إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

حاولت أن توجد لها موطئ قدم بمصر في عهد مرسي

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
TT

إيران و«الإخوان»: الجذور الآيديولوجية للشراكة (الحلقة الأخيرة) : طهران تستعيد «فدائيين الإسلام» الذين «قضت» عليهم وأعدمت قياداتهم

الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته
الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي يستقبل أحمدي نجاد في القاهرة أثناء فترة ولايته

بحلول عام 1965، كان عقد كامل قد مر على إعلان حكومة طهران «القضاء الكامل» على «فدائيي الإسلام»، أي النسخة الإيرانية من «الإخوان المسلمين»، وذلك في أعقاب إعدام قيادتها المعروفة. ومع ذلك، وفي 22 يناير (كانون الثاني)، عادت الجماعة التي كان يفترض أنها اختفت تماما إلى صدارة المشهد على نحو مباغت، باغتيالها رئيس الوزراء حسن علي منصور. ولاحقا، أخبر الشخص الذي اغتاله، وهو محمد بخاري، المحققين بأن جماعة «الفدائيين» تفرقت وانقسمت إلى جماعات عدة، وأنها «مستعدة لتنفيذ عمليات قتل وللموت أيضا». والأخطر من ذلك هو أن بخاري زعم أن اغتيال رئيس الوزراء كان «بتخويل» من فتوى أصدرها آية الله محمد هادي ميلاني من مشهد. لكنني أجريت حوارا مع ميلاني في عام 1970، في منزله، وعلق على ذلك الزعم قائلا إنه «باطل يستهدف الإساءة لرجال الدين».
على الرغم من أن ميلاني لم يكن متعاطفا مع الفدائيين، كان هناك العديد من رجال الدين الشيعة الآخرين الذين ينظرون لتلك الجماعة بمزيج من الخوف والاحترام. كان الفدائيون قد استعاروا مفهومين رئيسين من «إخوان مصر»؛ أولهما هو تحويل الإسلام من دين إلى آيديولوجيا سياسية، وكان ذلك جديدا تماما بالنسبة لإيران. فمنذ أن قام الصفويون بتحويل المذهب الشيعي الاثني عشري إلى الدين الرسمي لإيران، نأى رجال الدين، الذين جاء معظمهم من لبنان والعراق، بأنفسهم عن السياسة. وكان ذلك راجعا إلى أن العقيدة الشيعية تعتبر الحكومات التي تشكلت في غياب المهدي المنتظر حكومات غير شرعية. وما دام الإمام المنتظر لا يزال مختفيا، لا يجب على المؤمن أن يشارك في السياسة، وعليه أن يقيم أقل قدر ممكن من التواصل مع السلطات الحاكمة. ووفقا لمبدأ «الانتظار»، كانت المهمة الرئيسة للمؤمن هي إعداد نفسه لـ«الظهور».
لكن «الفدائيين»، وفروعهم التي ظهرت لاحقا، لم يكونوا يوافقون على ذلك المبدأ؛ فقد كانوا يصرون على أن المؤمن يجب أن يحاول بفعالية تعجيل «العودة»، ومن ثم فقد أسسوا مفهوم «التعجيل» في مواجهة مفهوم «الانتظار». وبينما كان ميلاني رجلا مؤمنا بـ«الانتظار»، كان الخميني، الذي كان منفيا في العراق، رجل «تعجيل». وكان يطلق على الجماعة التي ينتمي إليها قاتل منصور «تحالف المجتمعات الإسلامية». وهي جماعة ستلعب دورا محوريا في نظام الخميني بعد ذلك، حيث تمكن أحد قادتها، حبيب الله أصغر أولادي، في الاستمرار في العديد من الوزارات في عهد الخميني، وتمكن من جمع ثروة كبيرة وأنهى حياته الطويلة، وهو من أهم الشخصيات في نظام الخميني.
ولم يكن تحالف بخاري هو الفرع الوحيد لـ«الفدائيين»، فقد كانت هناك جماعة أخرى تطلق على نفسها «حزب الأمم الإسلامية»، يقودها عباس دوزدواني، الذي سيصبح، لاحقا، وزير الإرشاد الإسلامي في عهد الخميني، وكانت تلك الجماعة تحلم بـ«الجهاد» المسلح لتحويل العالم كله إلى المذهب الشيعي.
وكان هناك فرع آخر لـ«الفدائيين» هو حزب الله، الذي يقوده حجة الإسلام هادي الجعفري، وهو الرجل الذي قتل في عام 1979 رئيس الوزراء السابق، أمير عباس هويدا، أثناء اقتياده إلى محبسه بعد انتهاء إحدى جلسات المحاكمة. ومن قيادات حزب الله الآخرين، كان هناك آية الله صادق خلخالي، الذي كان مقربا من الخميني والذي قام باعتباره من كبار القضاة الإسلاميين، بالحكم على ما يزيد على خمسة آلاف سجين، بالإعدام مباشرة فور استيلاء الملالي على السلطة في عام 1979.
وبعد الثورة، أصبح إنشاء أفرع لحزب الله في الدول الإسلامية الأخرى ضمن البرامج الحكومية. ففي الفترة ما بين 1979 و1989، جرى إنشاء 17 فرعا، بما في ذلك فرع في لبنان، أسسه وأداره، في البداية، آية الله علي أكبر محتشمي. ولاحقا، خضعت الشبكة للهيمنة المباشرة للحرس الثوري.
ومن جهة أخرى، قرر بعض رجال الدين الذين كانوا يرتبطون، في البداية، بالفدائيين، أن يعقدوا صفقات مع نظام الشاه. ثم تبنوا، تدريجيا، موقفا بعيدا عن السياسة. ومن بينهم كان آية الله كاشاني، والواعظ بالإذاعة محمد تقي فلسفي، والملا شمس الدين قناة العبادي، والواعظ الشهير فخر الدين حجازي. ثم تحول عدد من مؤيدي «الفدائيين» إلى مجال المال والأعمال، من بينهم علي أكبر بهرماني، الذي استخدم الاسم المستعار «هاشمي رفسنجاني» واتجه للعمل كمقاول معماري. وسرعان ما اتجه شباب الملالي والطلاب الدينيون الذين كانوا لا يزالون موالين لـ«الفدائيين» إلى الإقرار بأن الخميني هو قائدهم - وأنه وريث حقيقي لنواب صفوي. وكان من بينهم أشخاص مثل علي خامنئي ومحمد خاتمي. وخلال العقود الثلاثة الماضية، كان من بقي من الفدائيين والمتعاطفين معهم، أو أقرباء لأعضاء التنظيم الأولين، يمثلون جزءا كبيرا من الأفراد الذين يعملون في نظام الخميني. وفي بعض الأحيان، ابتكر الأشخاص الذين كانوا أصغر من أن يكونوا قد لعبوا دورا في تاريخ الفدائيين، روايات تحاول إيجاد صلة بينهم وبين الفدائيين. وقد زعم حسن روحاني، الذي سيصبح، لاحقا، رئيسا للجمهورية الإسلامية، أنه عندما كان طالبا في المدرسة، كان يوزع منشورات نواب صفوي. وزعم الخميني أنه حضر العديد من المحاضرات التي ألقاها صفوي في طهران ومشهد.
وقد لجأ كبار رجال الدين، مثل أية الله أبو القاسم الخوئي (في النجف)، وكاظم شريعتمداري في قم، إلى اتخاذ وضعية رجال الدين الشيعة الأكثر هدوءا وبعدا عن السياسة.
ولكن التعامل مع الإسلام باعتباره أيديولوجيا بدلا من كونه دينا، مكن الإخوان والفدائيين من السعي للحصول على جمهور أوسع باسم الأهداف السياسية المشتركة. وهذا ما عبر عنه أية الله محمد قمي، في حوار أجري معه في 1984: «ففي مناقشة دينية، سرعان ما سيتضح أن هناك خلافا عميقا في فهم الإسلام بين السنة والشيعة، ولا يستطيع أي طرف أن يوافق على النقاط الرئيسة في موقف الآخر. ولكن عندما يأتي الأمر إلى السياسة، يمكنهما أن يتحدا وراء شعارات وأهداف مشتركة. وبمعنى آخر، بينما يفرق الدين المسلمين، تجمعهم الأيديولوجيات السياسية».
وكان الدرس الثاني الذي تعلمه الفدائيون من الإخوان، هو أهمية الفعل المباشر الذي يمكنه، في بعض الأحيان، أن يتحول إلى عنف وربما إلى إرهاب. ومع مرور السنوات، قامت مجموعة من الجماعات الإرهابية التي تعمل باسم الإسلام، أو باسم نسخ مختلفة من الماركسية، بقتل المئات من الأشخاص في إيران. وحتى بعدما جاء الملالي إلى السلطة، استخدم عدد كبير من خصومهم الاغتيالات والأشكال الأخرى من الإرهاب ضدهم، وجميعهم كان يتحرك باسم الإسلام. وفي عهد الخميني، ظهرت جماعة غامضة يطلق عليها «الفرقان»، واغتالت عددا من قيادات النظام الجديد، وبضمنهم رئيس الأركان، ولي الله قراني، وأية الله مرتضى مطهري، وأية الله محمد مفتح، فيما قتل كل من أية الله محمد بهشتي، والرئيس محمد علي رجائي، على يد «مجاهدي الشعب».
ولم يقتصر تسييس استخدام المفرادت الدينية على الفصائل التابعة مباشرة للإخوان و- أو الفدائيين، فقد استخدمت، لاحقا، حركة ماركسية لينينية أطلقت على نفسها «فدائيو خلق»، مصطلح الفدائيين. كما أن حاشية نواب صفوي، كانت تطلق عليه «المجاهد»، وفي الوقت نفسه، كان يطلق ذلك المصطلح على جماعة ماركسية - إسلامية تطلق على نفسها «مجاهدو خلق». وكانت هناك العديد من المصطلحات الأخرى في قاموس الفدائيين التي استخدمتها الجماعات السياسية غير الدينية، مثل مصطلح «الشهيد»، ومصطلح «المنافق». وتطلق تلك الجماعات على مؤيديها مصطلح «إخوة المجاهدين»، فيما تطلق على خصومها اسم «محاربو الله». وكانت هناك حقيقة أساسية ساهمت في التقارب والتعاون الوثيق، لاحقا، بين الإسلاميين المصريين والإيرانيين، وهي التوصل إلى اتفاق بين قم والأزهر في أواخر الأربعينيات، وذلك بمبادرة من أية الله بروجرودي الذي كان يؤمن بضرورة الوحدة بين الأمم المسلمة لكي يجدوا مكانا أفضل في النظام الدولي ما بعد الحرب. وبعد سنوات من المفاوضات، وافقت كل من قم والأزهر على الإقرار بشرعية خمسة مذاهب، وهي المذاهب السنية الأربعة، بالإضافة إلى الشيعة الجعفرية. كما اتفق الجانبان على ألا يرسل أي منهما بعثات إلى أرض الآخر للتبشير بعقيدته. ومن ثم، ففي الفترة من الأربعينيات إلى الخمسنيات، أرسل بروجرودي نحو مائة بعثة إلى أوروبا وآسيا، ولكنه لم يرسل بعثة واحدة إلى مصر. وسهل ذلك التقارب حقيقة أن الأسر المالكة المصرية والإيرانية، كانت تربطهما علاقة وثيقة نظرا لزواج الأميرة فوزية من شاه إيران.
وعلى الرغم من وجود تقلبات عديدة في علاقتهما، أدركت كل من حركة الخميني وجماعة الإخوان المسلمين حاجتهما لبعضهما البعض، على الأقل، كحلفاء لتحقيق أهداف تكتيكية. وكان كلا الفصيلين مناهضين للأوضاع الراهنة، يسعيان إلى تحطيم توازن القوى الذي تم تأسيسه في الشرق الأوسط، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان كلاهما يرغب في انتزاع السلطة من النخب الحاكمة التي تعتمد على المؤسسة العسكرية. والأهم من ذلك، هو أن كلاهما كان حاسما في نبذ العالم الحديث، على الأقل ما يتعلق منه بالرسائل السياسية والثقافية. وبالتالي، فليس مفاجئا أن المؤلفات التي كتبها سيد قطب المصري، وأبو علاء المودودي الباكستاني، التي ترجم بعضها خامنئي، تم تقدميها باعتبارها «الفلسفة الإسلامية» في نظام الخميني.
كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لسببين:
أولهما، يرجع إلى السياسة الخارجية، حيث يتمتع الإخوان بحضور قوي في تركيا، ويمكن أن يساعدوا طهران في دق إسفين بين أنقرة وواشنطن. وهذا هو السبب الذي دفع نظام الخميني لأن يساند بقوة، حزب نجم الدين أرباكان «رفاه»، قبل وخلال هيمنة الحكومة التركية القصيرة عليه. وأثناء حديثه في جنازة أبيه في عام 2011، أثنى أرباكان على الجمهورية الإسلامية قائلا، إنها «أكثر رموز الإسلام القوي أهمية اليوم».
كما تحتاج طهران إلى العلاقات الطيبة مع الإخوان، لكي تجد موطئ قدم لها في مصر، وهذا هو السبب الذي دفع خامنئي إلى إرسال عدد من المبعوثين إلى محمد مرسي فور انتخابه كرئيس، كان على رأسهم الرئيس محمود أحمدي نجاد، لعرض «شراكة استراتيجية» تبدأ بحزمة مساعدات تقدر بنحو 2 مليار دولار. كما عرضت طهران، علانية، مساعدة الإخوان على «تطهير» مؤسسات الدولة المصرية، وخلق نسخة مصرية من الحرس الثوري لسحق الخصوم المحتملين. ولكن مرسي لم يوافق على ذلك، نظرا لوجود انقسامات داخل قيادة الإخوان حول سياستهم الخارجية.
كما كانت العلاقة بالإخوان ضرورية لإقناع الجماهير العربية بأن دعم إيران للقضية الفلسطينية هو دعم أصيل؛ حيث إن السنوات الطويلة من الاستثمارات الكبيرة في الجهاد الإسلامي، والفرع اللبناني «حزب الله»، لم تقنع العديد من العرب بأن طهران كانت مهتمة حقا بفلسطين.
وعلى النقيض، مكنت العلاقات القوية بحماس، الفرع الفلسطيني للإخوان، نظام الخميني من الحصول على مصداقية أكبر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
تعد جماعة الإخوان حركة عالمية ماثلة في أكثر من مائة دولة، فيما تعد حركة الخميني حركة حديثة نسبيا، على المشهد العالمي للراديكالية الإسلامية. ومن ثم كان بإمكان الإخوان، من من نواحي عدة، مساعدة الخومينيين على إقامة صلات وإيجاد موطئ قدم لهم في عدد من البلدان، بما في ذلك أندونيسيا، والهند، وشمال أفريقيا، ويوغوسلافيا السابقة، وبالطبع أوروبا والولايات المتحدة. وفي بعض الأحيان، كان يقيم تلك الاتصالات، محمد علي تسخيري، مبعوث الخميني الخاص للتقارب الإسلامي. وفي أحيان أخرى، كان الجنرال قاسم سلماني، رئيس فيلق القدس التابع للحرس الثوري، مسؤولا عن تلك الاتصالات. وقبل عامين، أنشأ خامنئي، كيانا جديدا أطلق عليه «الصحوة الإسلامية»، بالتعاون مع وزير الخارجية السابق علي أكبر ولاياتي، الذي أصبح السكرتير العام لذلك التنظيم، بهدف تعزيز العلاقات مع الإسلاميين الراديكاليين على مستوى العالم. وكان أكثر من نصف الأشخاص الاربعمائة الذين حضروا أول مجلس للمنظمة الجديدة في طهران، من أعضاء جماعة الإخوان المسملين من جميع أنحاء العالم. وكان يترأس وفد الإخوان المصريين كمال الهلباوي، رجل الأعمال المقيم في لندن، الذي كان مدافعا دائما عن النفوذ الإيراني في مصر. كما يوفر تكوين علاقات قوية مع الإخوان لحركة الخميني، مساحة أيديولوجية أوسع يمكن عبرها السعي لتحقيق أهداف نظام طهران سواء السياسية أو الاستراتيجية.
وخلال العقود الماضية، نظم نظام طهران سلسلة من المؤتمرات الدولية، تحت شعارات مختلفة، إحياء لذكرى استحواذ الملالي على السلطة في فبراير (شباط) 1979. وحمل بعض تلك المؤتمرات، عنوان «عالم بدون أميركا»، أو «عالم بدون إسرائيل»، فيما كان يتم الترويج للبعض الآخر باعتباره ندوات لدراسة «الفلسفة الثورية» للخميني.
وكانت الصلات التي يتمتع بها الإخوان على مستوى العالم، قد ساعدت إيران، أيضا، في جهودها لتحقيق الهدف الصعب، وهو تقديم خامنئي كقائد أوحد للمسلمين في العالم. فعندما كان شابا، لم يكن خامنئي يعامل بجدية كقائد ديني مهم داخل إيران، أو حتى في العراق أو لبنان، خاصة وأنه كرجل سياسة، لا يوائم النموذج التقليدي للتراتبية الدينية الشيعية. ولم يترك آيات الله في قم والنجف، مساحة واسعة له لكي يقدم نفسه كزعيم ديني. ومع ذلك، فإذا ما نجح في الحصول على قدر من الاعتراف به من الجماعات الإسلامية خارج إيران، فربما يستطيع تعزيز وضعه الديني داخلها أيضا. ولتحقيق هذا الهدف، كان نظام الخميني بحاجة إلى الإخوان وكانوا هم في المقابل مستعدين للمساعدة.
ومن منظور أكثر شمولا، كان نظام الخميني يحتاج إلى الإخوان لتقليل عزلته في المجتمع الإسلامي، حيث ليس لهم حليف سوى نظام بشار الأسد الطغياني في دمشق. وبفضل العلاقات مع الإخوان، التي تمولها قطر، تستطيع طهران الآن، أن تقوم بمحاولات لتقسيم مجلس التعاون الخليجي كجزء من استراتيجيتها «لفنلندة» قطر وعمان، وتحدي الوضع القيادي للمملكة العربية السعودية في دول الخليج، فيما تعزز العلاقات مع الجماعات الإسلامية السنية في اليمن، ومن ثم تقليل الاعتماد على عملائها من الشيعة الزيدية.
وبإبراز قوتها أمام الشرق الأوسط، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان، تستطيع الجمهورية الإسلامية تعزيز وضعها من خلال الظهور كمصدر لدعم الجماعات الإسلامية في الأردن وفلسطين والولايات المتحدة، أو حتى لعقد صفقة معها.
وبالتصرف على غرار القوى الانتهازية في التاريخ، حاولت الجمهورية الإسلامية تنويع محظفتها السياسية والاستثمارية؛ فطهران تدعم فصيل الأسد في سوريا، على الرغم من أنه ليست له علاقة وثيقة بالإسلام أو حتى بالشيعية. وفي العراق، كانت طهران تستثمر جهودها في السنة العرب العلمانيين والأكراد الاشتراكيين، إلى جانب فصائل الشيعة بأطيافهم المختلفة. وفي القوقاز، كانت طهران تدعم روسيا في حملتها للقضاء على الجماعات الإسلامية في الشيشان وداغستان وأنغوشيا. وفي القوقاز أيضا، كانت طهران تنحاز لأرمينيا المسيحية في مواجهة أذربيجان الشيعية. وفي كشمير، كان نظام الخميني يدعم الحكومة الهندية في مواجهة المتمردين المسلمين. ويوفر النظر للإسلام كأيدولوجيا سياسية بدلا من كونه دينا لنظام الخميني، فرصا واسعة للمناورة في الاتجاهات كافة.
وهناك ملاحظة أخيرة مهمة. وهي أن الإسلامية، التي تعني التعامل مع الإسلام كأيدويولجيا سياسية بدلا من كونه دين، هي حقيقة راسخة في حياة العديد من البلدان الإسلامية، بما في ذلك إيران ومصر. ولا يمكننا تجاهل تلك الحقيقة، أو تغييرها بالقوة. فقد جرى العديد من المحاولات لتغيير الوضع بالقوة، بما في ذلك حملات القمع الواسعة التي قام بها الشاه في إيران وناصر في مصر. يجب الإقرار بأن تسييس الدين، يروق لقطاعات من مجتمعاتنا يتراوح عددها بين 5 في المائة إلى 20 في المائة. ففي الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية، جذب مرسى نحو 5 ملايين صوتا تعادل نحو 9 في المائة من مجمل الأصوات التي يحق لها التصويت. فإذا أقام الخمينيون انتخابات نزيهة، كان يمكن لخامنئي أن يحصل على نسبة مشابهة من الأصوات. ويبقى السؤال متعلقا بكيف يمكن دمج تلك الأقليات في نسيج الحياة القومية، من دون سحقهم بالقوة أو السماح لهم بتدمير الأمة برمتها.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».