الغاضبون من السير الذاتية

طريقان لصناعة المسلسل... أم كلثوم {القديسة} أو أسمهان {الإنسانة}

يوسف السباعي ترفض أسرته السماح بإخراج أفلام عن حياته - هند رستم - أسمهان
يوسف السباعي ترفض أسرته السماح بإخراج أفلام عن حياته - هند رستم - أسمهان
TT

الغاضبون من السير الذاتية

يوسف السباعي ترفض أسرته السماح بإخراج أفلام عن حياته - هند رستم - أسمهان
يوسف السباعي ترفض أسرته السماح بإخراج أفلام عن حياته - هند رستم - أسمهان

من الواضح أن لدينا طريقين لا ثالث لهما لتقديم مسلسلات السيرة الذاتية، الأولى على طريقة مسلسل «أم كلثوم»، حيث يتم إقصاء كل ما يشوب الشخصية إنسانياً، والإبقاء فقط على الوجه الإيجابي الذي يحيلها إلى قديسة أو ملاك، بينما الطريق الأخرى تتعامل مع السلبيات بنفس درجة تعاطيه مع الإيجابيات؛ لأنهم في النهاية بشر.
كانت وصية الفنانة الراحلة هند رستم لابنتها الوحيدة بسنت هي عدم السماح لأحد بتقديم سيرة حياتها في مسلسل أو فيلم، وذلك بعد أن شاهدت الكثير من تلك المسلسلات، ورأت كيف أن الحقائق قد تم اختراقها، أما الفنانة القديرة مديحة يسري- أمد الله في عمرها- فلقد أعلنتها صراحة علناً وعلى رؤوس الأشهاد أكثر من مرة، أنها لا تريد أن تحيل حياتها إلى شريط درامي؛ فأصبحنا جميعاً شهوداً على تنفيذ تلك الرغبة بعد عمر طويل.
ولو انتقلنا إلى الشاطئ الآخر للعالم، مثلاً فنانة فرنسا أيقونة الجمال بيرجيت باردو، التي اعتزلت الحياة الفنية قبل أكثر من 45 عاماً، وتفرغت للدفاع عن حقوق الحيوانات، رفضت أيضاً تقديم حياتها في فيلم، ومؤخراً أقامت الممثلة البريطانية أوليفيا دي هافيلاند، الحاصلة على الأوسكار، دعوى قضائية ضد مسلسل «بيتي آند جوان»، معتبرة أنه يضر بسمعتها لأنه يتناول في السياق جانباً من حياتها، بينما مارلين مونرو هي أكثر فنانة تُقدم حياتها في أعمال سينمائية، من دون اعتراض.
مؤخراً، مثلاً، تابعنا غضب الكثير من الورثة بسبب الأعمال الدرامية، وآخرها ورثة الرئيس جمال عبد الناصر بسبب مسلسل «الجماعة»، توجهت شحنات الغضب إلى صورة جمال، وشاركهم في الغضب، سكرتير الرئيس جمال، الذي رافقه طوال سنواته الأخيرة الأستاذ سامي شرف، وهو من القلة الأحياء، وكانوا شهوداً على الكثير من التفاصيل والكواليس، وقال: إن كل ما ذكره وحيد حامد عن ارتباط جمال بالإخوان كتنظيم محض افتراء، بينما سارع وحيد بدوره للتأكيد على أن لديه مصادره الموثقة، وأن شرف ليس هو المرجع الوحيد.
إنها حكاية متكررة، ولن تنتهي، إذا كان عالمنا العربي في العادة يبحث عن الصورة الوردية للراحلين، ولا يريدهم إلا ملائكة لا ينقصهم سوى الأجنحة، فإن الغرب لديهم أيضاً حساباتهم الأخرى، فهم لا يمانعون أن تقدم مورثهم متعاطي مخدرات، أو يمارس الشذوذ، أو نصاباً، لكن ينبغي في كل الأحوال أن يتم وضع كل التفاصيل في الإطار القانوني، حتى يتم إنتاج المصنف الفني.
تباينت ردود أفعال الورثة في عالمنا العربي، تجاه الأعمال الدرامية التي تتناول مورثهم، هناك غالباً سبب مباشر يعلنونه في حالة الرفض، وهو أنهم يريدون الحفاظ على الصورة الذهنية الإيجابية للفنان أو الأديب أو رجل السياسة، إلا أن في عدد من الحالات نكتشف أن هناك مفاوضات مالية، قد تمت في الكواليس مع الورثة، لكنها لم تصل إلى حل يرضي كل الأطراف، فطالبوا بإيقاف العمل الفني. لقد شاهدنا عشرات من المسلسلات في مرحلة زمنية سابقة، بدأت بعد النجاح المدوي لمسلسل «أم كلثوم» عام 2000، ومن بعدها أصبحت موضة، ولا يخلو شهر رمضان من عمل فني أو أكثر يروي سيرة حياة شخصية مشهورة.
ثم، وكالعادة، ولأننا عشوائيون في اختياراتنا ولا ندرك متى بالضبط نصل إلى مرحلة التشبع، فلقد توقفت الكثير من المشروعات في السنوات الأخيرة، مثل مسلسلات عن حياة رشدي أباظة، ونجيب الريحاني، ومصطفي محمود، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، وروز اليوسف، وغيرهم، ما إن يتم الإعلان عن الاتجاه لإنتاج عمل فني يتناول سيرة حياة شخصية فنية أو سياسية أو دينية حتى يعترض ورثة تلك الشخصية، رافضين المساس بها، أو على أقل تقدير مطالبين بالاطلاع على السيناريو قبل التصوير، وعدم إظهار أسرار شخصية، كثيراً ما يصل الأمر إلى المحاكم أو يتعثر المشروع نهائياً، بل قد يتم التحفظ عليه في الأرشيف مثلما حدث مع مسلسل عن حياة الملحن الشيخ زكريا أحمد الذي تم إنتاجه باسم «هو صحيح الهوى غلاب» عنوان آخر الأغنيات التي لحنها لكوكب الشرق أم كلثوم، ثم صدر حُكم قضائي بإيقاف عرضه على الشاشة المصرية، ومنع تصديره لأي قناة عربية. حدث هذا قبل 12 عاماً، ولا يزال الأمر قائماً!
أصبحت الأعمال الفنية رهناً للورثة، هم الذين يمارسون سطوة مطلقة على أي مبدع يقرر أن يقدم حياة مورثهم في أي عمل فني، المحاكم مليئة بالقضايا، سواء في مصر أو سوريا أو لبنان، وبعضها لا يزال متداولاً في ساحات العدالة، مثل تلك التي أقامها ورثة ليلي مراد ضد منتج مسلسل «ليلي مراد»؛ لأنه لم يسمح لهم بمراجعة النص قبل الشروع في تصويره.
ولا ننسى، مثلاً، في سوريا ورثة الشاعر الكبير نزار قباني، قبل 12 عاماً أقاموا قضية ضد المخرج باسل الخطيب، الذي تناول حياة نزار في المسلسل، وأدى دوره تيم حسن، بينما وصل الأمر إلى إهدار دم كل من شارك في تنفيذ مسلسل «أسمهان»، وكان هذا المسلسل حلم الكثير من الكتاب والمخرجين في مصر والعالم العربي، وذلك منذ رحيل فريد الأطرش عام 1974، وكانوا دائماً يفاجأون بأن الراحل فؤاد الأطرش الشقيق الأكبر لفريد وأسمهان يرفض تماماً تقديم فيلم أو مسلسل عن حياة فريد أو أسمهان، وبعد رحيل فؤاد في مطلع التسعينات من القرن الماضي واصل ابنه فيصل فؤاد الأطرش الاعتراض، ولم يسمح لأحد بتقديم فيلم أو مسلسل عن حياة عمه فريد أو عمته أسمهان. والحقيقة أن رحلة أسمهان التي رحلت بعد حياة قصيرة لم تتجاوز 30 عاماً أغرت الكثيرين بتقديم تفاصيل حياتها، سواء من الناحية الفنية أو الإنسانية، فلا أحد ينسى مشهد النهاية في حياة أسمهان حين غرقت بسيارتها في الرياح البحري وهي في طريقها إلى رأس البر، ولم ينج من الحادث سوى السائق، وبعد أيام قلائل رحل هو الآخر، وقيل إن الحادث كان بفعل وتدبير المخابرات البريطانية أو الألمانية، لأنهما حاولا استقطاب أسمهان للعمل معهما، ودفعت أسمهان الثمن، ولم يجرؤ حتى فريد الأطرش عام 1944 بعد الحادث على مطالبة السلطات في مصر بفتح ملف القضية.
كانت أسمهان صوتاً استثنائياً في تاريخنا الفني بعد أن اكتشفها الموسيقار مدحت عاصم، وقدمت الكثير من الأغنيات الناجحة في فترة زمنية قصيرة، بالإضافة إلى فيلميها «انتصار الشباب» و«غرام وانتقام». كانت حياة أسمهان لغزاً، ورحيلها لغزاً لم يستطع المسلسل الذي كتب له السيناريو المخرج والكاتب السوري الراحل نبيل المالح، وأخرجه شوقي الماجري أن ينجو من الملاحقات القانونية والتهديدات الدموية بالتصفية الجسدية التي أعلنها عدد من الورثة في جبل الدروز مسقط رأس فريد وأسمهان. المسلسل كان هو الأكثر جرأة في أن يقدم لنا حياة الإنسانة أسمهان، وهو ما افتقدناه في أغلب مسلسلات السير الذاتية الأخرى.
كان ورثة عبد الحليم حافظ أكثر مباشرة في إعلان غضبهم، حيث دأبوا على التعبير عن احتجاجهم، مرتين الأولى ضد فيلم «حليم» آخر إطلالة سينمائية لأحمد زكي 2005، والأخرى بعدها بثلاث سنوات، ضد مسلسل «العندليب»، وفي المرتين قالوا: إن كلاً من صُناع الفيلم والمسلسل، لم يلتزموا بالحقائق التاريخية.
كانت أسرة الرئيس الراحل أنور السادات وبخاصة السيدة جيهان السادات أكثر تسامحاً في تفهم وجهة نظر صناع الفيلم السينمائي «أيام السادات»، وتركت للكاتب أحمد بهجت والمخرج محمد خان وبطل الفيلم أحمد زكي الحرية كاملة، ومنحتهم من وقتها الكثير، وسمحت لهم بالتصوير في الفيلا التي كان يقيم فيها السادات معها السيدة جيهان، حتى المواقف الشائكة في حياة السادات مثل ذهابه ليلة ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 إلى دار العرض لمشاهدة فيلم سينمائي، وأيضاً اعتقاله قبل رحيله بأسابيع قليلة لعدد كبير من المثقفين والسياسيين المصريين والمخالفين له في الرأي بسبب اتفاقية (كامب ديفيد)، كل ذلك لم تعترض عليه جيهان السادات، وكان الفيلم حريصاً في أحداثه على تبرير تلك المواقف لتصب في صالح السادات!
أيضاً، رحبت أسرة الرئيس الراحل عبد الناصر بسيناريو محفوظ عبد الرحمن لفيلم «ناصر 56» الذي لعب بطولته أحمد زكي عام 1996، حيث كان الفيلم يقدم تأريخاً لفترة 101 يوم فقط من حياة عبد الناصر، وهي تلك الأيام التي ارتبطت بقرار تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية، وبعد أن حقق الفيلم نجاحاً مدوياً في دور العرض، قرر المخرج والمنتج السوري أنور القوادري تقديم فيلم باسم «جمال عبد الناصر»، وأسند بطولته إلى خالد الصاوي في دور عبد الناصر، تناول الفيلم 35 عاماً من حياة عبد الناصر منذ نهاية الثلاثينات وحتى رحيله عام 1970، إلا أن القائمين على الفيلم فوجئوا باحتجاج الدكتورة هدى عبد الناصر ابنة الرئيس التي طالبت بألا يقدم عبد الناصر في الكثير من المواقف منها غرفة النوم وهو يرتدي بيجامة.
أما مسلسل «ناصر» الذي كتبه «يسري الجندي»، وأخرجه «باسل الخطيب»، ولعب بطولته مجدي كامل، وعرض قبل تسع سنوات فلقد تم إنتاجه تحت إشراف الدكتورة هدى عبد الناصر، انحاز المسلسل إلى جمال عبد الناصر، وافتقد النظرة الحيادية؛ لأن الورثة لم يسمحوا بأي انتقاد لشخصية عبد الناصر!
ورثة كل من إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي لم يسمحا بتقديم حياة الكاتبين الكبيرين، رغم أنه قد تمت خطوات كثيرة لإنتاج المسلسلين، بل وتم التعاقد قبل أكثر من عشر سنوات مع هشام عبد الحميد لأداء شخصية إحسان عبد القدوس ومحمد رياض لأداء دور يوسف السباعي.
وكان المخرج على بدر خان يضع اللمسات النهائية لتقديم حياة الفنانة كاميليا في عمل تلفزيوني يحمل عنوان «الفراشات يحترقن»، وكان قد سبق للمخرج عاطف سالم أن قدم منذ 40 عاماً حياة كاميليا في فيلم «حافية على جسر الذهب»، وأدت دورها ميرفت أمين ولم يعترض أحد؛ لأنه لا يوجد ورثة للفنانة كاميليا التي احترقت وهي في الطائرة المنكوبة خلال الأربعينات بعد أن سقطت بها بعد إقلاعها بلحظات، وقيل أيضاً إنه حادث مدبّر في صراع المخابرات، إلا أن المسلسل في النهاية لم ير- وأظنه أيضاً- لن ير النور!
وعلى مدى تجاوز 15 عاماً لا يزال مسلسل «مداح القمر» الذي يتناول حياة بليغ حمدي، متعثراً لأسباب إنتاجية أيضاً. لقد تتابع على بطولته كل من الراحل ممدوح عبد العليم وبعد خلافه مع المخرج مجدي أحمد علي تم ترشيح هاني سلامة، لكن فيما يبدو تم استبعاده تماماً من قائمة المسلسلات المقبلة؛ خوفاً من عدم التسويق، رغم أن حياة بليغ حمدي جاذبة فعلاً، ومليئة بالأحداث الدرامية.
يبدو أن الجمهور العربي أصيب بتخمة من كثرة مسلسلات السير الذاتية، فأصبح لا يريد منها المزيد، مردداً «نكتفي بهذا القدر وحتى إشعار آخر»!



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)