تعكس جمال الطبيعة وتجذب قرية حسن كيف أو«حصن كيفا»، كما كانت تسمى قديماً آلاف الزوار من أنحاء العالم سنوياً.
استمدت القرية اسمها من البيوت المنحوتة في الصخور حيث أطلق عليها السريانيون اسم «كيفا»، وأطلق عليها العرب اسم «حصن كيفا»، وفي أواخر عهد الدولة العثمانية أصبح اسمها «حسن كيف»، وهو الاسم المستخدَم حتى الآن.
وأُعلِنَت «حسن كيف» منطقة محمية في عام 1981، وهي تزخر بكثير من المعالم، وفي مقدمتها قلعة حسن كيف التي كانت واحدة من القلعتين اللتين استولى عليهما الإمبراطور البيزنطي قسطنطين عند دخوله مدينة ديار بكر.
ومن أهم معالمها أيضا «القصر الكبير» الذي يقع شمال القلعة تحت الأنقاض. وبسبب عدم وجود أي كتابة على جدرانه فإن تاريخ بنائه وهوية بانيه لا يزالان مجهولين حتى الآن، لكن خصائص المبنى تشير حسب الخبراء إلى عصر الدولة الأرتقية. ويعتبر «جسر حسن كيف» من أكبر الجسور الحجرية التي بُنِيَت في العصور الوسطى، ويرجح أيضاً، حسب بعض المصادر غير المؤكدة، أنّه بني في عصر الدولة الأرتقية عام 1122 ميلادية.
أمّا جامع الرّزق فبني بأمر من السلطان سليمان الأيوبي في عام 1409 ميلادية، حيث كتبت عليه أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون. لكن لم تبقَ منه سوى المنارة والباب الرئيس.
كما يوجد أيضاً عدد من الأنقاض والقصور الكبيرة التي تقع في شمال القلعة البيزنطية.
وتشير الدلائل إلى أن المنطقة التي تقع بها قرية حسن كيف كانت مركزاً تاريخياً قديماً جداً. وتشير الأبحاث الجيوبوليتيكية إلى أن المدينة سُكِنت منذ زمن بعيد، ولا تزال بعض مغاراتها صالحة للسكن حتى الآن.
وتقول الوثائق والمخطوطات القديمة إن الإمبراطور البيزنطي قسطنطين هو من بنى قلعة حسن كيف في القرن الرابع بعد الميلاد لحماية البلدة.
وشهدت قرية حسن كيف والمنطقة الواقعة بها كثيراً من الفتوحات، ففي عام 639 ميلادية فتحها الأمويون، وبعدهم العباسيون، ثم الحمدانيون، والأرتوقيون، والأيوبيون، والعثمانيون على التوالي. وكانت ملتقى الطرق التجارية، ومركز جذب للعلوم والثقافة، وكانت تحوي كثيراً من المدارس الدينية والعلمية والمشافي. وفي عام 1981 دخلت تحت الحماية كموقع أثري من التراث الإنساني. وتتميز «حسن كيف» بمغاراتها المنحوتة داخل الصخور التي ما زالت شاهدةً على الإبداع البشري قديماً. وسكنتها في القدم شعوب عدة كالسومريين، والآشوريين، والبابليين، ويدل نظام إيصال مياه الشرب إلى المغارات وفقاً للقوانين الفيزيائية على التطور العلمي في هذه المنطقة.
ويشكل «أخدود حسن كيف» العميق الذي تشكل على مر السنين بفعل جريان الأنهار، وبفضل طبيعة الصخور الجيرية في المنطقة، مع المغارات المحفورة في الصخور، لوحة فنية طبيعية رائعة تجلّت فيها اللمسات البشرية. كما تشكّلت الحفر والأودية الموجودة في المنطقة والمناطق المجاورة من جريان نهر دجلة لآلاف السنين.
ومن أهم المعالم التي تلفت الأنظار في المنطقة، خان مغارة يولكيتشن الذي أنشئ ليلجأ إليه عابرو السبيل الذين لا مأوى لهم. وتقع المغارة تحت قلعة حسن كيف البيزنطية، وتنفتح على نهر دجلة مباشرة، واستخدمت لتخزين المياه وكطريق سري للخروج من القلعة. كما استخدمت أيضاً للعبور إلى الضفة المقابلة لنهر دجلة. وما زالت هذه المغارة تجذب آلاف الزائرين من تركيا وخارجها.
وتمكنت من إقناع جهات أخرى بتمويل مشروع سد إليسو، بعد انسحاب مموليه من قل، وأعلنت أخيراً عن خطط لمشروع سياحي في قرية حسن كيف يقوم على تنظيم رحلات بالغواصات الزجاجية للاستمتاع بالآثار التي ستغمرها مياه السد، وأنّها ستبني مدينة جديدة لسكان حسن كيف كما ستُنقل أغلب آثار المدينة وتُوضع في «حديقة ثقافية» بالهواء الطلق إلى جانب رحلات الغواصات.
حكم قضائي بالغرق على قرية «حسن كيف» في تركيا
تعود لـ12 ألف سنة مضت... وتضم آثارها بقايا 9 حضارات
حكم قضائي بالغرق على قرية «حسن كيف» في تركيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة