تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟

يرى البعض أنه أمر مستحب وآخرون يرفضون الفكرة تماما

تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟
TT

تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟

تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟

صدر هذا العام كتاب بعنوان: «الطفل والفلسفة» عن دار أفريقيا الشرق، وهو من إعداد وتنسيق عبد الواحد أولاد الفقيهي. وهذا المؤلَف عبارة عن عمل جماعي قام به اثنا عشر من الباحثين وبمشارب تخصصية مختلفة، وهو ما أضفى عليه خصوبة؛ إذ تجد نفسك وكأنك تقرأ كتبا وليس كتابا واحدا. وما دام أن الكتاب متشعب فإننا سنقربه للقارئ في نقط محددة تعطي فكرة عامة عنه، وهنا بيان ذلك:
لقد اجتمع خبراء اليونيسكو في مارس (آذار) 1998 لمناقشة قضية الفلسفة والطفل، فتم تتويج ذلك بتقرير يحمل عنوان: «الفلسفة من أجل الأطفال»، وخلاصته أنه يمكن تعلم التفلسف منذ السنين الأولى لحياة الإنسان، بل تم إعلان أن الأمر مستحب لأسباب فلسفية وسياسية وأخلاقية وتربوية. فهل حقا يمكن ذلك؟ أم أن الفلسفة حكر على الكبار فقط؛ نظرا لطابعها «المجرد» و«المعقد» كما يلح البعض؟
لقد كثرت الإصدارات والدعوات والتجارب في الكثير من بقاع العالم تنادي بحق الطفل في الفلسفة، وبحقه في الدهشة والتأمل والشك والسؤال، فما مبررات التفكير في حاجة الطفل للفلسفة؟ أليس في ذلك إجهاض لبراءة الطفولة وتكسير للنمو النفسي والعقلي للطفل؟
إن الأمر يحتمل الوجهين، فهناك دعاة إمكانية إقحام الطفل في عالم الفلسفة؛ لأنه ذو خيال واسع، وهو بالفطرة فضولي وجريء ومغامر في أسئلته، وعلى العكس من ذلك، هناك من يرى أن الفلسفة ضد الطفولة، فهي تحتاج إلى النضج واستكمال القوى العقلية. فلننظر إذن في بعض من حجج كل فريق.
- الفلسفة لا تصلح للأطفال
يرى ديكارت أن الطفولة هي مرحلة بادئ الرأي، مرحلة السذاجة والاستقبال العفوي للمعارف، سواء باستخدام الحواس الخادعة أو بتلقي أجوبة المجتمع، فالطفل يكدس كمية هائلة من الأفكار التي هي في معظمها خاطئة وغير ذات أساس صلب؛ ولهذا فالفلسفة تأتي متأخرة، أي حينما يستكمل الفرد قواه العقلية التي تمكنه من التسلح بالمنهج الذي يمكنه من التخلص من كل زيف الطفولة.
إن الاعتراض الرئيسي لعدم القبول بممارسة الفلسفة من طرف الأطفال هو أن لهم نقصا معرفيا وذهنيا يحتاج إلى الوقت كي ينضج، فهم عاجزون على القيام باستدلالات منطقية صورية ومجردة يحتاج إليها التفكير الفلسفي بالضرورة. إضافة إلى أن الفلسفة تحتاج إلى ما يسمى «الأشكلة» وهو مستوى عال من التفكير يجعل المتفلسف يضع القضايا في مفارقات غير محسومة الحل، وهو أمر كما نعلم متعب جدا، ويجعل الحياة غير مريحة ومقلقة، وهو ما يتنافى والطفولة الباحثة عن الاطمئنان والسكينة، كما تحتاج أيضا إلى ما يسمى «المفهمة»، أي التعامل مع المفاهيم وبالمفاهيم، وهي كلمات مكثفة ومشحونة بدلالات عميقة لا يقدر الطفل على استيعابها بله تفكيكها، كما تحتاج الفلسفة أيضا إلى ما يسمى «المحاجة»، أي أن الأطروحات الفلسفية لا تقدم عارية دون إقناع منظم وبكل صنوفه: المنطقية والبلاغية والنقلية. وهو ما لا يقدر عليه طفل لا يزال قيد النمو.
إن دعاة عدم صلاحية الفلسفة للأطفال يؤكدون على مسألة أخرى، وهي أن تدريسها فيه خطر نفسي عليهم، فزج الطفل مبكرا في مشكلات الحياة الكبرى هو إجهاض لنموه الطبيعي، فهو له الفرصة حين ينضج لاكتشافها، فتعليم الفلسفة للطفل هو تكسير لبراءته، ودفعه إلى إدراك، سابق للأوان، لمأساوية الحياة. ناهيك على أن الفلسفة ببرودها وجفائها وصلابتها المنطقية، ستكبح خيال الطفل وتهدم له أحلامه، أو بكلمة واحدة ستسرق له طفولته. لكن، ورغم ذلك، فإننا نجد المدافعين عن إمكانية تدريس الفلسفة للأطفال يرون في التهديد النفسي للفلسفة على الطفل أمرا مردودا، فالطفولة ليس كما يروج عادة وبشكل أسطوري أنها عالم براءة بامتياز، فالإنسان منذ أن يرى النور وهو يلقى به في عالم كله تهديد بالموت، وسؤال الموت هو السؤال الفلسفي الأول، كما أن الكثير من الأطفال يعيشون منذ ولادتهم القسوة، حيث يتعرضون للمجاعة والعبودية والشغل وزنا المحارم والبغاء وسوء المعاملة، كما قد ترميهم الأقدار في مناطق تعج بالحروب والاقتتال... وحتى إن وجد الطفل في بلد آمن وتوفر لديه العيش الكريم، فهذا لا يمنع أن يعيش تمزقا أسريا أو عنفا بين الآباء، أو موت الأقرباء... وكلها أمور تجعل الطفل يتساءل رغم أنفه، وهو ما يفرض من وجهة نظرهم تدريس الفلسفة كي يتطبع مع المشهد الإنساني الدرامي، ويكتشف أنه ليس استثناءً. لكن كيف يمكن تدريس الفلسفة للأطفال؟
- الطفل فيلسوف بالقوة
يعد الانطباع العام حول تعليم الفلسفة للطفل صادما وغير مستساغ؛ لأنه في الغالب يتم تصور الفلسفة على أنها تمتاز بالتعقيد والغموض والتجريد وتحتاج إلى الجدية والحزم والصرامة، وتتطلب ملكات عقلية عالية، وهو ما يتنافى وعالم الطفولة الذي هو عالم اللهو والعبث والعفوية والتلقائية، عالم الخيال غير المنضبط، عالم البراءة بامتياز. فكيف نقحم الطفل في عالم غير عالمه؟ يتم الرد على ذلك بالذهاب نحو دهشة الطفل وجرأته في اقتحام المجهول، أليس هو ذلك الكائن الذي يطرح الأسئلة الوجودية الأزلية الأكثر إحراجا؟ (عن الله والأصل والمصير والموت والعدالة)، وهي كما نعلم الأسئلة الفلسفية الكبرى التي أضنت الفلاسفة عبر التاريخ، إلى درجة يمكن القول إن الفلسفة هي الطفولة الدائمة للفكر.
يقول الفيلسوف ياسبرز: «عادة ما يكون للأطفال نوع من العبقرية التي تضيع عندما يصبحون كبارا». فحقا يولد الطفل بذات إبداعية خارقة، وبعقل شجاع، قادر على الخوض في اللانهايات، لكن تأتي إليه التنشئة الاجتماعية لتقمع جرأته، وأحيانا تغتال أفقه وتسيجه بأجوبة جاهزة موروثة. فكل طفل هو بالأساس متحرر، ويتملك خيالا واسعا منفلتا من سطوة المألوف وقيوده، لكن وجراء الإكراه الاجتماعي للراشدين يتم إرغامه على ابتلاع نماذج من الأجوبة القادمة من عمق التاريخ، سواء عن طريق الترغيب أو الترهيب، فيبدأ الاستلاب عند الطفل فيتوقف الإبداع. باختصار نقول: إن الطفل أوسع إبداعا وإمكانا مما تقدمه التنشئة الاجتماعية التي تعمل على خفضه إلى مستواها وهو ما يهدر طاقته الهائلة التي من المفروض أن تستغل في فتح آفاق أكثر رحابة. أما الحل، فيكمن في إعادة النظر في الطرق والبرامج التربوية، سواء في الأسرة أو المدرسة أو الإعلام كي تتوافق وأسئلة الطفل، أو بعبارة أخرى ينبغي العمل على عكس الآية، فعوضا عن أن تسير التنشئة نحو تعليب الأطفال في قوالب جاهزة، ينبغي تكييفها كي تتلاءم والطفل وإمكاناته الهائلة، وهذا لن يتم إلا إذا تم الإيمان بأن الأفق الاجتماعي مجرد إمكان محدود يتجاوزه عقل الطفل بشكل لافت، وكذلك يجب تجاوز منطق القمع والقهر في التربية ومنطق الحقيقة اليقينية، نحو الحوار والإمكانات اللامحدودة، والاقتناع بأن الإمكان البشري أوسع مما جاءنا من التاريخ.
بالطبع، لا يقترح الباحثون زج الطفل في دروس فلسفية منظمة كما في الجامعات، أي دراسة نصوص فلسفية وتلقي محاضرات في القضايا الفلسفية، بل الأمر لا ينبغي أن يتجاوز فتح حوار جماعي مع التلاميذ الصغار حول موضوعات يتعلم من خلالها الطفل الكثير، فأولا سيفهم أنه ليس الوحيد الذي يطرح الأسئلة الكبرى، فهو في ذلك يتشارك مع الآخرين وضعهم المتميز كإنسان، باعتباره كائنا مفكرا، ناهيك عن أن الحوار الجماعي يبرز للطفل نسبية الأجوبة وتعددها وهو ما يراه البعض ضرورة لخلق جو من الديمقراطية، الذي يؤهل الأطفال إلى العمل السياسي حينما يصبحون راشدين.

- الطفل والفلسفة
إعداد وتنسيق عبد الواحد أولاد الفقيهي.
دار النشر: أفريقيا الشرق - 2017.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم