بعد مسيرة ناجحة وطويلة في خضم السينما الأميركية المستقلة، يفتتح المخرج ألكسندر باين (Payne)، الدورة الرابعة والسبعين مساء هذا اليوم 30 أغسطس (آب) بفيلمه الجديد «تصغير». هذا الفيلم الذي سينظر مات دامون إلى نفسه ليس في المرآة بل في الواقع إذ يتم استنساخه ولو بحجم قلم رصاص.
إلى أن نراه، سيبقى سبب اختيار مهرجان فنيسيا لهذا الفيلم عوضاً عن سواه مغلفاً فقط برغبة المهرجان اصطياد أحد الأفلام التي ستتوجه إلى سباق موسم الجوائز. كل ما هو معروف عنه أنّه علمي خيالي ساخر تقع أحداثه في عالم قريب بات من المستحيل تأمين حاجيات الناس جميعاً فيه.
حسب الفيلم، فإن ارتفاع عدد السكان حول العالم مع خطر اضمحلال المحاصيل النباتية واللحوم وكافة أنواع الأطعمة، فإنّ الحل يكمن في أن يتطوّع الناس (ربما قبل إلزامهم بقوانين حكومية) بتصغير أنفسهم لأحجام لا تتطلب الكثير من الطعام أو الشراب. حجم قد يضيع في جيب البذلة العادية أو - على طريقة الفيلم الكلاسيكي «الرجل المتقلص العجيب»، لجاك أرنولد (1957) - قد تلتهمه قطّـة المنزل معتقدة أنّه نوع جديد من الفئران.
حسب نظرية د. برييرا (يقوم به يواكيم دي ألميدا)، فإن تصغير الرجل أو المرأة لحجم «الهوت دوغ» سوف يجعل أصبع الهوت دوغ الواحد يكفي سبعة أشخاص. كرستن ويغ تؤدي دور زوجته، لكنّ الفيلم الخالي من المؤثرات البصرية المعتادة في أفلام خيالية أو فانتازية يضم إليه بضعة ممثلين من مستوى لورا ديرن (ابنة الممثل بروس ديرن الذي قاد بطولة فيلم باين الأخير «نبراسكا») ونيل باتريك هاريس وأليك بولدوين والوجه المخضرم أودو كير.
- تعليقات اجتماعية
من بين ثوابت أفلام باين، حقيقة أن المخرج يعاين دوماً حالات الفرد في مجتمع متقلب. وكل ما يفعله هنا هو وضع هذه المعاينة في إطار مستقبلي. وهذا الفيلم ليس نتاج فكرة طارئة بل خطرت لباين وكاتب السيناريو جيم تايلور منذ أكثر من عشر سنوات وتداولا طويلا، كيف يمكن لهما تجسيد الفكرة من دون أن تبدو - في حقيقتها - لا خيالية ولا علمية، بل تنضم إلى تعليقات المخرج حول ما يحدث لعالمنا.
سنة 2004 أخرج باين فيلمه العاطفي «جانبيا» (Sideways)، وبعده مباشرة فكر في «تصغير»، لكن قدماه قادته إلى الفيلم التالي «الأحفاد» سنة 2011 وبعد ذلك إلى «نبراسكا» (2013). في غضون ذلك كان السيناريو قد اكتمل وتحمست له شركة فوكس، لكنّها تخلّت عنه فتبنته شركة براماونت. في مطلع العام الماضي تردّد أن ريز وذرسبون (التي أدت بطولة «انتخاب» (Election) وهو الفيلم الذي أخرجه باين سنة 1999 بنجاح كبير، ستقوم بالبطولة، لكن قبل بدء التصوير في أبريل (نيسان) السنة الماضية تم استبدال وذرسبون بكرستن ويغ من دون سبب ظاهر.
إذا ما كانت أفلام ألكسندر باين تعاين المجتمع الحاضر الذي نعيشه، فإنّ ذلك يعني أنّها تنتخب في كل مرّة شخصية منفردة تعكس ما يمر به المرء في عصرنا الراهن. وهذا ما يعني أنّ أفلامه، ككثيرين سواه من مخرجي السينما المستقلة، ليسوا بوارد تحقيق أفلام مبهجة حتى وإن كانت كوميدية أو ساخرة.
حياة هذا المخرج تبلورت سريعاً كسينمائي، لكن اهتمامات هذا السينمائي لم تتبدَّ سريعاً. تلك التعليقات الاجتماعية التي يزاولها أتت لاحقاً عندما وجد لزاما عليه أن ينجز أفلاماً تعني له ولمشاهديه أكثر من مجرد عروض ترفيهية عابرة.
وُلد ألكسندر باين في عام 1961 في بلدة أوماها في ولاية نبراسكا، وهي ولاية معروفة بمزارعها الشاسعة. هو من أصول يونانية (واسم عائلته هو بابا وبولوس). ذات يوم قدّم له والده كاميرا كهدية عيد ميلاد. كان في الرابعة عشرة من العمر حينها ومن هنا عرف أن مستقبله يكمن في فن الصورة المتحركة.
بدأ الإخراج في مطلع الثمانينات بأفلام قصيرة. في عام 1991 أنجز أول فيلم بعنوان «شغف مارتن»، ثم حقّق فيلمه الثاني «المواطنة روث» (1996): دراما عاطفية - اجتماعية حول مصير امرأة حبلى من مدمن مخدّرات. فيلمه التالي «انتخاب» (1999)، شهد نجاحاً جيداً وطرح فيه ما يمكن اعتباره صورة مصغرة عن عالم الانتخابات الأميركية. بعده أنجز فيلمه الرائع «حول شميت» (2002) ثم«جانبيا» و«الأحفاد» ثم «نبراسكا».
- فيلم شغوف
ما قبل «انتخاب» لم ينجز باين عملاً يعكس أسلوب عمله الدائم ولا حرفته الجيدة. أمّا هذا الفيلم الذي لعبت فيه ريز وذرسبون دور طالبة تريد الفوز في انتخابات مدرسية فقط لأنّها فازت في كل انتخابات مدرسية سابقة، فإنّه نقل باين من عداد المجهولين إلى عداد المشهورين. في هذا الفيلم مارس باين تلك المعالجة التي تمزج ما بين جدية الطرح والسخرية مما يعرضه.
هذه المعالجة من بين أسباب نجاح الفيلم بصورة غير متوقعة لا نقدياً فقط بل جماهيرياً. صحيح أنّ الرقم الإجمالي لإيراداته لم يزد على 60 مليون دولار، لكنّ «انتخاب» كلّـف نحو مليون دولار فقط وانتمى، تصنيفاً، لأفلام «الكليات»، تلك التي عادة ما تحكي حكايات حب ورقص في حرم الكليات مع فتيان وفتيات من المراهقين. قبلة هنا ورقصة هناك وربما جريمة قتل مرعبة بين الاثنين.
«حول شميت» دراما ساخرة أخرى، لكن في إطار مختلف تماماً. جاك نيكولسون في أحد أفضل أدواره التي مثلها بعد سن الشباب لاعباً هنا شخصية رجل واجه حدثين متتاليين: وصل إلى سن التقاعد وترك العمل، ثم ماتت زوجته وهي تنظف البيت. هذا ما يدفعه للقيام برحلة طويلة بحافلته الكبيرة (Motor Home)، راغباً في التواصل مع ابنته التي ستتزوج قريباً.
يكاد يكون الفيلم كوميدياً صرفاً، ويلامس العاطفية حينا، ويتميز بالشفافية غالبا، لكنّه لا ينتمي إلى أي من هذه التوجهات انتماء كاملاً. إنّه فيلم ساخر، لكنّه فيلم شغوف بالتجربة التي يعرضها. يعكس المخرج باين جدّيته حتى في تلك اللحظات التي تبدو خفيفة. يقترب بفيلمه من موضوع فيلم إنغمار برغمن «الفريز البرّي» (1975)، حين أسند إلى فكتور سيوستروم (بدوره واحدا من كبار مخرجي السينما السويدية)، دور رجل متقدم في السّن يشعر بأنّ أفضل سنوات حياته باتت وراءه.
ليس أنّ حول «شميت» مأخوذ عن فيلم برغمن ولا المراد الإشارة إلى أكثر من توارد خواطر، لكن المرء يكتشف أن واحدا من أهم قيم فيلم باين الإنسانية، هي الحديث عن رجل يحمل سنوات عمره فوق راحة يده بينما يبحث عمن يصافحه في هذه الحياة. أحداث الفيلم مختارة بذكاء وتمثيل نيكولسون أشبه بمنارة توجه الفيلم وتسهم في رفع مستواه.
كان من المؤسف أن «حول شميت» لم ينل جوائز مهمّـة لا من مهرجان «كان»، حيث شهد عرضه العالمي الأول، ولا من أكاديمية العلوم والفنون السينمائية على الرغم من تمتعه بأكثر من ثلاثين جائزة نقدية. إنّه عن الفصل الثالث والأخير من الحياة. جاك نيكولسون وجد في هذا الفيلم الدور الذي يجسّـد فيه مرحلته هو (كان في الخامسة والستين حين قام بتمثيله). منحه العمق الذي اعتاد عليه في غالبية أفلامه وأكثر قليلاً. إخراج باين الهادئ. الساخر مليء باللحظات الآسرة.
والفكرة تقوم على سعي رجل للهرب من حاضره إلى بعض ماضيه من دون نجاح.
أمّا «جانبيا» (Sideways)، فهو قصّـة حب في الأساس مع توماس هايدن تشيرش الذي لا يمانع في مغامرة نسائية أخيرة قبل أن يتزوج. للغاية ينطلق مع صديقه (بول جيوماتي) ويتعرّفان على امرأتين، لكن كل منهما لغاية مختلفة. الأول لعلاقة عابرة والثاني لعلاقة دائمة.
هذا تلاه «الأحفاد» مع جورج كلوني في دور رجل يعيش في هاواي وفي مطلع الفيلم يكتشف أن زوجته، التي دخلت الكوما، كانت تخونه. لكنّ هذا الزوج يدرك أنه يتحمل بعض اللوم فهو كان طوال الوقت منشغلاً بحيث لم يستطع أن يلعب دور الأب ولا الزوج. لم يكتشف الأمر إلّا حينما واجهته ابنته بالحقيقة وهي تنظر إليه نظرة ازدراء: «أين كنت حينما كنا بحاجة إليك؟».
أما «نبراسكا» (2013)، الذي حمل اسم الولاية الأميركية التي وُلد المخرج فيها، فقد جاء متأخراً بضع سنوات منذ أن كتب المخرج النص. السبب يكمن في أن المشروع تأجل من عام لآخر بحثاً عن التمويل إذ لم يبد لشركات الإنتاج بالعمل الذي سيعود إليها بنتائج مادية خصوصا أن الفيلم من بطولة ممثل مسن ومخضرم وبلا شهرة خاصة اسمه بروس ديرن.
يؤدي ديرن شخصية تطلبت ممثّلاً يفهم في إبداء المشاعر من دون نطقها شفهياً. يلعب دور العجوز الذي حيّر العائلة بمحاولاته المتكررة للتوجه إلى نبراسكا إيماناً منه بأنّه ربح جائزة مالية ضخمة في اليانصيب هناك. في نهاية المطاف، يقرر أحد ولديه (ول فورت) باصطحابه إلى هناك لعلّه يرضي فضوله ويحمله على الاعتراف بأنّه لم يربح جائزة مالية كما يعتقد بل هو واحد من الذين يتم التغرير بهم واستغلال الأمل بتحقيق الحلم المادي الكبير. الفيلم هو فيلم طريق، ومصوّر (كحال «حانبيا» و«حول شميت») ومصوّر بالأبيض والأسود وبطله بروس ديرن دخل سباق التمثيل الأول في أوسكار سنة 2014، لكنّه خسر لصالح ماتيو ماكونوفي عن «دالاس بايرز كلوب».
إلى أين سيمضي باين من هنا؟ هل يفوز فيلمه بأسد فنيسيا الذهبي؟ هل سيدخل ترشيحات الغولدن غلوبس والأوسكار؟ وإن فعل، هل سيفوز؟ أسئلة تبدأ هذه الليلة وتستمر حتى مطلع العام المقبل.
-- أخبار الأفلام والمهرجانات
- أحد الحلول الممكنة لمساعدة المهرجانات على الاستمرار وتقليص تكاليف إقامتها الباهظة هو بيع بطاقات الدخول على الإنترنت للجمهور. والبادرة هذه الأيام تأتي من مهرجان سانتا باربرا الأميركية الذي يطرح عدة برامج في هذا الصعيد. مثلاً: لمشاهدة كل شيء وحضور كل الحفلات وتسلم هدايا من الداعمين وسوى ذلك من المزايا، فإن سعر البطاقة يصل إلى 5000 دولار. وهناك أسعار أخرى، بمزايا أقل، تمتد من 1700 دولار نزولاً إلى 300 دولار وهذه تمكن صاحبها من الحصول على تذكرتين لفيلم الافتتاح وحفلته وتذكرتين لفيلم الختام.
- الرقيب اللبناني يضرب مجدداً…! بعد موقفه من «ووندر وومان» ونصف دزينة أخرى من الأفلام المحلية والعالمية هذه السنة وحتى الآن، ها هو يعترض على عرض فيلم الرعب «أنابيللا: خلق» على أساس أنه يسيء للدين المسيحي. مجلة «سكرين» تقول إن المنع لم يكن باتاً وإنّ أعضاء الرقابة انقسموا فيما بينهم ما استدعى نقل القضية إلى وزير الداخلية الأستاذ نهاد مشنوق.
- بعدما أعلن مهرجان «مالمو» عن فيلم الافتتاح متمثلاً بالفيلم التونسي «على كف عفريت»، أعلن يوم أمس عن أنّ الفيلم المصري «اشتباك» سيكون الفيلم الذي سيعرض في ختام دورته السابعة التي ستقام ما بين السادس والعاشر من أكتوبر (تشرين الأول).
- في مهرجان زيوريخ الذي سينطلق في 28 سبتمبر (أيلول) وحتى 8 من الشهر الذي يليه، سيتم الاحتفاء بالممثل الأميركي أندرو غارفيلد الذي كان مهرجان فنيسيا عرض من بطولته «هاكسو ريدج» في العام الماضي. على الرغم من أنّ غارفيلد من جيل الشباب وعدد أفلامه لا يزال محدوداً بالمقارنة فإنّ المهرجان يجد أنّه يستحق هذا الاحتفال به وتسليمه جائزة «العين الذهبية» الخاصّـة عن مجمل أفلامه.
«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (2): المخرج ألكسندر باين نجم افتتاح مهرجان فينيسيا هذا العام
سعى طويلاً للحديث عن أبطاله في الزمن المعاصر
«الشرق الأوسط» في مهرجان فينيسيا السينمائي (2): المخرج ألكسندر باين نجم افتتاح مهرجان فينيسيا هذا العام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة