نور الشريف... الإبداع حتى آخر نفس

في ذكراه بوسي تؤكد: لم يكتب مذكراته

محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب
محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب
TT

نور الشريف... الإبداع حتى آخر نفس

محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب
محمد خان - محمد راضي - عاطف الطيب

يا ليت نور الشريف قد فكر أن يقدم حياته في فيلم سينمائي مثلما فعل في «حدوتة مصرية» الذي روى جانبا من حياة المخرج يوسف شاهين، أو «ناجي العلي» الذي تناول مشوار فنان الكاريكاتير الفلسطيني، أو «عصفور الشرق» الذي توقف أمام رحلة توفيق الحكيم في باريس، لو فعل ذلك لوجدنا حياة ثرية بالأحداث والمواقف، حياة نور الذي احتفلنا هذه الأيام بمرور عامين على وداعه تستحق أن نرصدها في عمل فني، لتصبح بمثابة درس للأجيال القادمة نتابع حياة فنان صنع نفسه وعرف كيف يحيط موهبته بسياج من العقل، لتظل قادرة على العطاء على مدى يقترب من نصف قرن.
قرر نور الشريف في عز إحساسه باقتراب الموت أن يقهر تلك المشاعر السوداء بأن يقف أمام معشوقته الكاميرا، ويواصل الإبداع وهكذا جاء فيلمه الأخير «بتوقيت القاهرة»، وكأنه طوق نجاة يعبر به أيامه الأخيرة في الدنيا وهو يتنفس أكسجين الإبداع في انتظار العبور للشاطئ الآخر، كان يؤدي في الفيلم دور مريض بألزهايمر، وبذكاء نور ومن خلال أيضاً عين المخرج الشاب أمير رمسيس، كان «الترمومتر» واضحا تماما، لن يتعاطف المتفرج مع نور الشريف الإنسان رغم أنه يعرف أن مرضه في مراحله المتأخرة، ولكنه سيتعاطف مع الشخصية الدرامية. ونجح النجم الكبير والمخرج الشاب في تحقيق ذلك.
كنت حريصا على ألا أترك فرصة اللقاء في آخر مهرجانين حضرهما نور، وهكذا لم أكتف بحضور حفلات التكريم ولكن ضبطت ساعة إفطاري في المرتين على توقيت نور الشريف، الأول في مهرجان الإسكندرية 2014 وتحديدا شهر سبتمبر (أيلول) قبل نحو 11 شهرا من الرحيل، كنا نعرف ضراوة المرض الذي أصاب الرئة، إلا أن نور كان كما نعرفه يفتح قلبه وعقله للدنيا، وفي الندوة حاول البعض من فرط حبهم لنور أن يحيلها إلى مرثية وداع إلا أنني، كنت حريصا على أن أعيدها إلى مسارها الطبيعي، والحديث عن مشوار نجم كبير وكان محمود ياسين حاضرا اللقاء ووجدتها فرصة لنتوقف أمام التنافس الفني بين الكبار، وكيف أن الصراع الفني هو الذي يشعل الحياة إبداعا، فكان الفيلم الرائع لمحمود ياسين يرد عليه نور أيضا بفيلم أكثر روعة، وهذا لم يمنع نور مثلا أن يهنئ محمود على دور أداه باقتدار، مثلما حدث في فيلم «أين عقلي»، كما أن عددا من الأفلام التي أنتجها محمود ياسين كان يسند بطولتها إلى نور.
كنت ألتقي طوال أيام المهرجان نور على الإفطار واكتشفت أنه مثلي من عشاق الفلافل (الطعمية)، وفي تلك الجلسات قد يمتد بنا الحوار إلى ما يزيد عن الساعة، ويمضي أقل من ثلاثة أشهر لنلتقي في مهرجان (دبي) حيث كان يعرض فيلم «بتوقيت القاهرة» في قسم «ليال عربية» وتم تكريمه ووقف على المسرح ليتلقى من الشيخ منصور بن زايد وعبد الحميد جمعة رئيس مهرجان دبي أرفع جائزة بالمهرجان «إنجاز العمر» عن مشواره المرصع بالإنجازات.
171 فيلما روائيا هي الحصيلة وهو رقم ضخم جدا خاصة عندما تتأمل أفلامه التي دخلت التاريخ السينمائي العربي، الصدفة أن أول إطلالة تلفزيونية له جاءت بمسلسل «القاهرة والناس» وهو العمل الفني الذي تعرف فيه على شريكة العمر الفنانة بوسي وكانت وقتها لا تزال في مرحلة المراهقة، وآخر فيلم حمل أيضاً اسم «بتوقيت القاهرة» وكأنه يقفل قوس الحياة مجددا.
نور كان حتى اللحظات الأخيرة يفكر جديا في تقديم كثير من الأفلام منها فيلم عن حياة المخرج الذي أحبه كثيرا عاطف الطيب، وكان بينهما سبعة أفلام مشتركة حيث إن نور وقف بجوار عاطف في أول أفلامه «الغيرة القاتلة» وبعدها جاء فيلمه الثاني الذي يعد واحدا من أفضل أفلام السينما العربية «سواق الأتوبيس»، وجاء الفيلم قبل الأخير لعاطف الطيب «ليلة ساخنة»، وأهم ثلاث جوائز حصل عليها نور عن فيلمين إخراج الطيب «الطاووس الفضي» أفضل ممثل في مهرجان نيودلهي عن «سواق الأتوبيس»، و«الهرم الفضي» من «مهرجان القاهرة» أفضل ممثل عن «ليلة ساخنة»، والجائزة الثانية لنفس الفيلم، أفضل ممثل عن «ليلة ساخنة» من (بيناللي السينما العربية) الذي كان يقام في باريس.
نور لديه منهجه في فن الأداء، كان دائما يملك مؤشراً لضبط الانفعال في الأداء باحترافية ولهذا عندما يعيد اللقطة، وهو بالطبع كثيرا ما يحدث في السينما والتلفزيون عليه أن يقنعك أيضاً ببكارة وعفوية الأداء وكأنها المرة الأولى، وهو ما كان يفسره نور، بضرورة أن يمتلك الممثل حرفية الأداء، وهذا لا ينفي أبداً أن يظل محتفظا بتلقائيته وبكارته كمؤدٍ أمام الكاميرا.
قلت لنور النجوم الآن يقدمون فيلماً واحداً كل عام وأحيانا كل عامين بينما في تاريخك أكتشف أنك كنت تُقدم في العام خمسة أو ستة أفلام، أتذكر مثلاً أن محمود ياسين في النصف الثاني من السبعينات كان يتجاوز رقم عشرة، وفي النهاية مع مرور الزمن، العشرة أفلام يعيش منها على الأقل أربعة أفلام تدخل في دائرة الأهم سينمائيا وتعيش كرصيد فني لا ينسى، بينما نجومنا الشباب قد يسقط من الذاكرة مع مرور السنوات فيلمهم الوحيد الذي يقدمونه سنويا؟ قال لي بالطبع خطأ، ولكن شركات الإنتاج هي التي غيرت الإيقاع، وهو لا يستطيع أن يلقي باللائمة على النجوم هم في النهاية مجبرون على مسايرة الإيقاع الإنتاجي السائد، ولكن كان عليهم لو أرادوا تحدي السوق أن ينتجوا أفلاما مثلما كان يفعل هو ومحمود ياسين وقبلهما فريد شوقي وكمال الشناوي.
كان نور مهموما بأن يكتب مذكراته، المفروض طبقا لتصريحه لي أنه كان يعود إليها بين الحين والآخر ليضيف إليها واقعة أو يراجع معلومة، ولكنه لن ينشرها في حياته وسيتركها لابنتيه مي وسارة، قلت له المنطق أن تُصبح المذكرات في متناول الجميع وهو قادر على أن يضيف شيئاً أو يشرح أو يجيب عن نقطة ما قد تبدو غامضة أو يرد على من لديه تصحيح ورواية أخرى، نور سيتناول بالتأكيد شخصيات عامة، إما أنها تعيش بيننا أو هناك كُثر عاشروهم أو عاصروهم - لم أتبين الأمر لماذا يكتبها الآن ولا يريد أن ينشرها الآن، قال لي إنه ينشر وقائع لا تنال أبداً من أحد، الغريب أنني سألت الفنانة بوسي قبل ساعات من نشر المقال أكدت لي أنها حتى الآن لم تعثر على شيء، وتحليلها أن نور ربما كان يكتب خطوطا عريضة، ليعود إليها بالتفصيل بعد ذلك ولكنه أغلب الظن تراجع عن فكرة كتابة مذكراته.
من حق الفنان أن يقول «بيدي لا بيد عمرو» ويكتب بقلمه قصة حياته وهو لا يزال قادراً على أن يتذكر تفاصيلها على شرط ألا ينحاز لنفسه على حساب الحقيقة أو يكتفي بنصف الحقيقة.
كنت أتمنى أن ينجز الفنان الكبير نور الشريف قصة حياته وأن ينشرها لنرى زمناً خصباً مليئاً بالتفاصيل، كان نور شاهد إثبات على كثير من أحداثه على مدى يقترب من خمسة عقود من الزمان.
نور قادر على أن يتخلص من نرجسية الفنان، ولا تقيده النجومية بكل ما تحمل هذه الكلمة من ظلال سلبية حيث لا يرى الفنان عندما ينظر للخريطة سوى نفسه، بينما نور يمتلك النظرة المحايدة، للخريطة الفنية، لديه هذا المزيج المتوازن من الانضباط والمرونة، إنه دائماً يطرح اسمه على الخريطة ويعرف بالضبط كم يساوي كأجر وكمساحة درامية وقيمة أدبية.. يحدد كل شيء بلا تعال مصنوع ولا تواضع كاذب.. نور يعلم دهاليز توزيع الأفلام في الداخل والخارج ويدرك أن الزمن له إيقاع وله نجوم، ولهذا لا يشعر بغضاضة أن يقول مباشرة لأحمد عز في فيلم مثل «مسجون ترانزيت» أنت تسبقني على «الأفيش» و«التترات»، لم يقل مثلا أنا التاريخ والاسم الأكبر، تعامل بهدوء وعقلانية مع ما تفرضه الشاشة وقانون السينما، يقول نور السينما للشباب تلك الحقيقة التي تدعمها الأرقام 80 في المائة من رواد السينما شباب، ولهذا يقطع الجمهور التذكرة لهم، بينما في التلفزيون لا يزال للكبار حضورهم ولهذا يأتي أسمه سابقا الجميع، بل يحرص على أن يُقدم النجوم الشباب أيضاً، كما فعل في مسلسل «الدالي» بأجزائه المتعددة حيث قدم الوجوه الجديد حسن الرداد وعمرو يوسف وأحمد صفوت ودينا فؤاد وإيناس كامل ومي نور الشريف وآيتن عامر وغيرهم.
قانون التلفزيون لا يزال يحفظ لكبار النجوم مكانتهم في الصدارة، بينما السينما تضع الشباب في الصدارة، وهكذا كان هو صاحب الاقتراح بأن يسبقه عز ومن دون حساسية، قال لي كنت أسبق العمالقة عماد حمدي ومحمود المليجي ومريم فخر الدين في أفلامنا المشتركة التي قدمتها في السبعينات من القرن الماضي، وعندما يسبقني نجوم هذا الزمن لا أجد في ذلك أبدا ما يستحق حتى مجرد السؤال، وأضاف المؤكد أن أجر عز مثلا أكبر مني وأنا دائما ما أقول حسما لقضية ترتيب الأسماء على الشاشة، (اللي أجره أكبر منى يسبقني)!!
الحياة الفنية لا تستقيم بعيداً عن تلك المعادلة الرقمية التي مكنت نور وسط كل الظروف ورغم وهج النجوم المنافسين أن يظل دائماً في دائرة النجوم الكبار.. وعبر قرابة نصف قرن متواصلة ظل في الدائرة، نور قادر أيضاً على الاعتراف بالخطأ الفني، لدينا نجوم كثر لا يعترفون أبدا أنهم قد خانهم التوفيق أو أنهم تورطوا في الموافقة على العمل الفني، أغلبهم يدخلون في معارك وهمية في الدفاع عن باطل.
أتذكر قبل 15 عاما وكان التليفزيون يعرض لنور مسلسل عنوانه «عيش أيامك» قال نور قبل نهاية رمضان هذا المسلسل أنا أتحمل المسؤولية عن تردي مستواه وأرجو من الجمهور أن يغفر لي خطأي.
رحلته السينمائية بدأت بترشيح من عادل أمام للمخرج حسن الإمام عندما كان يبحث عن وجه جديد في دور كمال عبد الجواد في فيلم «قصر الشوق» وسأل عادل فقال له شاهدت ممثلاً جديداً على المسرح في المعهد وهو موهوب وبالفعل أسند له حسن الدور الذي انطلق بعده ليحصد الأفلام الهامة ويقتنص أيضاً الجوائز.
نور بين فرسان السينما الثلاثة الذين كانوا في مرحلة الشباب نهاية العشرينات ومطلع الثلاثينات من عمرهم هو الأقل وسامة وأقصد طبعا محمود ياسين وحسين فهمي، إلا أن السينما شهدت مولد عدد من المخرجين الجدد في السبعينات راهنوا عليه في تجاربهم الأولى مثل محمد راضي الذي أسند له بطولة «الحاجز» 1972 وعلي بدرخان «الكرنك» 1975 ثم سمير سيف ومن إنتاج نور الشريف «دائرة الانتقام» 1976 ثم هشام أبو النصر «الأقمر» 1979..، كان يبدو وكأنه يحمل في يده ختم النسر يوقع به الشهادة للمخرج الجديد، وبعدها ينطلق إلى الحياة الفنية، لابد أن ترى إمضاء نور على فيلمه الأول ليبدأ بعد ذلك المخرج مشواره وانطلاقة.
لديك مثلا محمد خان في أول أفلامه «ضربة شمس» عام 1980 الذي أنتجه نور ولعب أيضاً بطولته.. عاطف الطيب في أول أفلامه «الغيرة القاتلة» 1982.
ونور كان الأقرب إلى عاطف وجدانياً وتعددت اللقاءات بينهما بعد ذلك في «الزمار» عام 84 ثم «قلب الليل» 89 «ناجي العلي» و«دماء على الأسفلت» 92 ثم تحفة عاطف الطيب «ليلة ساخنة». المخرج الأكثر وجودا على خريطة نور هو سمير سيف والرصيد عشرة أفلام بدأت بـ«دائرة الانتقام» ومن أشهرها «قطة على نار» و«غريب في بيتي» و«آخر الرجال المحترمين» و«المطارد» وغيرها وكان بينهما كما قال لي سمير سيف عددا من الأفكار المشتركة لأفلام لم تر النور، وكانت تتناول بعض لمحات من التاريخ الوطني والقومي ولكن القدر لم يمهله لاستكمالها.
نور الشريف حالة إبداعية خاصة في تاريخنا الفني العربي، غادر حياتنا قبل عامين ولكن أفلامه تتنفس على شاشة السينما ومسلسلاته تنبض بالحياة على شاشة التلفزيون، الإبداع لا يعرف الموت!!



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».