السكتة القلبية... وبوصلة دعم البحوث الطبية

السكتة القلبية... وبوصلة دعم البحوث الطبية
TT

السكتة القلبية... وبوصلة دعم البحوث الطبية

السكتة القلبية... وبوصلة دعم البحوث الطبية

تحتاج بوصلة دعم البحوث الطبية إلى أن تتجه نحو المناطق الطبية الأشد احتياجاً، وذلك بغية إنتاج معلومات طبية علمية واقعية تفيد في معالجة الحالات المرضية ضمن العناصر الأربعة التالية: الحالات المرضية الأكثر شيوعاً، والحالات المرضية الأشد ضرراً على المُصاب بها، والحالات المرضية التي معالجتها هي الأسهل تطبيقاً، والحالات المرضية التي معالجتها هي الأقل تكلفة مادية. وتطبيق هذه العناصر الأربعة عند النظر إلى الأمراض، سيدلنا لا محالة إلى الحالات المرضية التي تتطلب منا دعماً وعناية أكبر، لأن تلك العناية ستكون فائدتها أعلى بشمولها فئة كبيرة من المرضى، وبتخفيفها من عمق المعاناة المرضية، وبتكلفتها المادية الأقل، وبإمكانية سهولة تطبيقها بشكل عملي.
وهذا الكلام النظري، في تحديد ما «الأولوية» بالدعم في البحوث الطبية حول الأمراض، يصعب الاتفاق على ترجمته تلقائياً على أرض الواقع فيما بين الباحثين الطبيين. وعلى سبيل المثال، تفيد الإحصاءات الطبية الحديثة بأن «السكتة القلبية (Cardiac Arrest)»، أي توقف القلب عن النبض لضخ الدم، لا تزال تحصد أرواح الملايين سنوياً على المستوى العالمي، وتحديداً تذكر إحصاءات «المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض واتقائها (CDC)»، و«رابطة القلب الأميركية (AHA)» أن «السكتة القلبية» هي أحد الأسباب الرئيسية للوفيات بالولايات المتحدة، ذلك أنها تحصد أرواح أكثر من 450 ألف شخص سنوياً، وأن جهود رفع احتمالات فرص البقاء على قيد الحياة لمنْ يُصابون بحالات «السكتة القلبية» تعتمد على القدرة في إجراء البحوث الطبية حولها وترجمة نتائج تلك البحوث إلى ممارسات تطبيقية في معالجتها.
وهذا الأمر كان محور دراسة الباحثين الطبيين من جامعة ميتشغان المنشورة ضمن عدد 12 يوليو (تموز) من «مجلة رابطة القلب الأميركية (Journal of the American Heart Association)»، أي تحليل مدى الدعم المالي الذي تتلقاه البحوث الطبية حول السكتة الدماغية في الولايات المتحدة، خصوصا من قبل المؤسسة القومية للصحة NIH، التي تُصنف لدى الأوساط الطبية والعلمية بأنها أكبر ممول للبحوث الطبية الحيوية على مستوى العالم. وفي هذه الدراسة الحديثة، تابع الباحثون مقدار ذلك الدعم الذي قدمته المؤسسة القومية للصحة خلال السنوات العشر الماضية لبحوث السكتة القلبية بالمقارنة مع دعمها المادي للبحوث الطبية حول حالات مرضية أخرى ضمن مجموعة الأمراض الأعلى تسببا في الوفيات.
وتبين للباحثين في نتائج دراستهم أن البحوث العلمية حول السكتة القلبية تتلقى دعماً مادياً أقل بالمقارنة مع المسببات المرضية الرئيسية الأخرى للوفيات، كالسكتة الدماغية، والسرطان، والسكري، وأمراض القلب... وغيرها، وأن الدعم المادي لبحوث السكتة القلبية يتناقص سنوياً. وعلق الدكتور روبرت نيمار، الباحث الرئيسي في الدراسة رئيس قسم طب الطوارئ بجامعة ميتشغان، قائلاً: «بالنظر إلى العبء الصحي العام للسكتة القلبية، نجد أنها قضية الصحة العامة الرئيسية. ولو أُصيب شخص بالسكتة القلبية خارج المستشفى، فإن احتمالات بقائه على قيد الحياة 10 في المائة».
وبشيء من التفصيل في عرض الأرقام، ذكر الباحثون أنه في عام 2015 تم توفير الدعم لبحوث مرض السكري بواقع 13 ألف دولار لكل حالة وفاة حصلت بسببه، مقارنة مع 91 دولارا لكل حالة وفاة بسبب السكتة القلبية. وفي ذلك العام، كما قال الباحثون، تم توفير الدعم لبحوث أمراض السرطان بواقع 9 آلاف دولار لكل حالة وفاة بسبب السرطان، ولبحوث السكتة الدماغية بواقع 2200 دولار لكل حالة وفاة بسبب السكتة الدماغية، ولبحوث أمراض القلب بواقع 2100 دولار لكل حالة وفاة بسبب أمراض القلب.
وأضاف الباحثون أن البحوث الطبية حول الأمراض الأخرى تجد لها مصادر أخرى للدعم؛ على سبيل المثال من قبل الشركات التي تُنتج الأدوية أو الأجهزة الطبية، بخلاف السكتة القلبية، ولكنهم أيضاً أضافوا جانبا مهماً، وهو أشبه بسيناريو «الدجاجة أولاً أم البيضة»، بمعنى أن هناك واقعاً يتمثل في تدني عدد الباحثين الطبيين المهتمين بإجراء البحوث الطبية حول السكتة القلبية، وأن هناك أيضاً واقع التدني في دعم البحوث الطبية حولها، والتساؤل هو: هل أدى تدني الدعم المادي للبحوث حولها إلى تدني عدد الباحثين الطبيين المهتمين بإجراء البحوث العلمية حول السكتة القلبية؛ أم العكس؟
وبمقابل نشر هذه الدراسة الطبية في «مجلة رابطة القلب الأميركية»، تم في العدد نفسه نشر مقالة نقدية افتتاحية للدكتور كليفتون كالاوي، من قسم طب الطوارئ بجامعة بيتسبيرغ، حول مراجعة نتائج هذه الدراسة ومدى التوافق في استنتاجاتها ودلالاتها العلمية والتطبيقية. وناقش فيها الدكتور كالاوي 6 عناصر نقدية حول الدراسة؛ شملت كيفية إجرائها ومدى دقة الاستنتاجات فيها، بقوله: «الرسالة الصريحة من الدراسة هي أن أبحاث السكتة القلبية تستحق مزيدا من التمويل أكثر مما كانت قد تلقته في الماضي، وأنه تجب زيادة الاستثمار في هذا البحث. ويحتوي هذا الاستنتاج على عدة افتراضات يجب أن ندرسها ونفحصها». وتطرق إلى دقة النتائج، وإلى مدى صحة اعتبار أن حالة «السكتة القلبية» مرض منفصل وليست حالة قد تنتج عن وصول عدد كبير من الأمراض إلى مراحل مرضية متقدمة؛ مثل أمراض شرايين القلب وفشل الجهاز التنفسي والنزف والسكتة الدماغية وفشل الكلى وفشل الكبد... وغيرها، وبالتالي، فإن السؤال: هل المهم هو دعم البحوث الطبية حول «السكتة القلبية» أم دعم البحوث في مسببات الوصول إليها؟ كما تحدث عن أن «جدوى البحوث الطبية ونجاحها لا يُقيم بمدى توصلها إلى الغايات التي تنشدها، وهناك كثير من الشواهد العلمية على أن البحوث في أمراض وجوانب طبية معينة أفادتنا في فهم ومعالجة أمراض لا علاقة لها بالمرض الأصلي محل البحث والدراسة». وأضاف عناصر أخرى لا مجال للاستطراد في عرضها.
وهذه النقاشات العلمية في مراجعة ونقد الدراسات الطبية المنشورة، مثال على أن الأوساط الطبية تتلقى دائماً بالمراجعة والنقد والفحص كثيراً من نتائج الدراسات الطبية التي يتم نشرها في المجلات العلمية، وهي أيضاً مثال على حيوية البحث الطبي في معرفة كيفية تحديد الأولويات في التعامل مع الأمراض المنتشرة للحد من انتشارها وتخفيف أعبائها الصحية؛ سواء في المعالجات، أو البحوث، أو الدعم اللوجيستي.



الأطفال المصابون بـ«كوفيد الطويل الأمد» يتعافون في غضون عامين

الأطفال المصابون بـ«كوفيد الطويل الأمد» يتعافون في غضون عامين
TT

الأطفال المصابون بـ«كوفيد الطويل الأمد» يتعافون في غضون عامين

الأطفال المصابون بـ«كوفيد الطويل الأمد» يتعافون في غضون عامين

مع بداية فصل الشتاء وزيادة احتمالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي واستمرار الحديث عن الأعراض المزمنة لمرض «كوفيد - 19» نُشرت أحدث وأطول دراسة طولية عن الأعراض الطويلة الأمد للمرض أجراها باحثون إنجليز في مستشفى غريت أورموند ستريت للأطفال Great Ormond Street Hospital for Children بالمملكة المتحدة بالتعاون مع عدة جامعات أخرى؛ مثل جامعة لندن ومانشستر وبريستول. وأكدت أن معظم الأطفال والمراهقين الذين تأكدت إصابتهم بأعراض كوفيد الطويل الأمد، تعافوا بشكل كامل في غضون 24 شهراً.

أعراض «كوفيد» المزمنة

بداية، فإن استخدام مصطلح (أعراض كوفيد الطويل الأمد) ظهر في فبراير (شباط) عام 2022. وتضمنت تلك الأعراض وجود أكثر من عرض واحد بشكل مزمن (مثل الإحساس بالتعب وصعوبة النوم وضيق التنفس أو الصداع)، إلى جانب مشاكل في الحركة مثل صعوبة تحريك طرف معين أو الإحساس بالألم في عضلات الساق ما يعيق ممارسة الأنشطة المعتادة، بجانب بعض الأعراض النفسية مثل الشعور المستمر بالقلق أو الحزن.

الدراسة التي نُشرت في نهاية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الحالي في مجلة Nature Communications Medicine أُجريت على ما يزيد قليلاً على 12 ألف طفل من الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و17 عاماً في الفترة من سبتمبر(أيلول) 2020 وحتى مارس (آذار) 2021، حيث طلب الباحثون من الأطفال الذين ثبتت إصابتهم، تذكر أعراضهم وقت إجراء اختبار «تفاعل البوليمراز المتسلسل» PCR المُشخص للكوفيد، ثم تكرر الطلب (تذكر الأعراض) مرة أخرى بعد مرور ستة و12 و24 شهراً.

تم تقسيم الأطفال إلى أربع مجموعات على مدار فترة 24 شهراً. وتضمنت المجموعة الأولى الأطفال الذين لم تثبت إصابتهم بفيروس الكوفيد، والمجموعة الثانية هم الذين كانت نتيجة اختبارهم سلبية في البداية، ولكن بعد ذلك كان نتيجة اختبارهم إيجابية (مؤكدة)، فيما تضمنت المجموعة الثالثة الذين كانت نتيجة اختبارهم مؤكدة في البداية، ولكن لم يصابوا بالعدوى مرة أخرى لاحقاً، وأخيراً المجموعة الرابعة التي شملت الذين كانت نتيجة اختبارهم مؤكدة في البداية ثم أصيبوا بالعدوى مرة أخرى لاحقاً.

قام الباحثون باستخدام مصطلح كوفيد الطويل الأمد عند فحص بيانات ما يقرب من ألف طفل من الذين تأكدت إصابتهم بالمرض ووجدوا بعد مرور عامين أن نحو 25 - 30 في المائة فقط من إجمالي المراهقين هم الذين لا يزالون يحتفظون بالأعراض المزمنة، بينما تم شفاء ما يزيد على 70 في المائة بشكل كامل. وكان المراهقون الأكبر سناً والأكثر حرماناً من الخدمات الطبية هم الأقل احتمالية للتعافي.

25 - 30 % فقط من المراهقين يظلون محتفظين بالأعراض المزمنة للمرض

استمرار إصابة الإناث

كان اللافت للنظر أن الإناث كن أكثر احتمالية بنحو الضعف لاستمرار أعراض كوفيد الطويل الأمد بعد 24 شهراً مقارنة بالذكور. وقال الباحثون إن زيادة نسبة الإناث ربما تكون بسبب الدورة الشهرية، خاصة أن بعض الأعراض التي استمرت مع المراهقات المصابات (مثل الصداع والتعب وآلام العضلات والأعراض النفسية والتوتر) تتشابه مع الأعراض التي تسبق حدوث الدورة الشهرية أو ما يسمى متلازمة «ما قبل الحيض» pre-menstrual syndrome.

ولاحظ الباحثون أيضاً أن أعلى معدل انتشار للأعراض الطويلة الأمد كان من نصيب المرضى الذين كانت نتائج اختباراتهم إيجابية في البداية، ثم أصيبوا بالعدوى مرة أخرى لاحقاً.

قال الباحثون إن نتائج الدراسة تُعد في غاية الأهمية في الوقت الحالي؛ لأن الغموض ما زال مستمراً حول الآثار التي تتركها الإصابة بالفيروس، وهل سوف تكون لها مضاعفات على المدى الطويل تؤدي إلى خلل في وظائف الأعضاء من عدمه؟

وتكمن أهمية الدراسة أيضاً في ضرورة معرفة الأسباب التي أدت إلى استمرار الأعراض في الأطفال الذين لم يتماثلوا للشفاء بشكل كامل ونسبتهم تصل إلى 30 في المائة من المصابين.

لاحظ الباحثون أيضاً اختلافاً كبيراً في الأعراض الملازمة لـ«كوفيد»، وعلى سبيل المثال هناك نسبة بلغت 35 في المائة من الأطفال الذين ثبتت إصابتهم في البداية، ثم أصيبوا مرة أخرى بعد ذلك، لم تظهر عليهم أي أعراض على الرغم من إصابتهم المؤكدة تبعاً للتحليل. وفي المقابل هناك نسبة بلغت 14 في المائة من المجموعة التي لم تظهر عليها أي أعراض إيجابية عانت من خمسة أعراض أو أكثر للمرض، ما يشير إلى عدم وضوح أعراض كوفيد الطويل الأمد.

هناك نسبة بلغت 7.2 في المائة فقط من المشاركين عانوا بشدة من الأعراض الطويلة الأمد (5 أعراض على الأقل) في كل النقط الزمنية للدراسة (كل ثلاثة أشهر وستة وعام وعامين)، حيث أبلغ هؤلاء المشاركون عن متوسط خمسة أعراض في أول 3 أشهر ثم خمسة في 6 أشهر ثم ستة أعراض في 12 شهراً ثم خمسة في 24 شهراً بعد الإصابة، ما يؤكد ضرورة تقديم الدعم الطبي المستمر لهؤلاء المرضى.

بالنسبة للتطعيم، لم تجد الدراسة فرقاً واضحاً في عدد الأعراض المبلغ عنها أو حدتها أو الحالة الصحية بشكل عام ونوعية الحياة بين المشاركين الذين تلقوا التطعيمات المختلفة وغير المطعمين في 24 شهراً. وقال الباحثون إن العديد من الأعراض المُبلغ عنها شائعة بالفعل بين المراهقين بغض النظر عن إصابتهم بفيروس «كورونا» ما يشير إلى احتمالية أن تكون هذه الأعراض ليست نتيجة للفيروس.

في النهاية أكد العلماء ضرورة إجراء المزيد من الدراسات الطولية لمعرفة آثار المرض على المدى البعيد، وكذلك معرفة العواقب الطبية للتطعيمات المختلفة وجدوى الاستمرار في تناولها خاصة في الفئات الأكثر عرضة للإصابة؛ أصحاب المناعة الضعيفة.

* استشاري طب الأطفال