زواج أبدي بين العطور والذاكرة... في كل زجاجة قصة

رحلة حواس عبر الروائح الحديثة في معرض لندني فريد

TT

زواج أبدي بين العطور والذاكرة... في كل زجاجة قصة

كثيرا ما توقظ الروائح في ذاكرتنا أشخاصا مرّوا في حياتنا، لتستحضر لحظات عزيزة قضيناها مع من أحببنا. للرائحة ارتباط وثيق بالذاكرة يقبع في الدماغ، وهذا ما كشفته دراسات علمية حين وثّقت أن سيل الذكريات التي تتحفز بالرائحة تكون على شكل ذكرى عاطفية وغير عقلانية؛ موضحة أنّه إحساس وليس تصورا، لذا تعجز الكلمات غالبا عن وصفها.
لم يترك الروائي الألماني باتريك زوسكيند عطرا إلا وقد فصّل لقرائه مشتقاته وأصله، بدءا من رائحة الغبار لدى تساقط المطر، إلى أغصان الصنوبر والمسك، فعبق الزهور بأنواعها. ورواية «عطر» (1985)، كانت أكبر شاهد على هوسه بالعطور، فقد جسد بطل روايته دور رجل مختل عقليا، يرتكب سلسلة من الجرائم بغرض استخلاص العطور الطبيعية من أجساد 24 حسناء من باريس. وبعيدا عن التفسيرات فقد أعاد زوسكيند الرواية كإشارة إلى هتلر ووصوله الدراماتيكي للسلطة، وكانت تجسيدا لأهمية العلاقة بين حاسة الشم والذاكرة، العطر والشعور.
توفّر المعارض الفنية لزوارها عادة، تجربة تغذي البصر من خلال فوضى الألوان أو تناسقها. لكن الزوار هذا الصيف كانوا على موعد مع تجربة فريدة من نوعها. أغلق عينيك واعتمد على أنفك، ليتحول الجناح الشرقي لمبنى «سومرسيت هاوس» اللندني العريق، إلى متاهة تجنّ فيها العطور متراقصة.
معرض العطر: «رحلة حواس عبر الروائح الحديثة»، افتتح أبوابه يوم الأربعاء الماضي، ويستمر حتى 17 سبتمبر (أيلول) المقبل.
يصطحب المعرض حواس كل من يرتاده في جولة فريدة من نوعها بعالم من العطور، ليسير به في درب تطورها عبر العصور. «دع انفك يتجوّل في أرجائه، والجم عينيك من السيطرة على تجربتك الحسية»، تعليمات بسيطة بكلمات تفرض عليك وروحك تطير لخوض هذه التجربة، فتدخل المعرض لتستسلم لحاسة الشم، وتخرس ما تبقى من حواس.
ولكن كيف لمعرض أن يقوم «تذوقه» كليا على حاسة الشم؟ تؤكد كلير كاتيرال كبيرة أمناء «سومرسيت هاوس» أن تحقيق ذلك كان تحديا كبيرا. وتضيف: «أردنا أن نوفر تجربة جريئة ونقية، فاخترنا ألا نملأ القاعات بالقطع الفنية، فالمحور الرئيس للمعرض هو العطور، فعند شم عطر معين قد يقوي ذاكرتك، ويحملك تلقائيا إلى مكان وزمان، لا تقوى أي صورة أو أغنية على موازاتها».
* تاريخ العطور عبر العصور
عرف الإنسان العطر منذ قرون، مع استنشاقه للورود والأعشاب، فكان يقطع الأعشاب ويحرقها لتعطيه الروائح العطرة، وغالبا ما كان ذلك مخصصا للزينة. وعلى مر السنين تنوعت المكونات التي تدخل في صناعة العطور. وبدأ التفنن بتحضير مكونات جديدة من العطور المصنعة والمركبة، في القرن التاسع عشر. وكان إيمي غيرلان من أهم رواد هذه الثورة التي انطلقت في عالم العطور. وخلال تلك الحقبة الزمنية، صنفت أنواع العطور وقسّمت إلى ثلاثة أنواع رئيسية: العطور الوردية، وعطور الفاكهة، والعطور الأورينتالية. وأصبحت من أساسيات الموضة ومكلمة لعالم الأزياء في كل بيت.
أسباب عدّة تدفع الإنسان لاستخدام العطور، إذ تحدّد الرائحة هوية الشخص التي تميّزه عن غيره، وتجذب الناس إليه. والأهم من ذلك أن العطر نفسه يختلف بين شخص وآخر، وحتى مع استخدامه من قبل اثنين وإن تعطرا من نفس زجاجة، ستكون الرائحة حتما مختلفة لدى استقرارها على جسديهما. يفضل البعض التنويع باستخدام العطور، فيما يرتبط آخرون بعلاقة أبدية بعطر محدّد، ويمتنعون عن خيانته.
وراء كل زجاجة عطر قصة يرويها المعرض في غرفته الأولى التي تتوسطها طاولة عليها مجموعة مختارة من عطور القرن العشرين. فآنذاك، فتح عطر «شيبر دو كوتي»، عام 1917، الباب أمام العطور الجريئة التي تحتوي مكوناتها على العنبر. ومن منا لا يعرف عطر «شانيل» الشهير «رقم 5»، الذي أطلق عام 1921، ليمثل مرحلة العشرينات الحالمة بعبق الزهور في زمن الجاز والأزياء الفخمة وأنوثة النساء. أما عطر «يوث ديو» الذي أطلقته «إس تي لودر» عام 1953، فكان باكورة انتقال صناعة العطور إلى العالمية وإيصالها إلى أميركا. طورت المصممة العطر ليكون منتجا ترفا، لكن بمتناول أيدي سيدات ما بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1977 طور إيف سان لوران عطر «أوبيوم» أي أفيون، المثير للجدل، في فترة شهدت أميركا وأوروبا حالة من التحرر وانتشار المخدرات. أتى هذا العطر لمواكبة الموجة. أما عطر «بيفرلي هيلز» الذي أطلقه جيورجيو في عام 1981، فتميز برائحة لبان بنكهة براعم البرتقال والياسمين. كانت رائحة «بيفرلي هيلز» قوية جدا، ويقال إن بعض مطاعم نيويورك منعت دخول كل من يضع هذا العطر. فيما صاحبت فترة التسعينات التي اتسمت بالعملية والمرونة، عطرا بسيطا من «كالفين كلاين» اسمه «سي كيه وان» يصلح استخدامه من الطرفين نساء ورجالا.
* عطر القرن الـ21
طرأت تغيرات كثيرة على فن صناعة العطور، فمع بداية القرن الحالي، وتحديدا خلال 17 سنة، تحول تركيز الصناعة من العلامة التجارية إلى العطار. فبعدما كان مبتكر العطر يعمل وراء الكواليس، أصبح اليوم يضيف من شخصيته الخاصة إلى تركيبة العطر، حسب ما قالت ليزي أوستروم القائمة على المعرض. وتقول كاتيرال، إن السبب وراء تلك التغيرات أن ثقافة صناعة العطور أصبحت أكثر جرأة وتعبيرا؛ لأن الناس لم تعد تكفيهم الزجاجة اللافتة والعطور التقليدية، بل باتوا يبحثون عن عطور ذات مكونات غريبة وروائح جديدة لخلق ذكريات جديدة معها. وتضيف: «الناس يريدون اشتمام روائح حياتهم اليومية في عطورهم، حتى رائحة الأسفلت». وتضيف: «الروائح التي تستهوي الشخص هي التي تذكره بشخص أو تصحبه إلى مكان ما، والناس اليوم متعطشون للسفر في مغامرة من خلال زجاجة العطر». وتردف: «كل ما نريده اليوم هو أن تكون عطورنا أكثر جرأة منا، وتسافر بنا إلى المجهول».
وفتح الإنترنت الباب أمام المستهلك للبحث عن مكونات عطره بالتفصيل، بعيدا عن الحملات الدعائية التقليدية، بل ودفعت بعض الهواة إلى تركيب عطور بأنفسهم، بعدما كانت تلك الصناعة حكرا على خريجي جامعات عريقة في فرنسا متخصصة بهذا الشأن. وعلى الرّغم من أنّ الصناعة التقليدية لا تزال حية وعريقة إلى يومنا هذا وبقيت محافظة على أصولها، فإنّ تجارب الهواة استطاعت بدورها أن تنجح وتثبت قدرتها في ابتكار أنواع مميّزة من عطور. وهذا ما يكشفه المعرض للزوار.
* 10 عطور و10 ذكريات
معرض لا يشبه المعارض، فليس للديكور من وجود، تقف حواسك الأربع لترتفع حاسة الشم، وتتربع ملكة في جسدك، حيث تنطلق رحلتك مع العطور من الغرفة رقم 2. تقف أولا أمام لوح يطلب منك أن تلتقط ورقة بيضاء معلقة على الحائط أمامك، وتتناول قلما من أقلام الرصاص المستكينة في سلة مجاورة. وما عليك سوى أن تجول في عشر غرف مختلفة، لتشتم في كلّ منها عطرا مختلفا، وتقيّمه بتدوين ملاحظاتك عنه؛ من يوقظ هذا العطر في زجاجة ذاكرتك؟ وما يا ترى أبرز مكوناته؟
وجدت نفسي عاجزة عن انتقاء وصف محدّد للروائح المتنوعة، وأنّ اللغتين العربية والإنجليزية ليس فيهما مصطلح واحد أنتقيه لوصف الروائح المتنوعة التي اخترقت ذاكرتي. وغرفة تلو الأخرى، ماتت جميع الأوصاف لتتراكم الذكريات «متدافشة» في مخيلتي، وفصلتني العطور عن الواقع لتصطحبني في رحلة مع الزمن لعوالم 10 يختلف كل واحد فيها عن الآخر. وبعد شم 5 عطور وتدوين الملاحظات، دخلت غرفة احتوت على العطور الخمسة الأولى، لكن أسماءها هذه المرة كانت مرفقة بقائمة مكوناتها ومعلومات عن الذي ابتكرها على ألواح علقت على الحائط.
وأكملت بعدها المغامرة لأتابع مسيرة شم العطور الخمس المتبقية، لتكشف لي من جديد غرفة أخرى وأخيرة عن أسرار تلك العطور. صدمت حين رأيت أن جميع ملاحظاتي التي دوّنتها عن العطور العشرة، جاءت دقيقة في معظمها، ما زاد ثقتي بحاسة الشم وأهميتها.
تناثرت رائحة العطر الأول بين حبيبات الأسفلت. وبالفعل عندما اشتممته تغلغلت رائحة الشوارع والمدن الكبيرة فيه. تخيلت وكأن مستخدمه رجل ناضج يرتدي بذلة رسمية وربطة عنق، وبيده شنطة جلدية ويمشي في طريق عريض يوميا، متجها إلى عمله في بنك أو شركة محاماة. هذا العطر من ابتكار المميز مارك بوكستون، الذي لمع اسمه واشتهر خلال مسابقة تلفزيونية، لحاسة شمه المتطورة وقدرته على التعرف على مكونات أي شيء يشمه، وأطلق بعدها عطر «كوم دي غارسون» عام 1999، ويحتوي بالفعل على مكونات تدخل في صناعة الأسفلت إلى جانب خشب الأرز.
العطر الثاني اندفعت رذاذاته من جسم غريب يتوسط الغرفة. اشتممته مرّتين، وجذبني، وكأنّه مسبب للإدمان. صحبني إلى مشغل يدوي حيث تصنع مجسمات المهندسين المعماريين. صاحب العطر الريادي الألماني غيزا شوين، أطلقه عام 2006 تحت اسم «المركب 1». وهو بالفعل يذكرك برائحة المواد الكيماوية والصمغ وغيرها، لكنّ هذا العطر مصمم لـ«يرتدي» جسدك ويتحول من رائحة كيماوية إلى عطر طيب.
غرفة فارغة ليس في داخلها إلا سرير يعلوه شرشف أبيض حمل في نسيجه العطر الثالث. رائحة الشرشف وكأنها تخبرك عن شخص نام على السرير في ليلة حارة وكان متعطرا فاختلط عرقه برائحة العطر. استغربت هذا العطر لكنّني أعجبت باختلافه عن أي عطر آخر شممته في حياتي. هذا العطر الغريب من ابتكار الفرنسي أنطوان لي، أطلقه عام 2006. ليعبر عن حالة من التمرد ضد الثقافة الاستهلاكية. عطوره تمثل العلاقات الإنسانية، وقد شهدت انتقادات من البعض أنّها ليست طيبة، لكنّها بالتأكيد فريدة ولها أبعاد وعمق مجتمعي.
في الغرفة التالية ستارة بيضاء تراقصها نسمات الهواء لينفح منها العطر الرابع. عبق الورود والفخامة عادا بي إلى أيام الزمن الجميل، لأتخيل نفسي في فيلم مصري لفاتن حمامة أو في صالون لأحد أثرياء فيينا، محاطة بنساء راقيات من المجتمع المخملي. العطر لصاحبته أوليفيا جياكوبيتي، ومكوناته خليط ما بين الزهور والمركبات الكيماوية الجديدة التي أحدثت ثورة في عطور الزهور، وأبعدتها عن التقليدية والنمطية.
أريكة ليلكية وخضراء، وكأنها في غرفة جلوس من سبعينات القرن الماضي، تتوسط الغرفة التي تحتضن العطر الخامس، وكان بوهيميا، حالما إنّما ليس هادئا. ذكرني بحقبة موسيقى جيمي هندريكس وبرينس وجانيس جوبلين لسبب لم أفهمه. وصدمت حين اكتشفت لاحقا أنّ اسم العطر «بيربل راين» أو «المطر الليلكي» للمغني الراحل برينس! العطر من ابتكار دانييلا أندرير التي تهدف إلى إعادة رسم سيناريوهات الماضي من خلال العطور، وتعاونت في بعض مشروعاتها مع «برادا».
تناثرت أغطية القوارير وعبوات المشروبات على طاولة رخامية، وحولها أعواد القش وأغصان الأشجار، بين مثلثات بثت رائحة قوية. العطر السادس كان رجوليا. تخيلت رجلا أميركيا ملتحيا يتجول في الغرفة كلما شممت أكثر. يقف الموسيقي ديفيد مولتز وراء عطر «إيل كوسميكو»، وبالفعل طوره ليجسد نمط الحياة في غرب تكساس، وضمن في مكوناته روائح الأرض والزعتر والفلفل الأسود وخشب أشجار الأرز.
العطر السابع كان المفضل لدي. من على مقاعد خشبية تعبق رائحة الغابات والمسك والأوراق الناشفة. العطر أشعرني بالاطمئنان وكأنني سأخوض رحلة بل مغامرة لكنّني لم أهبها. الشابة الإنجليزية لين هاريس، ابتكرت هذا العطر المميّز، مطلقة عليه اسم «فحم» عام 2015.
تدربت لين على صنع العطور في باريس، ومن ثمّ انتقلت إلى لندن لتصنع عطورا تتماشى مع الطبيعة والمواسم المختلفة. عطرها «فحم» صنعته ليذكر من يشمه بأجمل أوقات عاشها.
دخلت بعدها إلى مرسم. طاولات خشبية ومقاعد معدنية. فُرَش وألوان مائية تفوح منها رائحة عطر ذكرني بالفعل بمعلماتي بالمدرسة. «لير دو ديزير موروكان»، أي هواء الصحراء المغربية كان العطر الثامن من صنع آندي تاور خبير التقنية، والذي يعتمد عليها في تحضير عطوره المختلفة.
لدى دخولي غرفة أخرى انتابني الخوف. مقاعد خشبية تفرقها عوازل خشبية، تتدلى من السقف كرات جلدية سوداء، تفوح برائحة المنظفات والمعقمات. لم أشعر بالراحة عندما استنشقت العطر التاسع، لكنّني تأملت بأبعاده الفنية. تبين أنّه من صنع بيرتراند دوخاوفور، أبرز العطارين في العالم وأكثرهم تفردا. لم يستهوني العطر، لكن عطوره الأخرى قد تكون أكثر تميزا لاعتماده على البخور والمواد الطبيعية.
في الغرفة الأخيرة كان علي اختيار دمية محشوة من على الرف والدخول إلى غرفة سوداء لالتقاط صورة «سيلفي» معها أثناء شمها. رائحة الكلورين فاحت منها، ذكرتني برحلاتي إلى مدينة الملاهي مع أهلي أيام الطفولة.
أمّا العطر العاشر فمن ابتكار المغني كيليان ويلز، أطلقه عام 2015، ليعود بمن يشمه إلى تسعينات القرن الماضي، إلى أيام الكاسيت والألعاب. عطر «نوستالجي» ومع هذا الحنين تجده يبعث السعادة في روحك.
إن كنت من عشّاق العطور فلا تفوّت زيارة المعرض الذي سيفتح أعينك - أو في هذه الحالة أنفك - على عالم لم «تشمه» من قبل.


مقالات ذات صلة

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

من قلب المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلاقى الأصالة والحداثة، تبرز مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي واحدةً من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء.

أسماء الغابري (جدة)
لمسات الموضة كانت روح ماريا تحوم في قصر غارنييه بكل تجلياتها (ستيفان رولان)

من عاشقة موضة إلى مُلهمة

كل مصمم رآها بإحساس وعيون مختلفة، لكن أغلبهم افتُتنوا بالجانب الدرامي، وذلك التجاذب بين «الشخصية والشخص» الذي أثَّر على حياتها.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يقودها ويحدد اتجاهاتها... فشخصيتها واضحة، كما أنها تمتلك نجماً ساطعاً يتمثل في أليافها وصوفها الملكي.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة النجمة المصرية نيللي كريم كما ظهرت في عرض هنيدة الصيرفي (هيئة الأزياء)

الرياض... لقاء الثقافة والأناقة

غالبية العروض في الدورة الثانية من أسبوع الرياض منحتنا درساً ممتعاً في كيف يمكن أن تتمازج الثقافة والهوية بروح الشباب التواقة للاختلاف وفرض الذات.

جميلة حلفيشي (لندن)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».