نور الشريف... الإبداع حتى آخر نفس

في ذكراه بوسي تؤكد: لم يكتب مذكراته

محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب
محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب
TT

نور الشريف... الإبداع حتى آخر نفس

محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب
محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب

يا ليت نور الشريف قد فكر أن يقدم حياته في فيلم سينمائي مثلما فعل في «حدوتة مصرية» الذي روى جانبا من حياة المخرج يوسف شاهين، أو «ناجي العلي» الذي تناول مشوار فنان الكاريكاتير الفلسطيني، أو «عصفور الشرق» الذي توقف أمام رحلة توفيق الحكيم في باريس، لو فعل ذلك لوجدنا حياة ثرية بالأحداث والمواقف، حياة نور الذي احتفلنا هذه الأيام بمرور عامين على وداعه تستحق أن نرصدها في عمل فني، لتصبح بمثابة درس للأجيال القادمة نتابع حياة فنان صنع نفسه وعرف كيف يحيط موهبته بسياج من العقل، لتظل قادرة على العطاء على مدى يقترب من نصف قرن.
قرر نور الشريف في عز إحساسه باقتراب الموت أن يقهر تلك المشاعر السوداء بأن يقف أمام معشوقته الكاميرا، ويواصل الإبداع وهكذا جاء فيلمه الأخير «بتوقيت القاهرة»، وكأنه طوق نجاة يعبر به أيامه الأخيرة في الدنيا وهو يتنفس أكسجين الإبداع في انتظار العبور للشاطئ الآخر، كان يؤدي في الفيلم دور مريض بألزهايمر، وبذكاء نور ومن خلال أيضاً عين المخرج الشاب أمير رمسيس، كان «الترمومتر» واضحا تماما، لن يتعاطف المتفرج مع نور الشريف الإنسان رغم أنه يعرف أن مرضه في مراحله المتأخرة، ولكنه سيتعاطف مع الشخصية الدرامية. ونجح النجم الكبير والمخرج الشاب في تحقيق ذلك.
كنت حريصا على ألا أترك فرصة اللقاء في آخر مهرجانين حضرهما نور، وهكذا لم أكتف بحضور حفلات التكريم ولكن ضبطت ساعة إفطاري في المرتين على توقيت نور الشريف، الأول في مهرجان الإسكندرية 2014 وتحديدا شهر سبتمبر (أيلول) قبل نحو 11 شهرا من الرحيل، كنا نعرف ضراوة المرض الذي أصاب الرئة، إلا أن نور كان كما نعرفه يفتح قلبه وعقله للدنيا، وفي الندوة حاول البعض من فرط حبهم لنور أن يحيلها إلى مرثية وداع إلا أنني، كنت حريصا على أن أعيدها إلى مسارها الطبيعي، والحديث عن مشوار نجم كبير وكان محمود ياسين حاضرا اللقاء ووجدتها فرصة لنتوقف أمام التنافس الفني بين الكبار، وكيف أن الصراع الفني هو الذي يشعل الحياة إبداعا، فكان الفيلم الرائع لمحمود ياسين يرد عليه نور أيضا بفيلم أكثر روعة، وهذا لم يمنع نور مثلا أن يهنئ محمود على دور أداه باقتدار، مثلما حدث في فيلم «أين عقلي»، كما أن عددا من الأفلام التي أنتجها محمود ياسين كان يسند بطولتها إلى نور.
كنت ألتقي طوال أيام المهرجان نور على الإفطار واكتشفت أنه مثلي من عشاق الفلافل (الطعمية)، وفي تلك الجلسات قد يمتد بنا الحوار إلى ما يزيد عن الساعة، ويمضي أقل من ثلاثة أشهر لنلتقي في مهرجان (دبي) حيث كان يعرض فيلم «بتوقيت القاهرة» في قسم «ليال عربية» وتم تكريمه ووقف على المسرح ليتلقى من الشيخ منصور بن زايد وعبد الحميد جمعة رئيس مهرجان دبي أرفع جائزة بالمهرجان «إنجاز العمر» عن مشواره المرصع بالإنجازات.
171 فيلما روائيا هي الحصيلة وهو رقم ضخم جدا خاصة عندما تتأمل أفلامه التي دخلت التاريخ السينمائي العربي، الصدفة أن أول إطلالة تلفزيونية له جاءت بمسلسل «القاهرة والناس» وهو العمل الفني الذي تعرف فيه على شريكة العمر الفنانة بوسي وكانت وقتها لا تزال في مرحلة المراهقة، وآخر فيلم حمل أيضاً اسم «بتوقيت القاهرة» وكأنه يقفل قوس الحياة مجددا.
نور كان حتى اللحظات الأخيرة يفكر جديا في تقديم كثير من الأفلام منها فيلم عن حياة المخرج الذي أحبه كثيرا عاطف الطيب، وكان بينهما سبعة أفلام مشتركة حيث إن نور وقف بجوار عاطف في أول أفلامه «الغيرة القاتلة» وبعدها جاء فيلمه الثاني الذي يعد واحدا من أفضل أفلام السينما العربية «سواق الأتوبيس»، وجاء الفيلم قبل الأخير لعاطف الطيب «ليلة ساخنة»، وأهم ثلاث جوائز حصل عليها نور عن فيلمين إخراج الطيب «الطاووس الفضي» أفضل ممثل في مهرجان نيودلهي عن «سواق الأتوبيس»، و«الهرم الفضي» من «مهرجان القاهرة» أفضل ممثل عن «ليلة ساخنة»، والجائزة الثانية لنفس الفيلم، أفضل ممثل عن «ليلة ساخنة» من (بيناللي السينما العربية) الذي كان يقام في باريس.
نور لديه منهجه في فن الأداء، كان دائما يملك مؤشراً لضبط الانفعال في الأداء باحترافية ولهذا عندما يعيد اللقطة، وهو بالطبع كثيرا ما يحدث في السينما والتلفزيون عليه أن يقنعك أيضاً ببكارة وعفوية الأداء وكأنها المرة الأولى، وهو ما كان يفسره نور، بضرورة أن يمتلك الممثل حرفية الأداء، وهذا لا ينفي أبداً أن يظل محتفظا بتلقائيته وبكارته كمؤدٍ أمام الكاميرا.
قلت لنور النجوم الآن يقدمون فيلماً واحداً كل عام وأحيانا كل عامين بينما في تاريخك أكتشف أنك كنت تُقدم في العام خمسة أو ستة أفلام، أتذكر مثلاً أن محمود ياسين في النصف الثاني من السبعينات كان يتجاوز رقم عشرة، وفي النهاية مع مرور الزمن، العشرة أفلام يعيش منها على الأقل أربعة أفلام تدخل في دائرة الأهم سينمائيا وتعيش كرصيد فني لا ينسى، بينما نجومنا الشباب قد يسقط من الذاكرة مع مرور السنوات فيلمهم الوحيد الذي يقدمونه سنويا؟ قال لي بالطبع خطأ، ولكن شركات الإنتاج هي التي غيرت الإيقاع، وهو لا يستطيع أن يلقي باللائمة على النجوم هم في النهاية مجبرون على مسايرة الإيقاع الإنتاجي السائد، ولكن كان عليهم لو أرادوا تحدي السوق أن ينتجوا أفلاما مثلما كان يفعل هو ومحمود ياسين وقبلهما فريد شوقي وكمال الشناوي.
كان نور مهموما بأن يكتب مذكراته، المفروض طبقا لتصريحه لي أنه كان يعود إليها بين الحين والآخر ليضيف إليها واقعة أو يراجع معلومة، ولكنه لن ينشرها في حياته وسيتركها لابنتيه مي وسارة، قلت له المنطق أن تُصبح المذكرات في متناول الجميع وهو قادر على أن يضيف شيئاً أو يشرح أو يجيب عن نقطة ما قد تبدو غامضة أو يرد على من لديه تصحيح ورواية أخرى، نور سيتناول بالتأكيد شخصيات عامة، إما أنها تعيش بيننا أو هناك كُثر عاشروهم أو عاصروهم - لم أتبين الأمر لماذا يكتبها الآن ولا يريد أن ينشرها الآن، قال لي إنه ينشر وقائع لا تنال أبداً من أحد، الغريب أنني سألت الفنانة بوسي قبل ساعات من نشر المقال أكدت لي أنها حتى الآن لم تعثر على شيء، وتحليلها أن نور ربما كان يكتب خطوطا عريضة، ليعود إليها بالتفصيل بعد ذلك ولكنه أغلب الظن تراجع عن فكرة كتابة مذكراته.
من حق الفنان أن يقول «بيدي لا بيد عمرو» ويكتب بقلمه قصة حياته وهو لا يزال قادراً على أن يتذكر تفاصيلها على شرط ألا ينحاز لنفسه على حساب الحقيقة أو يكتفي بنصف الحقيقة.
كنت أتمنى أن ينجز الفنان الكبير نور الشريف قصة حياته وأن ينشرها لنرى زمناً خصباً مليئاً بالتفاصيل، كان نور شاهد إثبات على كثير من أحداثه على مدى يقترب من خمسة عقود من الزمان.
نور قادر على أن يتخلص من نرجسية الفنان، ولا تقيده النجومية بكل ما تحمل هذه الكلمة من ظلال سلبية حيث لا يرى الفنان عندما ينظر للخريطة سوى نفسه، بينما نور يمتلك النظرة المحايدة، للخريطة الفنية، لديه هذا المزيج المتوازن من الانضباط والمرونة، إنه دائماً يطرح اسمه على الخريطة ويعرف بالضبط كم يساوي كأجر وكمساحة درامية وقيمة أدبية.. يحدد كل شيء بلا تعال مصنوع ولا تواضع كاذب.. نور يعلم دهاليز توزيع الأفلام في الداخل والخارج ويدرك أن الزمن له إيقاع وله نجوم، ولهذا لا يشعر بغضاضة أن يقول مباشرة لأحمد عز في فيلم مثل «مسجون ترانزيت» أنت تسبقني على «الأفيش» و«التترات»، لم يقل مثلا أنا التاريخ والاسم الأكبر، تعامل بهدوء وعقلانية مع ما تفرضه الشاشة وقانون السينما، يقول نور السينما للشباب تلك الحقيقة التي تدعمها الأرقام 80 في المائة من رواد السينما شباب، ولهذا يقطع الجمهور التذكرة لهم، بينما في التلفزيون لا يزال للكبار حضورهم ولهذا يأتي أسمه سابقا الجميع، بل يحرص على أن يُقدم النجوم الشباب أيضاً، كما فعل في مسلسل «الدالي» بأجزائه المتعددة حيث قدم الوجوه الجديد حسن الرداد وعمرو يوسف وأحمد صفوت ودينا فؤاد وإيناس كامل ومي نور الشريف وآيتن عامر وغيرهم.
قانون التلفزيون لا يزال يحفظ لكبار النجوم مكانتهم في الصدارة، بينما السينما تضع الشباب في الصدارة، وهكذا كان هو صاحب الاقتراح بأن يسبقه عز ومن دون حساسية، قال لي كنت أسبق العمالقة عماد حمدي ومحمود المليجي ومريم فخر الدين في أفلامنا المشتركة التي قدمتها في السبعينات من القرن الماضي، وعندما يسبقني نجوم هذا الزمن لا أجد في ذلك أبدا ما يستحق حتى مجرد السؤال، وأضاف المؤكد أن أجر عز مثلا أكبر مني وأنا دائما ما أقول حسما لقضية ترتيب الأسماء على الشاشة، (اللي أجره أكبر منى يسبقني)!!
الحياة الفنية لا تستقيم بعيداً عن تلك المعادلة الرقمية التي مكنت نور وسط كل الظروف ورغم وهج النجوم المنافسين أن يظل دائماً في دائرة النجوم الكبار.. وعبر قرابة نصف قرن متواصلة ظل في الدائرة، نور قادر أيضاً على الاعتراف بالخطأ الفني، لدينا نجوم كثر لا يعترفون أبدا أنهم قد خانهم التوفيق أو أنهم تورطوا في الموافقة على العمل الفني، أغلبهم يدخلون في معارك وهمية في الدفاع عن باطل.
أتذكر قبل 15 عاما وكان التليفزيون يعرض لنور مسلسل عنوانه «عيش أيامك» قال نور قبل نهاية رمضان هذا المسلسل أنا أتحمل المسؤولية عن تردي مستواه وأرجو من الجمهور أن يغفر لي خطأي.
رحلته السينمائية بدأت بترشيح من عادل أمام للمخرج حسن الإمام عندما كان يبحث عن وجه جديد في دور كمال عبد الجواد في فيلم «قصر الشوق» وسأل عادل فقال له شاهدت ممثلاً جديداً على المسرح في المعهد وهو موهوب وبالفعل أسند له حسن الدور الذي انطلق بعده ليحصد الأفلام الهامة ويقتنص أيضاً الجوائز.
نور بين فرسان السينما الثلاثة الذين كانوا في مرحلة الشباب نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات من عمرهم هو الأقل وسامة وأقصد طبعا محمود ياسين وحسين فهمي، إلا أن السينما شهدت مولد عدد من المخرجين الجدد في السبعينات راهنوا عليه في تجاربهم الأولى مثل محمد راضي الذي أسند له بطولة «الحاجز» 1972 وعلي بدرخان «الكرنك» 1975 ثم سمير سيف ومن إنتاج نور الشريف «دائرة الانتقام» 1976 ثم هشام أبو النصر «الأقمر» 1979..، كان يبدو وكأنه يحمل في يده ختم النسر يوقع به الشهادة للمخرج الجديد، وبعدها ينطلق إلى الحياة الفنية، لابد أن ترى إمضاء نور على فيلمه الأول ليبدأ بعد ذلك المخرج مشواره وانطلاقة.
لديك مثلا محمد خان في أول أفلامه «ضربة شمس» عام 1980 الذي أنتجه نور ولعب أيضاً بطولته.. عاطف الطيب في أول أفلامه «الغيرة القاتلة» 1982.
ونور كان الأقرب إلى عاطف وجدانياً وتعددت اللقاءات بينهما بعد ذلك في «الزمار» عام 84 ثم «قلب الليل» 89 «ناجي العلي» و«دماء على الأسفلت» 92 ثم تحفة عاطف الطيب «ليلة ساخنة». المخرج الأكثر وجودا على خريطة نور هو سمير سيف والرصيد عشرة أفلام بدأت بـ«دائرة الانتقام» ومن أشهرها «قطة على نار» و«غريب في بيتي» و«آخر الرجال المحترمين» و«المطارد» وغيرها وكان بينهما كما قال لي سمير سيف عددا من الأفكار المشتركة لأفلام لم تر النور، وكانت تتناول بعض لمحات من التاريخ الوطني والقومي ولكن القدر لم يمهله لاستكمالها.
نور الشريف حالة إبداعية خاصة في تاريخنا الفني العربي، غادر حياتنا قبل عامين ولكن أفلامه تتنفس على شاشة السينما ومسلسلاته تنبض بالحياة على شاشة التلفزيون، الإبداع لا يعرف الموت!!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)