الهجمات على طهران... وعلاقاتها الشائكة مع «داعش»

توجه التنظيم للعمليات في إيران ضرورة استراتيجية له بعد فشله في العراق وسوريا

تشييع  ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
تشييع ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
TT

الهجمات على طهران... وعلاقاتها الشائكة مع «داعش»

تشييع  ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
تشييع ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)

أثارت الهجمات التي شنها تنظيم داعش على مقر البرلمان الإيراني وضريح الخميني، وأسفرت عن مقتل 12 شخصاً وجرح 42 آخرين، الكثير من التساؤلات حول سبب استهداف التنظيم إيران الآن بعد أن تجاهلتها الهجمات منذ بدء تأسيس «داعش». الأمر الذي قد يشي بنقلة استراتيجية للتنظيم باستهدافها المباشر للكيانات السياسية والدينية لإيران، وإلغاء وصاية تنظيم القاعدة بحرصه على عدم المساس بإيران. بالأخص بعد أن تراجع نفوذ «داعش» في كل من العراق وسوريا واستحالت هجماته إلى عشوائية تستهدف كل بقاع العالم. فالعالم أجمع هو عدو لـ«داعش»، والهجمات وجّهت لكل من طهران ولندن في شهر رمضان الذي وقع هو الآخر ضحية للتنظيم بعد أن أصبح على مر السنوات شهر يعتزم فيه تكثيف هجماته.
لا يعد اختيار شهر رمضان توقيتاً للهجمات الداعشية بأمر جديد، إذ يأتي امتداداً لنهج التنظيم في استغلاله للكثير من المناسبات الدينية سواء يتم اختيارها لاكتظاظها بعدد كبير من الضحايا المحتملين، كما حدث مع الأقباط في مصر، أو اختيار مناسبة دينية كشهر رمضان وهو رمز الصبر والعبادة، ليستحيل عبر حملات إعلامية مكثفة إلى وقت مناسب لتحريض المنتمين إلى التنظيم أو المتعاطفين معه لشن هجمات إرهابية. كتصريح المتحدث الرسمي السابق باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني في 22 مايو (أيار) 2016. حين دعا أعضاء التنظيم لشن هجمات إرهابية في أوروبا: «ها قد أتاكم رمضان شهر الغزو والجهاد شهر الفتوحات فتهيؤوا وتأهبوا لتجعلوه شهر وبال في كل مكان على الكفار، وأخص جنود الخلافة وأنصارها في أوروبا وأميركا». هذه التصريحات التحريضية تلتها هجمات إرهابية مكثفة من قبل «داعش» ففي شهر رمضان وحده في عام 2016 وحده، استهدف التنظيم عبر هجماته بقاع متفاوتة ما بين مطار أتاتورك في إسطنبول، والسعودية التي تعرضت لهجمات متتابعة في يومين متتاليين أبرزها موقف سيارات لقوات الطوارئ قرب الحرم النبوي، ومسجد للشيعة في محافظة القطيف، وتفجير داخل مواقف إحدى مستشفيات مدينة جدة، بالإضافة إلى هجمات إرهابية كثيرة في العراق.
ولفترة طويلة ظهر ما هو أشبه بإسقاط إيران من أجندة الهجمات الإرهابية بدءاً من تنظيم القاعدة وامتداداً إلى «داعش»، إذ لم تتعرض إيران لأي هجمات إرهابية من قبلهما وذلك على الرغم من التنافر الإيراني الداعشي من حيث التوجه الطائفي، إلا أن المواجهة ما بينهما اكتفت بالتواجد على الساحة العراقية والسورية. وتعود آخر هجمة إرهابية تعرضت لها بلاد فارس إلى تاريخ 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2009. أثناء لقاء مسؤولين من الحرس الثوري بوجهاء في محافظة سيستان بلوشستان، مما أدّى إلى مقتل 29 شخصاً بينهم ضابط كبير. وقد نسب الاعتداء إلى جماعة جند الله السنية البلوشية التي تطالب باستقلال إقليم بلوشستان عن إيران. وسبق ذلك بنحو العام والنصف في أبريل (نيسان) 2008 انفجار في مسجد الحسين بمدينة شيراز أثناء الصلاة مما أودى بحياة 14 شخصا وإصابة ما يزيد عن 200 شخص وتبنته منظمة شبه مجهولة تحت مسمى «جنود الجمعية الملكية الإيرانية». فيما بدا احتمال مهاجمة إيران من قبل تنظيم داعش غير متوقع، مما تسبب بتشكيك المحللين السياسيين لمدى جدية التهديدات التي وجهها «داعش» لإيران عبر تسجيل مرئي باللغة الفارسية في 27 مارس (آذار) 2017 بعنوان: «بلاد فارس بين الماضي والحاضر»، والإعلان عن تشكيل قوة عسكرية مثلتها «كتيبة سلمان الفارسي» تهدف إلى تهديد أمن إيران، واتهام نظامها بمطاردة واضطهاد المسلمين السنة.
* «داعش» ليس «القاعدة»
برز دور تنظيم داعش في قلب العراق وقد استخدمت شعائر طائفية تطالب المسلمين السنة بالنهوض ومواجهة الشر الذي يمثله ما وصفتهم بـ: «الروافض» و«الخونة» و«عملاء إيران» إلى جانب تكفير وتجريم الأنظمة العربية والمسلمة وتحويل العالم أجمع كعدو لهم في مواجهة المنتمين للتنظيم وهم وحدهم على طريق الصواب، فيما يظهر التفاوت ما بينه وتنظيم القاعدة في تركيز الأخير على استهداف الدول الغربية وحدها وعلى رأسها الولايات المتحدة مع وجود حرص على عدم استهداف إيران بشكل عام والشيعة في العراق. العلاقة الشائكة ما بين إيران والتنظيمات المتطرفة السنية يظهرها تصريح أبو محمد العدناني المتحدث السابق باسم تنظيم داعش، ظهر في تسجيل صوتي معنون «عذراً أمير القاعدة» يعود بتاريخه إلى 11 مايو 2014، رافضاً سياسة تنظيم القاعدة التي حرصت على توجيه تنظيم داعش بعدم توجيه ضربات للشيعة بشكل عام ولإيران بشكل خاص. «ظلت الدولة الإسلامية تلتزم نصائح وتوجيهات شيوخ الجهاد ورموزه، ولذلك لم تضرب الدولة الإسلامية الروافض في إيران منذ نشأتها، وتركت الروافض آمنين في إيران، وكبحت جماح جنودها المستشيطين غضباً، رغم قدرتها آنذاك على تحويل إيران لبرك من الدماء، وكظمت غيظها كل هذه السنين، تتحمل التهم بالعمالة لألد أعدائها لإيران، لعدم استهدافها، تاركة الروافض ينعمون فيها بالأمن والأمان، امتثالا لأمر القاعدة، للحفاظ على مصالحها، وخطوط إمدادها في إيران».
وتعكس هذه التصريحات حرص المتحدث الرسمي السابق لـ«داعش» دحض الاتهامات التي تلتف حول التنظيم وتورطه بعلاقة مع إيران، إذ أن ذلك يتنافى مع الرسالة الداعشية التي تجلت منذ بداية تأسيس التنظيم وصرح أبو بكر البغدادي في أكثر من مناسبة حول تخوين الشيعة وضرورة استهدافهم في العراق، الأمر الذي تسبب بتصاعد الطائفية وإراقة الدماء. ليعزو العدناني بذلك سبب التحفظ في توجيه هجمات لإيران إلى توجيهات «القاعدة» لهم، ويظهر ذلك عبر توصيات أحد أبرز قياديي «القاعدة» أيمن الظواهري بعدم المساس بإيران ويظهر ذلك عبر رسالة شديدة اللهجة وجهها لأبي مصعب الزرقاوي في عام 2005 وأكد فيها بأن: «الشيعة ليسوا هدفاً لتنظيم القاعدة» وذلك في رد على مطالبة الزرقاوي مهاجمة إيران. فيما طالب بعدم إثارة إيران عبر استهداف الشيعة في العراق.
هنا يجوز التساؤل حول سبب حدوث الهجمات في هذا التوقيت على وجه الخصوص، فتصريحات أبو محمد العدناني، الذي قتل في حلب، قديمة تعود إلى عام 2014. وتظهر إعلان تمرد على توجيهات التنظيم الذي يعد ليس فقط الأب الروحي للتنظيم، وإنما جزء منه قبل أن يصبح له كيانه المستقل. في تسجيل صوتي بعنوان: «فستذكرون ما أقول لكم» تحدث أبو الحسن المهاجر لأول مرة بصفته المتحدث الرسمي للتنظيم خلفاً للعدناني مهددا إيران: «لقد بلغ الشر من دولة المجوس إيران منتهاه واستطار الشرر فعم البلاد وساء العباد، ففتكت بأهل السنة في العراق والشام عبر وكلائها وخبرائها ومستشاريها فأمسى السني بين مكبّل قابع وذليلٍ خانع تابع ولم يكف هذا إذ لم يكن لها من المسلمين رادع بعد الله غير دولة الإسلام».
* ضرورة استراتيجية
توجيه تنظيم داعش هجمات إرهابية لإيران بات «ضرورة استراتيجية» للتنظيم بعد فشله في إقامة خلافة مزعومة, في كل من العراق وسوريا، وفرار الكثير من زعماء التنظيم خارج الموصل، فاستهداف إيران يعد بمثابة نجاح للتنظيم يغطي على هزائمه المتتالية وتقهقر عملياته, وبالأخص مع تنامي دور إيران في كل من العراق وسوريا من خلال زيادة عدد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق، وقد تأسس عدد منها بهدف محاربة تنظيم داعش، فيما استهدف عدد منها السنة بشكل عام في العراق دون تمييز بين المتطرفين والمدنيين بدافع انتقامي مما أجج من الطائفية التي أشعلتها «داعش» فيما قبل. وكما هو معروف برزت ميليشيات شيعية في سوريا بدعم إيراني بهدف دعم نظام بشار الأسد. وبشكلٍ عام بات استهداف الدول خارج مناطق الصراع أسهل على تنظيم داعش بعد أن وجهت قوات التحالف الدولي ضربات قوية للتنظيم عبر غارات جوية وبرية مكثفة ضيقت الخناق عليه في أماكن قوته في العراق وسوريا. ومن جهة أخرى فإن من السهل تنفيذ مثل هذه الهجمات كونها عشوائية مباغتة وبمثابة انتقام لكل من تورط في توجيه هجمات لـ«داعش». وإن كانت قدرة التنظيم على تكرار مثل هذه العمليات الإرهابية ليست بالأمر السهل بالأخص بعد تشديد الاحترازات الأمنية في الدول التي تمتلك قدرات أمنية قوية، وتعتمد على مدى تغلغل أعضاء التنظيم في هذه الدول.
لذلك من الصعب التكهن في تكرار عمليات «داعشية» في إيران، وستحدد الفترة القادمة توجه التنظيم ومدى إمكانياته القيام بذلك، فقد تطرقت بيانات وتسجيلات تنظيم داعش الأخيرة التي هددت إيران عبرها بوجود أعضاء متطرفين شرقي العراق ينتمون لكتيبة سلمان الفارسي عازمين على مهاجمة إيران. وقد عكس بيان الحرس الثوري توعد إيران وملاحقتها للمتسببين بالهجمات الإرهابية: «لن نترك إراقة الدماء من دون ثأر، ولن نتردد لحظة في صيانة أرواح الشعب». وأظهر تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جهته ذلك الغموض الذي يكتنف طبيعة العلاقة ما بين إيران والتنظيمات الإرهابية التي تخالف توجهاتها، إذ عقب إبدائه تعاطفه مع ضحايا التفجيرات ذكر ترمب بأن «رعاة الإرهاب يقعون ضحية له». وذلك في إشارة إلى التورط الإيراني في دعم الإرهاب في المنطقة، وقد أثار تعليقه اللغط والاستنكار وأشعل غضب المسؤولين الإيرانيين.


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

الولايات المتحدة​  وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا (أ.ف.ب)

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لوكالة أسوشيتد برس إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إبقاء قواتها في سوريا لمنع تنظيم داعش من إعادة تشكيل تهديد كبير.

«الشرق الأوسط» (قاعدة رامشتاين الجوية (ألمانيا))
المشرق العربي وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (الخارجية التركية)

تركيا تكشف عن 4 مطالب دولية في سوريا

كشفت تركيا عن إجماع دولي على 4 شروط يجب أن تتحقق في سوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد وهددت بتنفيذ عملية عسكرية ضد القوات الكردية في شمال سوريا وسط دعم من ترمب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قائد الجيش الأردني اللواء يوسف الحنيطي مستقبلاً وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة (التلفزيون الأردني)

بين أنقرة ودمشق… مساع أردنية لإعادة بناء قدرات «سوريا الجديدة»

هناك رأي داخل مركز القرار الأردني ينادي بدور عربي وإقليمي لتخفيف العقوبات على الشعب السوري و«دعم وإسناد المرحلة الجديدة والانتقالية».

محمد خير الرواشدة (عمّان)
المشرق العربي فيدان والصفدي خلال المؤتمر الصحافي في أنقرة (الخارجية التركية)

تنسيق تركي - أردني حول دعم المرحلة الانتقالية في سوريا... وعودة اللاجئين

أبدت تركيا توافقاً مع الأردن على العمل لضمان وحدة وسيادة سوريا ودعم إدارتها الجديدة في استعادة الاستقرار وبناء مستقبل يشارك فيه جميع السوريين من دون تفرقة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي عبد القادر مؤمن

كيف أصبح ممول صومالي غامض الرجل الأقوى في تنظيم «داعش»؟

يرجّح بأن الزعيم الصومالي لتنظيم «داعش» عبد القادر مؤمن صاحب اللحية برتقالية اللون المصبوغة بالحناء بات الرجل الأقوى في التنظيم

«الشرق الأوسط» (باريس)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».