محطة ألعاب فيديو مهمتها إقصاء أصحاب الرسائل الاستفزازية

تهدف إلى مشاركة الأفراد في عالم الألعاب دون التعرض لتحامل أو تحرش

آنا بوسر روبنسون من موظفي منصة ألعاب الفيديو «تويتش» (نيويورك تايمز) - مقر منصة ألعاب الفيديو «تويتش» في سان فرانسيسكو (نيويورك تايمز)
آنا بوسر روبنسون من موظفي منصة ألعاب الفيديو «تويتش» (نيويورك تايمز) - مقر منصة ألعاب الفيديو «تويتش» في سان فرانسيسكو (نيويورك تايمز)
TT

محطة ألعاب فيديو مهمتها إقصاء أصحاب الرسائل الاستفزازية

آنا بوسر روبنسون من موظفي منصة ألعاب الفيديو «تويتش» (نيويورك تايمز) - مقر منصة ألعاب الفيديو «تويتش» في سان فرانسيسكو (نيويورك تايمز)
آنا بوسر روبنسون من موظفي منصة ألعاب الفيديو «تويتش» (نيويورك تايمز) - مقر منصة ألعاب الفيديو «تويتش» في سان فرانسيسكو (نيويورك تايمز)

يكتب بعض مشاهدي «ميسكليكس»، وهي محطة على منصة ألعاب الفيديو «تويتش» كل أسبوع دون انقطاع تعليقات تتضمن تمييزا على أساس النوع، أو تعبر عن الكراهية للنساء. مع بدء برامج الألعاب بالمحطة مثل لعبة «دانجنز أند دراغونز»، بدأ المشاهدون يكتبون تعليقات ضد المشاركات من النساء. ووصف الكثير منهم مستضيفي تلك الألعاب من الرجال على «ميسكليكس» بكلمات مسيئة، أو أعربوا عن حسن حظهم لأن لديهم زملاء من الـ«حريم».
ما يميز محطة «ميسكليكس» عن غيرها هي استجابتها، ورد فعلها تجاه مثل هذا السلوك؛ فحين يظهر أي تعليق يتضمن تمييز على أساس النوع، يسارع فريق المحطة بالقول إن مهمة المحطة هي توفير مساحة تتسم بالتنوع، والتي يمكن أن يشعر فيها اللاعبون، الذين لا يتم تمثيلهم، بالأمان والحماية من أي تحرش أو تنمر؛ ويتم إبعاد هؤلاء المعلقين مؤقتاً، أو يتم حظرهم تماماً في بعض الأحيان.
يقول ناعومي كلارك، الأستاذ المساعد للفنون بقسم تصميم الألعاب في جامعة نيويورك: «تعد محطة (ميسكليكس) نموذجاً للمساحة التي نمت من الفراغ لتصبح نموذجاً لبيئة مختلفة أقل عدائية، حيث يضع فريق العمل بالمحطة توقعات، وسياسة منذ البداية بهدف مواجهة التحرش».
من بين 2.2 مليون محطة على منصة «تويتش»، المملوكة لـ«أمازون»، كانت «ميسكليكس» واحدة من أولى المحطات، التي تضع نصب عينيها بشكل واضح وصريح هدفاً يتمثل في تقديم مساحة يمكن من خلالها أن يشارك الأفراد، أيا كان نوعهم أو جنسهم، وبمختلف مشاربهم وخلفياتهم، في عالم الألعاب دون خوف أو التعرض لتحامل أو تحرش.
شعار المحطة، التي تقودها أربع سيدات، هو «البناء لا الهدم». وهذا ما يجعل «ميسكليكس» بمثابة ملاذ آمن في وقت يواجه فيه عالم الألعاب انتقادات بسبب ما يتضمنه من كراهية للنساء وعدم تسامح. وقد شهدت صناعة الألعاب خلال السنوات القليلة الماضية أحداث مؤسفة مثل حركة «غيمرفيت» عام 2014 حين قامت حملة تحرش باستهداف مبتكرات ألعاب، ومشاركات في الألعاب. وفي عام 2016، اعتذرت شركة «مايكروسوفت» بعدما استعانت بنساء ليرقصن على منصات خلال مؤتمر للألعاب في سان فرانسيسكو.
من أجل تغيير تلك الثقافة ظهرت محطات مثل «ميسكليكس» وغيرها. وتم تأسيس مجموعة «إيني كي»، التي تدفع باتجاه توفير مساحات تتسم بالشمولية في عالم ألعاب الفيديو، والألعاب الرياضية الإلكترونية، في فبراير (شباط) 2016، كذلك تم إنشاء مجموعات أخرى في هذا المجال مثل «غيرلز ميك غيمز»، و«بيكسلز»، اللتين تقدمان برامج تدريب وتدرب للنساء من أجل المشاركة في مجال ابتكار ألعاب الفيديو.
واتخذت «تويتش» أيضاً موقفاً حاسماً ضد التحرش، حيث وفرت الشركة أدوات مثل «أوتو مود»، الذي يستخدم التعلم بواسطة الآلة، ومعالجة اللغة الطبيعية، لرصد أي محتوى غير لائق أثناء المحادثات ومنعه. كذلك منحت «تويتش» جهات البث سلطة منع ظهور كلمات وروابط محددة على المحادثة، وسمحت لتلك الجهات بتعيين وسطاء من أجل مراقبة المحادثات أثناء البث المباشر للألعاب، وأضافت زرا في كل محطة يتيح للمشاركين الإبلاغ عن أي محتوى غير مرغوب فيه بطريقة أسهل.
على الجانب الآخر، قال مدير العلاقات العامة في «تويتش» والذي يقدم نفسه باسم تشيس: «نتعامل مع التحرش بجدية شديدة، ونفهم مدى أهمية هذا الأمر بالنسبة إلى المشتركين في تويتش». كذلك قال عن «ميسكليكس» إنها نجحت في تكوين مجتمع إيجابي يتسم بالشمولية، مضيفاً: «إذا كان هناك مبتكرون آخرون يبحثون في الاتجاه نفسه، فنحن نحثّهم على تأمل تجربة تلك المحطة».
آنا بروسير روبنسون، من العاملين في «تويتش»، ومديرة البرمجة في «ميسكليكس»، المحطة التي تعمل بالبث المباشر قامت بالتعاون مع ثلاث سيدات في مجال ألعاب الفيديو والألعاب الرياضية الإلكترونية، بتأسيس «ميسكليكس» عام 2013.
يقول ذلك الرباعي النسائي، الذي تطوع بوقته لـ«ميسكليكس» رغم التزامهن بوظائف بدوام كامل، إنهن قد أنشأن المحطة بعد إدراكهن ما تتعرض له النساء من سوء معاملة ومعاناة في مجال ألعاب الفيديو. تقول بروسير: «لقد سئمنا أن نمثل وضعاً استثنائياً. لقد كانوا دوماً يقولون: «انظروا، هناك فتاة تشارك في اللعب. ألا تشبه الكائن الأسطوري وحيد القرن؟»، لقد رأينا أنه إذا تمكنا من جعل رؤية وجوه النساء في الألعاب الرياضية الإلكترونية أمراً طبيعياً ومألوفاً، وأنشأنا شبكة دعم، ربما يواصلن المشاركات التواجد».
تقوم محطة «ميسكليكس» في كل الأيام بتداول المحتوى. على عكس الكثير من المحطات الأخرى الموجودة على «تويتش»، والتي تتمحور حول شخصية بعينها، تتسم «ميسكليكس» بالطابع الجماعي التعاوني، حيث يتم تشجيع مجموعة متنوعة من المشاركين والمستخدمين على الكتابة ومشاركة الأفكار.
ويتم اطلاع المشاركين على مستجدات الأوضاع بشأن أخبار وادي السيليكون، ومجال التكنولوجيا من خلال الرسالة الإخبارية «بيتس»، فضلا عن تقديم تحليل شامل يكتبه مراسلون ومحررون يعملون لدى المحطة.
من البرامج التي يتم تقديمها بانتظام على «ميسكليكس» برنامج بعنوان «هيا نلعب»، ويقوم فيه الأفراد بالمشاركة في ألعاب فيديو بينما يشاهدهم الناس. هناك برنامج آخر مخصص للمناقشة واللعب يحمل اسم «أبطال العاصفة»، وهي لعبة فيديو تمثل ساحة معركة على الإنترنت يشارك بها عدة لاعبين صادرة عن «بليزارد».
كذلك لدى «ميسكليكس» محطة وراء الستار باسم «سلاك» خاصة بالمبتكرين ومستضيفي الألعاب، حيث يمكن للأفراد الحديث بصراحة عن أي موضوع، أو طلب المساعدة إذا كانوا يتعرضون لمشكلة أو سوء معاملة، أو تنمر على الإنترنت. يقول تي إل تيلور، أستاذ دراسات الوسائط المقارنة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومدير الأبحاث في «إيني كي»: «ترى المنصات، والمنظمات، والاتحادات أن النساء والأشخاص الملونين، جزء مهم من قاعدة المستخدمين الخاصة بهم ومن جمهورهم. يعد ضمان قدرتهم على المشاركة أمراً أساسيا وضرورياً».
مع ذلك من غير الواضح مدى الشعبية التي تحظى بها رسالة ومهمة «ميسكليكس»، حيث لا يزيد عدد متابعي المحطة على 23 ألف متابع، في الوقت الذي يفوق فيه عدد متابعي المحطات الأخرى على «تويتش» المليون.
كذلك تقول بروسير، التي تشرف على العمل اليومي لمحطة «ميسكليكس» بمساعدة شخص أو اثنين، إن هدف المحطة ليس أن تصبح كيانا ضخما أو عملاقا يحقق أرباحا. في الوقت الذي تحقق فيه «ميسكليكس» بعض العائدات من الإعلانات والاشتراكات، يعود المال مرة أخرى إلى المحطة لاستخدامه. وتوضح أن المكافأة الحقيقية، التي تحصل عليها المحطة، هي الرسائل التي تتلقاها حالياً من اللاعبين والتي يصفون فيها كيف جعلت المحطة تجربة اللعب أكثر شمولية.
كتبت إحدى مشاهدات «ميسكليكس» مؤخراً تعليق خلال برنامج «دانجنز أند دراغونز» جاء فيه: «حين كنت ألعب كثيراً خلال نهاية حقبة الثمانينات وبداية التسعينات، لم تكن تشارك الكثير من الفتيات في الألعاب. من المذهل أن أرى كل هذا العدد من اللاعبات هذه الأيام».
كذلك أضافت بروسير موضحة أن تلك الرسائل كانت جزء من «خطوات قليلة» تم اتخاذها باتجاه التعامل مع التحرش في مجال ألعاب الفيديو. وأوضحت قائلة: «على الأقل أصبح لدى الناس حالياً وعي عام بأهمية هذا الأمر، والذي بات مختلفاً تماماً عنه منذ بضع سنوات».
* خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)