قوانين التسوّل وفنونه في النمسا

فيينا وحدها تحوي نحو 2000 إلى 2500 منهم

قوانين التسوّل وفنونه في النمسا
TT

قوانين التسوّل وفنونه في النمسا

قوانين التسوّل وفنونه في النمسا

241 ألف يورو قيمة غرامات متأخرة في ولاية فورالبرغ النمساوية، يفترض أن يسدّدها قبل نهاية هذا العام، متسولون يواجهون تهمة التسول بصحبة أطفال، وهي جريمة يعاقب عليها القانون، على الرّغم من أنّ المحكمة النمساوية الدستورية تعتبر التسوّل حقاً إنسانياً، لذا يتعذر حظره بصورة مطلقة.
من جانب آخر تتكدس أمام المحاكم الجنائية في الإقليم 1545 قضية، بتهم التسول مع أطفال والتسول العدواني، ويعتبر الرقم مضاعفاً هذه السنة، بنسبة 50 في المائة تقريبا زيادة عن العام الماضي، وكان الوضع أسوأ بكثير في الفترة ما بين العامين 2014 إلى 2015.
تميز الشرطة ما بين التسوّل بصحبة قاصر، والتسول السلبي الصامت حين يبقى صاحبه صامتا ولا ينبس ببنت شفة، بل يكتفي بحمل مكتوب يشرح فيه حالته أو بمد يده. أمّا التسوّل العدواني فيكون في حال الملاحقة وجذب الأنظار باللمس والتهديد والتعدي.
وحسب مذكرة لمتحدث باسم شرطة الإقليم، فإنّ غالبية من يتم إيقافهم، عادة ما يُطلق سراحهم خلال يوم واحد، من قبل أقاربهم أو معارفهم. وتجنب الناطق أن يقول صراحة إنّ من يدفع الغرامة هو رئيس أو مندوب من العصابة التي تعمل على تشغيل المتسولين وتشرف على نقلهم وتوزيعهم من دول أوروبية مجاورة، في استغلال واضح لقوانين اتفاقية شينغن للحدود المفتوحة التي تسمح لمواطني دولها الأعضاء بحرية التنقل من دون تأشيرات دخول.
في ظل هذا التفاوت الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي يتنقل مواطنو الدول التي تعاني من أوضاع مالية متردّية إلى أخرى أكثر ثراء، مفضلين التسوّل على محاولات البحث عن عمل، فيما يضطر آخرون مجبرين على التسوّل مأمورين من عصابات تستغلّهم متحكمة بمصيرهم وتجعل من التسوّل عملا تجاريا منظما يغض عليها أموالا طائلة.
وتواجه شرطة فورالبرغ ومحاكمها صعوبات إدارية جمّة في تنفيذ العقوبات، وتستغرق كثيرا من الوقت والجهد، وقد يصل الأمر إلى سنة أو سنتين، ولدى مرور ثلاث سنوات تصبح القضية باطلة. لهذا يعمد بعض ضباط الشرطة إلى توجيه الموقوفين مباشرة إلى الإدارة المسؤولة لاتخاذ قرار بشأن العقوبة، متعللين بدعوى صعوبة العثور على عنوان ثابت للموقوف.
من جانبهم يؤيد سياسيون يمينيون أكثر تشدّدا، استصدار قرارات تمنح الشرطة سلطة فرض غرامات فورية تماما كالسلطات الممنوحة لمفتشي وسائل المواصلات العامة ممن يوقّعون مخالفات فورية الدفع لمن يستخدم وسائل النقل العامة من دون بطاقة، الأمر الذي يعترض عليه سياسيون من حزب الخضر، ومن منظمات خيرية، باعتبار أنّ من يقبل على نفسه امتهان التسول هو إنسان محتاج وليس مجرما، وعلى الشرطة مواجهة من يستغلون حاجته والتكّسب من ورائها، في إشارة ضمنية لما يوصف بـ«مافيا التسول» والعصابات الخفية التي تقف وراء هذه الظاهرة.
وكانت تقارير إعلامية قد أوردت أنّ ولاية فيينا تفرض غرامات تصل أحيانا إلى 700 يورو، على من يتم توقيفهم بجريمة التسول مع قاصر، وعلى الرّغم من القوانين الصارمة وملاحقات الشرطة، فلا تزال ظاهرة التسول آفة منتشرة بكثرة في العاصمة فيينا.
وقد أفاد جيرالد تاتزجيرمن من مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية في تصريح إعلامي، بأنّ فيينا وحدها تحوي نحو 2000 إلى 2500 متسول، مضيفا أنّ العدد ليس في زيادة، ولكن عندما ترصد شرطة العاصمة وجوها جديدة في كل مرّة، هذا يعني أنّ جهات تعمل على استبدال الوجوه باستمرار. موضحاً أنّ من ضمن 1001 متسول روماني الجنسية، ترصدهم الشرطة في عموم النمسا هناك نحو 400 متورطون في عمليات التسوّل المنظّم.
في سياق موازٍ يستغل متسولون نمساويون ممن يدّعون أنّهم ضدّ النظام الرأسمالي وضد الحياة المادية، حيواناتهم خصوصاً الكلاب منها لاستدرار العطف، بينما يجلس بعضهم ولساعات جاثين على ركبهم، يخفون وجوههم مُكتَفين بمكتوب يقول إنّهم جياع وبحاجة للمساعدة. وعادة ما يتخطّاهم المارة من دون إعطائهم أي مبلغ مادي، متغافلين وجودهم، باعتبارهم مجرد أشخاص عاطلين عن العمل وقد دمّرهم الإدمان على المخدرات والكحول.
من جانبها تسعى ولايات ومنها ولاية تيرول وولاية سالزبورغ، لحظر التسوّل في أوقات معينة وأماكن معينة، كما يسعى عمدة مدينة غراتس للحد من هذه الآفة، بإجبار المتسولين على الحصول على تصريح رسمي لممارسة التسوّل. والفكرة منها أن يحدّ توزيع التصاريح من عدد المتسولين الذين ينشطون كل يوم ويتجمّعون قرب أماكن مساعدة المتسولين المستحقين، ونجحت المدينة فعليا في إقناع أسر متسولة بالعمل في بعض المزارع التي تشرف عليها.
تجدر الإشارة إلى أنّ قوانين التسول لا تنطبق على الهواة ممن يقدّمون عروضا غنائية أو موسيقية أو رسومات أو يقفون كتماثيل جامدة في الطرقات والميادين العامة المشهودة. فلمثل هؤلاء تحدّد فيينا 32 موقعا من المواقع الحيّة وسط المدينة وساحاتها السياحية، لتقديم عروضهم بعد تصاريح يحصلون عليها من مكاتب معينة في الاثنين الأخير من كل شهر. على أن تُقدم العروض من الساعة الرابعة بعد الظهر إلى الثامنة مساءً فقط. طلب التصريح مجاني وعدده محدود، ولكل هاو مكانه الخاص لتقديم هوايته.
كما أنّ هناك أماكن أخرى لا تحتاج إلى تصاريح، لكن لا يمكن للهاوي تقديم عرضه لأكثر من نصف ساعة. وهناك مراقبة دائمة من قبل الشرطة.
وحسب ما قاله أحد الهواة لـ«الشرق الأوسط»، فإنّ أهل فيينا لا يتكارمون بدفع ولو قليل من المال، ولا تستوقفهم إلّا مواهب رفيعة المستوى، لأنّهم متذوقون للفن الراقي والرفيع، والسياح هم الذين يدفعون للهواة والمتسولين.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)