بكلمات مثل «أسطورة» و«أيقونة» و«عبقرية»، ودّعت هوليوود والصحافة الأميركية أحد ممثليها الكوميديين الكبار جيري لويس يوم أول من أمس عن 91 سنة.
الصحافة البريطانية كانت أكثر حيادية من زميلتها الأميركية وجاء عنوان صحيفة «ذا غارديان» حول الموضوع يذكر بحيادية في التقييم باتت منسية في معظم هذه المناسبات، إذ قال العنوان «جيري لويس: مهرج بارع بحياة داخلية داكنة وكئيبة».
هذا لا يعني أن جيري لويس كان كوميدياً خالياً من الموهبة ومثيرة للضحك (لدى الصغار والكبار على حد سواء) بل يعلن أن هناك شخصية جانبية أكثر تعقيداً مما تعاملت معه معظم المقالات التأبينية خلال الساعات القليلة الماضية.
وبالنظر عميقاً في تلك الموهبة، فإن الممعن يجد شخصية أمّت الجانب الهزلي والتهريجي من الكوميديا بإتقان شديد رفع من قيمة التهريج وإن لم يغير في حقيقته. فجيري لويس أدّى معظم أدواره، خصوصاً تلك التي وردت في الخمسينات والستينات، بقدر كبير من التوتر والهستيريا والمغالاة. الصعب هنا هي أن هذه العوامل قد تطيح بالممثل من التجربة الأولى، بينما، وفي تجربة جيري لويس بالذات، منحته المزايا التي جعلته أحد أبرز ممثلي الكوميديا في تلك الآونة وأحد علاماته الكبيرة في السينما الشعبية.
جيري ودين
إن كان جيري لويس مهرجاً، وهذا ليس نعتاً خالياً من الواقع، فإن كان الوجه الإيجابي والناجح من هذا التهريج. وجهه وتعابيره وانسياب شخصيته السينمائية بتلاصق تام مع شخصية حقيقية يصعب تكذيبها، كان له أكبر الأثر في وصوله السريع إلى قلوب الأميركيين وبعض الشعوب الأخرى. في فرنسا على سبيل المثال، هو أيقونة فعلية حاز الإعجاب بها الأيقونة الفرنسية الخاصة فرنانديل أو تجاوزها. كان محبوباً لتلك الحركات الهستيرية التي مارسها على الشاشة، وفي بعض المسارح قبل ذلك، ولمهارته في استخدام موهبته وتوقيتها وانفراد حضورها حتى عندما كان من المطلوب تعزيز الشراكة الفنية التي قامت بينه وبين الممثل (الراحل كذلك) دين مارتن.
وُلد جوزيف ليفيتش في السادس عشر من سنة 1926. والده ظهر على المسرح ممثلاً كوميدياً باسم داني لويس، ووالدته راشل لعبت البيانو في إحدى المحطات الإذاعية في ذلك الحين. تبعاً لذلك، تكوّن لدى جيري، وفي سن مبكر، ذلك الاهتمام بالتمثيل ووالده اصطحبه معه إلى المنصة ليقدم وإياه استعراضاته الكوميدية. آنذاك كانت هناك مسارح صغيرة مخصصة ليهود نيويورك ووالده كان أحد فناني المنوعات الهزلية (ڤودڤيل) التي تقدّم عليها ولم يكن على جيري سوى اتباع الخطوات ذاتها ثم الاستقلال عن والده عندما بلغ الخامسة عشرة من العمر.
كان من المفترض في أواخر الثلاثينات أن يرتدي البذلة العسكرية لأن الانضمام للجيش لم يكن تطوعياً بل إلزامياً آنذاك، لكن الكشف الطبي، كما قيل لاحقاً، وجد أن قلب لويس غير سليم. بذلك تم إعفاؤه واستمر جيري في تقديم وصلاته الهزلية على المسارح الصغيرة وفي الفنادق. في سن التاسعة عشرة التقى بالممثل والمغني دين مارتن سنة 1946. آنذاك كان صاحب الحنجرة الساحرة ما زال بعيداً عن بلورة موهبته الغنائية أو التمثيلية. لكن دين وجيري اتفقا على أن يشكلا ثنائياً مسرحياً وباشرا تقديم نمرتهما لأول مرّة في ذلك العام في مسرح في مدينة أتلانتيك سيتي. والنتيجة إخفاق كبير.
المشكلة، كما سعى الاثنان لحلها، هي اعتمادهما على نص مكتوب وتنفيذه بحذافيره. الخروج من هذه المشكلة يعني أن يلغيا النص ويقدما ما هو تلقائي على طول الخط. لكن تغييراً آخر سريع طرأ نتيجة هذا التجديد تمثّل في أن يؤدي دين مارتن شخصية غير كوميدية ويترك التشخيص الكوميدي لجيري لويس. في بضعة أشهر حققا من النجاح ما لم يتوقعاه وبعد عام ارتفع إيرادهما السنوي من صفر إلى 30 ألف دولار (مبلغ لا يستهان به في تلك الفترة) ما دفع لويس لأن يكتب في مذكراته المنشورة: «جئنا من دون إعلان: رجل جذات وسعدان… هكذا رآنا البعض».
بما أن النجاح يلد نجاحاً (والفشل لا يلد شيئاً) فإن انخراط الاثنين في السينما بات محتماً. وفي عام 1950 تحقق ذلك عندما ظهراً معاً في فيلم كوميدي - موسيقي عنوانه «صديقتي إيرما تذهب إلى الغرب» (My Friend Erma Goes West) كانا في شراكة محسوبة في فيلم قاد بطولته كل من جون لاند وماري ولسون. وبعد حفنة أفلام أخرى صغيرة تم وضعهما في صدارة أفلامهما المشتركة فظهرا معاً في «حامل حقيبة الغولف» (The Caddy) و«مال من الأهل» (Money From Home) و«فنانون وموديلات» و«هوليوود أو الإفلاس» (Hollywood or Bust) الذي كان آخر فيلم مشترك بينهما وذلك سنة 1956.
البروفسور المجنون
الإفلاس كان وضعاً شعر به الإثنان عندما وجدا ايرادات أفلامهما الأخيرة تخفق في الوصول إلى ما كانت أفلامهما السابقة قد سجلته. لكن دين مارتن كان قد بدأ يشعر بالفتور حيال هذه الشراكة باحثاً عن توجه آخر خصوصاً وأن جيري لويس هو من كان يواصل احتلال العناوين وصور الغلاف ويحقق الشهرة في حين بدا دين مارتن وقد وقف في مكانه كملازم. فنياً، كان هذا متوقعاً لأن الجمهور سيحب «السعدان» وحركاته، على حد قول جيري، وليس مدربه.
عدد الأفلام التي مثلها جيري لويس مع دين مارتن بلغ 16 فيلماً في عشر سنوات ودين مارتن وجد مكانه في صحبة مختلفة إذ بات أحد أربعة مواهب جديدة تغني وتمثل في السينما والتلفزيون. الشراكة الجديدة وضعته على قدم المساواة مع الممثلين فرانك سيناترا وسامي ديفيز جونيور.
في الوقت ذاته، استمر جيري لويس منفرداَ واستمر نجاحه: «ساد ساك»، «ولد الغيشا» (الذي هو أول فيلم من إنتاجه) و«رجل السيدات» كانت من بين أفلامه الأولى وذلك حتى عام 1963 عندما مثل أحد أفضل وأنجح أدواره في «البروفسور المجنون» (The Nutty Professor) وهو قام بإخراجه أيضاً.
الحرية المتاحة له هنا كانت نموذجية. الحاصل على الشاشة كان مثيراً للضحك. الخلاف ليس هنا، بل في أن تمثيل جيري لويس الهزلي لم يبتعد، بعد كل هذه السنين، عن إتقان أفعال وحركات تهريج. البعض يعتبر ذلك فناً، لكن إذا كان فهو فن التهريج الذي ليس هو ذاته فن الكوميديا. ليس على طريقة سلفه (بستر كيتون وبوب هوب) وليس على طريقة بعض أهم من جاء بعده (بل موراي أو روبين ويليامز). هو نورمان ويزدوم وليس بيتر سلرز في المقابل البريطاني مثلاً.
لكن هذا لم يكن مقلقاً بالنسبة لجيري الذي كان يعرف ما يقوم به ويريده. وجهته في التمثيل كانت استغلال طاقاته في التعبير المغالى به وتقديمه معلّباً بالكاريزما الخاصة التي مارسها من قبل. وحيال هذا النجاح السريع والدائم الذي حققه كان من الطبيعي أن يلغي جيري فكرة عدم مزاولة التمثيل المفتعل للدرجة التي يصبح فيها هذا الافتعال جزءاً عضوياً في تركيبته الخاصة.
دوره في «البروفسور المجنون» تم تركيبه على هذا النحو تماماً. إنه العالم الذي يواصل القيام بتجارب تنتهي دوما بالفشل (أو بانفجار المختبر الذي يعمل فيه كما الفشل) إلى أن يحقق نجاحاً فيتحول إلى رجل وسيم (ولو إلى حد) يكسب إعجاب النساء اللواتي لم يهتممن به في شكله الواقعي.
هل هذا انعكاس لمنهجه أم هو انعكاس لشيء يتفاعل في داخله؟ ربما نوع من النزاع بين أن يستمر مهرجاً أو يقدم على خطوات التحوّل إلى كوميدي فقط؟
مهما كان الأمر فإن النجاح الذي حصده هذا الفيلم طبع الخطوات اللاحقة بحذافيرها فاستمر لويس بتقديم ما اشتهر به إلى أن أدرك، في النصف الثاني من الستينات، أن لهذه الشخصية القلقة والفوضوية وذات التصرفات المتوترة سقفاً لا تستطيع اختراقه. في «لا ترفع الجسر، اخفض النهر» نلحظ أولى خطوات لويس في تحسس مكان جديد كشخصية مختلفة في فيلم تنبع فيه الكوميديا من مواقف النص وليس فقط من الممثل.
بعد ذلك دخل لويس في أتون مختلف. فيلمان سنة 1970 (أحدهما من إخراجه فقط هو «مرة إضافية واحدة») ثم ابتعد الممثل لتسع سنوات متواصلة قبل أن يعود في فيلم من إخراجه فقط عنوانه «هذه هي الحياة».
الفيلم السري
لكن جيري لويس أقدم سنة 1972 على تجربة تحقيق فيلم لم ير النور مطلقاً عنوانه «اليوم الذي بكى فيه المهرج». والذي أوقف الفيلم هو جيري لويس نفسه، كونه المنتج والمخرج. لا أحد، سوى قلة قليلة من أصدقاء ومعارف جيري لويس، شاهد الفيلم. البعض يقول إن العمل عليه لم يكتمل لأسباب مادية محضة، والبعض الآخر يقول إنه اكتمل لكن جيري لويس لم يشأ عرضه.
ذلك مرتبط بتفسيرين آخرين: الفيلم لم يكن بالمستوى الفني الذي طمح إليه لويس، أو أن التجربة التي عاشها الممثل - المخرج حيال تصوير فيلم عن الهولوكوست، وهو اليهودي بدوره منعته من أن يوافق على تحقيق الفيلم علما بأنه لم يكن فيلماً كوميدياً. والأجزاء المبعثرة التي شاهدها هذا الناقد في أكثر من فترة زمنية تؤكد ذلك.
الفكرة مستقاة من قصة وضعها تشارلز دنتون وجوان أوبرايان تدور حول كوميدي يهودي طلب منه النازيون إضحاك اليهود الأطفال قبل وضعهم في الأفران. وفي المشاهد المتسربة يقف جيري لويس ليؤدي نمره الكوميدية في مسرح مدرّج من دون أن نرى الأولاد (ربما هناك مشاهد أخرى يتم إظهارهم فيها).
قرأت السيناريو (متوفر على الإنترنت) مما شكل سيلاً من المعلومات حول الفيلم من بينها أن شخصية هلموت (التي يؤديها جيري لويس) لم تقف وحيدة في الفيلم وفي تلك المشاهد المذكورة أيضاً بل تمت كتابة السيناريو بنصيب كبير من الأحداث الخارجية والشخصيات المختلفة. بعض هذه الشخصيات كانت من تلك التي تتوقعها في فيلم لأليخاندرو جودوروفسكي، ولعل السبب في عدم رغبة لويس تكملة الفيلم وعرضه لاحقاً يكمن في أنه لم يتوصل لصياغة الأسلوب البصري الذي أراده للفيلم.
المؤكد أن الحالة بقيت عاطفية لدى الممثل الذي تحدث لاحقاً للتلفزيون الألماني عن أنه انهار باكياً نحو عشرين مرّة خلال التصوير.
في السيناريو هو بديل لكوميدي آخر طرده المخرج من العمل. وفي مشهد رائع بكلماته ومغازيه يصف هلموت حاله وحيداً لا يستطيع الثقة بأحد مما حوله سوى زوجته:
«أنا وحيد وضائع. لا أستطيع أن أتحمل مهانة الفشل. الألم في أنني كوميدي انتهى أكبر من أن أستطيع تحمّله». تلك الكلمات التي كتبها لويس بنفسه تصف حاله حتى خارج الكاميرا. صحيح أنه في مطلع السبعينات (وقد بلغ السادسة والأربعين من العمر حينها) كان لا يزال محط إعجاب وتقدير النقاد والجمهور معاً، إلا أن كلماته هنا تنبع من تجربة كان يخوضها آنذاك دفعت به للتوقف عن العمل لتسع سنوات، كما تقدم، باستثناء هذا الفيلم غير المعروض.
ينتهي السيناريو بمشهد لا بد أنه مستوحى من «المزمار السحري» لموتزار: هلموت يقود صفاً طويلاً من الأطفال مستخدما الهرمونيكا (عوض المزمار) والأطفال يتبعونه فرحين وسعداء غير مدركين أنه متوجه بهم، غصباً عنه، إلى غرفة الغاز. ومن دون رغبته أيضاً، ينتهي السيناريو بدخوله الغرفة معهم وإقفال الباب عليه.
مع سكورسيزي
هذه الشهادة، لو تم تنفيذها أو لو عرضت وجاءت على مستوى فني جيد لأزاحت الكوميديا التي أنجزها تشارلي تشابلن حول الفترة النازية تحت عنوان «الديكتاتور العظيم» سنة 1940 ولسبقت فيلم الكوميدي الإيطالي روبرتو بينيني «الحياة حلوة» (1997) التي استحق عليها أوسكار أفضل فيلم أجنبي في العام التالي لإنتاجه. هذان الفيلمان استخدما الكوميديا لوصف البشاعة التي تجلت في فترة سادت فيها النزعة النازية والعنصرية.
لم يتوقف لويس عن الإخراج بعد ذلك لكن عمله في هذا المجال كما في التمثيل قل. في سنة 1982 اختاره المخرج مارتن سكورسيزي ليقوم بدور درامي في فيلم من بطولة روبرت دينيرو هو «ملك الكوميديا». جيري لويس هو جيري لانغفورد في الفيلم. ممثل كوميدي مشهور يقرر كوميدي فاشل اسمه روبرت بوبكن (دينيرو) خطفه ليبرهن أمامه على مواهبه. ليس أفضل ما لدى سكورسيزي من أفلام لكنه أفضى إلى معالجة شخصية ليست بعيدة عن تلك التي خبرها جيري لويس.
عاد جيري إلى الكوميديا المباشرة في فيلم فرنسي (لبّى به رغبة عشاقه هناك) عنوانه «للقبض على شرطي» أخرجه ميشيل جيرار سنة 1984 لكن لا هذا الفيلم ولا الكوميديا الأميركية اللاحقة «كوكي» (إخراج سوزان سيدلمان) كانا أكثر من ملامح عابرة لسنوات الأمس الغابر. في طيات ذلك، سنة 2002، قام جيري لويس بتمثيل فيلم لخص فيه حياته الفنية. الفيلم بعنوان «رجال مثيرون» (Funny Men) حققه تد هَلر وفيه لعب لويس دور كوميدي مارس الكوميديا المجنونة تماماً بطريقة الممثل المعهودة، ثم كيف أن مساره في البداية جمعه مع مغنٍ إيطالي (يقصد دين مارتن) حيث حققا النجاح معاً.
لكن إذا ما كان «البروفسور المجنون» هو أكثر نماذج جيري لويس تعبيراً عن جيري لويس الفنان، فإن «ملك الكوميديا»، يبقى الموازي الدرامي (رغم عنوانه) لهذه الحالة. لويس لم يكن عليه أن يُضحك في هذا الفيلم وروبرت دينيرو لا يُضحك بدوره لأنه ليس في الفيلم لهذه الغاية. لكن هذا العمل، رغم هفواته، جسد المعنى وتحدّث عن الكاريزما الكوميدية التي لا تشكل حالة ثلاثية: هي إما يمتلكها الكوميدي، كما حال لويس، أو لا مجال له في هذا الصنف من التمثيل مطلقاً.