الهجمات على طهران... وعلاقاتها الشائكة مع «داعش»

توجه التنظيم للعمليات في إيران ضرورة استراتيجية له بعد فشله في العراق وسوريا

تشييع  ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
تشييع ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
TT

الهجمات على طهران... وعلاقاتها الشائكة مع «داعش»

تشييع  ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)
تشييع ضحايا الهجمات الإرهابية على مقر البرلمان وضريح خميني الأسبوع الماضي (إ.ب.أ)

أثارت الهجمات التي شنها تنظيم داعش على مقر البرلمان الإيراني وضريح الخميني، وأسفرت عن مقتل 12 شخصاً وجرح 42 آخرين، الكثير من التساؤلات حول سبب استهداف التنظيم إيران الآن بعد أن تجاهلتها الهجمات منذ بدء تأسيس «داعش». الأمر الذي قد يشي بنقلة استراتيجية للتنظيم باستهدافها المباشر للكيانات السياسية والدينية لإيران، وإلغاء وصاية تنظيم القاعدة بحرصه على عدم المساس بإيران. بالأخص بعد أن تراجع نفوذ «داعش» في كل من العراق وسوريا واستحالت هجماته إلى عشوائية تستهدف كل بقاع العالم. فالعالم أجمع هو عدو لـ«داعش»، والهجمات وجّهت لكل من طهران ولندن في شهر رمضان الذي وقع هو الآخر ضحية للتنظيم بعد أن أصبح على مر السنوات شهر يعتزم فيه تكثيف هجماته.
لا يعد اختيار شهر رمضان توقيتاً للهجمات الداعشية بأمر جديد، إذ يأتي امتداداً لنهج التنظيم في استغلاله للكثير من المناسبات الدينية سواء يتم اختيارها لاكتظاظها بعدد كبير من الضحايا المحتملين، كما حدث مع الأقباط في مصر، أو اختيار مناسبة دينية كشهر رمضان وهو رمز الصبر والعبادة، ليستحيل عبر حملات إعلامية مكثفة إلى وقت مناسب لتحريض المنتمين إلى التنظيم أو المتعاطفين معه لشن هجمات إرهابية. كتصريح المتحدث الرسمي السابق باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني في 22 مايو (أيار) 2016. حين دعا أعضاء التنظيم لشن هجمات إرهابية في أوروبا: «ها قد أتاكم رمضان شهر الغزو والجهاد شهر الفتوحات فتهيؤوا وتأهبوا لتجعلوه شهر وبال في كل مكان على الكفار، وأخص جنود الخلافة وأنصارها في أوروبا وأميركا». هذه التصريحات التحريضية تلتها هجمات إرهابية مكثفة من قبل «داعش» ففي شهر رمضان وحده في عام 2016 وحده، استهدف التنظيم عبر هجماته بقاع متفاوتة ما بين مطار أتاتورك في إسطنبول، والسعودية التي تعرضت لهجمات متتابعة في يومين متتاليين أبرزها موقف سيارات لقوات الطوارئ قرب الحرم النبوي، ومسجد للشيعة في محافظة القطيف، وتفجير داخل مواقف إحدى مستشفيات مدينة جدة، بالإضافة إلى هجمات إرهابية كثيرة في العراق.
ولفترة طويلة ظهر ما هو أشبه بإسقاط إيران من أجندة الهجمات الإرهابية بدءاً من تنظيم القاعدة وامتداداً إلى «داعش»، إذ لم تتعرض إيران لأي هجمات إرهابية من قبلهما وذلك على الرغم من التنافر الإيراني الداعشي من حيث التوجه الطائفي، إلا أن المواجهة ما بينهما اكتفت بالتواجد على الساحة العراقية والسورية. وتعود آخر هجمة إرهابية تعرضت لها بلاد فارس إلى تاريخ 18 أكتوبر (تشرين الأول) 2009. أثناء لقاء مسؤولين من الحرس الثوري بوجهاء في محافظة سيستان بلوشستان، مما أدّى إلى مقتل 29 شخصاً بينهم ضابط كبير. وقد نسب الاعتداء إلى جماعة جند الله السنية البلوشية التي تطالب باستقلال إقليم بلوشستان عن إيران. وسبق ذلك بنحو العام والنصف في أبريل (نيسان) 2008 انفجار في مسجد الحسين بمدينة شيراز أثناء الصلاة مما أودى بحياة 14 شخصا وإصابة ما يزيد عن 200 شخص وتبنته منظمة شبه مجهولة تحت مسمى «جنود الجمعية الملكية الإيرانية». فيما بدا احتمال مهاجمة إيران من قبل تنظيم داعش غير متوقع، مما تسبب بتشكيك المحللين السياسيين لمدى جدية التهديدات التي وجهها «داعش» لإيران عبر تسجيل مرئي باللغة الفارسية في 27 مارس (آذار) 2017 بعنوان: «بلاد فارس بين الماضي والحاضر»، والإعلان عن تشكيل قوة عسكرية مثلتها «كتيبة سلمان الفارسي» تهدف إلى تهديد أمن إيران، واتهام نظامها بمطاردة واضطهاد المسلمين السنة.
* «داعش» ليس «القاعدة»
برز دور تنظيم داعش في قلب العراق وقد استخدمت شعائر طائفية تطالب المسلمين السنة بالنهوض ومواجهة الشر الذي يمثله ما وصفتهم بـ: «الروافض» و«الخونة» و«عملاء إيران» إلى جانب تكفير وتجريم الأنظمة العربية والمسلمة وتحويل العالم أجمع كعدو لهم في مواجهة المنتمين للتنظيم وهم وحدهم على طريق الصواب، فيما يظهر التفاوت ما بينه وتنظيم القاعدة في تركيز الأخير على استهداف الدول الغربية وحدها وعلى رأسها الولايات المتحدة مع وجود حرص على عدم استهداف إيران بشكل عام والشيعة في العراق. العلاقة الشائكة ما بين إيران والتنظيمات المتطرفة السنية يظهرها تصريح أبو محمد العدناني المتحدث السابق باسم تنظيم داعش، ظهر في تسجيل صوتي معنون «عذراً أمير القاعدة» يعود بتاريخه إلى 11 مايو 2014، رافضاً سياسة تنظيم القاعدة التي حرصت على توجيه تنظيم داعش بعدم توجيه ضربات للشيعة بشكل عام ولإيران بشكل خاص. «ظلت الدولة الإسلامية تلتزم نصائح وتوجيهات شيوخ الجهاد ورموزه، ولذلك لم تضرب الدولة الإسلامية الروافض في إيران منذ نشأتها، وتركت الروافض آمنين في إيران، وكبحت جماح جنودها المستشيطين غضباً، رغم قدرتها آنذاك على تحويل إيران لبرك من الدماء، وكظمت غيظها كل هذه السنين، تتحمل التهم بالعمالة لألد أعدائها لإيران، لعدم استهدافها، تاركة الروافض ينعمون فيها بالأمن والأمان، امتثالا لأمر القاعدة، للحفاظ على مصالحها، وخطوط إمدادها في إيران».
وتعكس هذه التصريحات حرص المتحدث الرسمي السابق لـ«داعش» دحض الاتهامات التي تلتف حول التنظيم وتورطه بعلاقة مع إيران، إذ أن ذلك يتنافى مع الرسالة الداعشية التي تجلت منذ بداية تأسيس التنظيم وصرح أبو بكر البغدادي في أكثر من مناسبة حول تخوين الشيعة وضرورة استهدافهم في العراق، الأمر الذي تسبب بتصاعد الطائفية وإراقة الدماء. ليعزو العدناني بذلك سبب التحفظ في توجيه هجمات لإيران إلى توجيهات «القاعدة» لهم، ويظهر ذلك عبر توصيات أحد أبرز قياديي «القاعدة» أيمن الظواهري بعدم المساس بإيران ويظهر ذلك عبر رسالة شديدة اللهجة وجهها لأبي مصعب الزرقاوي في عام 2005 وأكد فيها بأن: «الشيعة ليسوا هدفاً لتنظيم القاعدة» وذلك في رد على مطالبة الزرقاوي مهاجمة إيران. فيما طالب بعدم إثارة إيران عبر استهداف الشيعة في العراق.
هنا يجوز التساؤل حول سبب حدوث الهجمات في هذا التوقيت على وجه الخصوص، فتصريحات أبو محمد العدناني، الذي قتل في حلب، قديمة تعود إلى عام 2014. وتظهر إعلان تمرد على توجيهات التنظيم الذي يعد ليس فقط الأب الروحي للتنظيم، وإنما جزء منه قبل أن يصبح له كيانه المستقل. في تسجيل صوتي بعنوان: «فستذكرون ما أقول لكم» تحدث أبو الحسن المهاجر لأول مرة بصفته المتحدث الرسمي للتنظيم خلفاً للعدناني مهددا إيران: «لقد بلغ الشر من دولة المجوس إيران منتهاه واستطار الشرر فعم البلاد وساء العباد، ففتكت بأهل السنة في العراق والشام عبر وكلائها وخبرائها ومستشاريها فأمسى السني بين مكبّل قابع وذليلٍ خانع تابع ولم يكف هذا إذ لم يكن لها من المسلمين رادع بعد الله غير دولة الإسلام».
* ضرورة استراتيجية
توجيه تنظيم داعش هجمات إرهابية لإيران بات «ضرورة استراتيجية» للتنظيم بعد فشله في إقامة خلافة مزعومة, في كل من العراق وسوريا، وفرار الكثير من زعماء التنظيم خارج الموصل، فاستهداف إيران يعد بمثابة نجاح للتنظيم يغطي على هزائمه المتتالية وتقهقر عملياته, وبالأخص مع تنامي دور إيران في كل من العراق وسوريا من خلال زيادة عدد الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق، وقد تأسس عدد منها بهدف محاربة تنظيم داعش، فيما استهدف عدد منها السنة بشكل عام في العراق دون تمييز بين المتطرفين والمدنيين بدافع انتقامي مما أجج من الطائفية التي أشعلتها «داعش» فيما قبل. وكما هو معروف برزت ميليشيات شيعية في سوريا بدعم إيراني بهدف دعم نظام بشار الأسد. وبشكلٍ عام بات استهداف الدول خارج مناطق الصراع أسهل على تنظيم داعش بعد أن وجهت قوات التحالف الدولي ضربات قوية للتنظيم عبر غارات جوية وبرية مكثفة ضيقت الخناق عليه في أماكن قوته في العراق وسوريا. ومن جهة أخرى فإن من السهل تنفيذ مثل هذه الهجمات كونها عشوائية مباغتة وبمثابة انتقام لكل من تورط في توجيه هجمات لـ«داعش». وإن كانت قدرة التنظيم على تكرار مثل هذه العمليات الإرهابية ليست بالأمر السهل بالأخص بعد تشديد الاحترازات الأمنية في الدول التي تمتلك قدرات أمنية قوية، وتعتمد على مدى تغلغل أعضاء التنظيم في هذه الدول.
لذلك من الصعب التكهن في تكرار عمليات «داعشية» في إيران، وستحدد الفترة القادمة توجه التنظيم ومدى إمكانياته القيام بذلك، فقد تطرقت بيانات وتسجيلات تنظيم داعش الأخيرة التي هددت إيران عبرها بوجود أعضاء متطرفين شرقي العراق ينتمون لكتيبة سلمان الفارسي عازمين على مهاجمة إيران. وقد عكس بيان الحرس الثوري توعد إيران وملاحقتها للمتسببين بالهجمات الإرهابية: «لن نترك إراقة الدماء من دون ثأر، ولن نتردد لحظة في صيانة أرواح الشعب». وأظهر تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترمب من جهته ذلك الغموض الذي يكتنف طبيعة العلاقة ما بين إيران والتنظيمات الإرهابية التي تخالف توجهاتها، إذ عقب إبدائه تعاطفه مع ضحايا التفجيرات ذكر ترمب بأن «رعاة الإرهاب يقعون ضحية له». وذلك في إشارة إلى التورط الإيراني في دعم الإرهاب في المنطقة، وقد أثار تعليقه اللغط والاستنكار وأشعل غضب المسؤولين الإيرانيين.


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

الولايات المتحدة​  وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا (أ.ف.ب)

وزير الدفاع الأميركي: نحتاج لإبقاء قواتنا في سوريا لمواجهة تنظيم داعش

قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن لوكالة أسوشيتد برس إن الولايات المتحدة بحاجة إلى إبقاء قواتها في سوريا لمنع تنظيم داعش من إعادة تشكيل تهديد كبير.

«الشرق الأوسط» (قاعدة رامشتاين الجوية (ألمانيا))
المشرق العربي وزير الخارجية التركي هاكان فيدان (الخارجية التركية)

تركيا تكشف عن 4 مطالب دولية في سوريا

كشفت تركيا عن إجماع دولي على 4 شروط يجب أن تتحقق في سوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد وهددت بتنفيذ عملية عسكرية ضد القوات الكردية في شمال سوريا وسط دعم من ترمب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي قائد الجيش الأردني اللواء يوسف الحنيطي مستقبلاً وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة (التلفزيون الأردني)

بين أنقرة ودمشق… مساع أردنية لإعادة بناء قدرات «سوريا الجديدة»

هناك رأي داخل مركز القرار الأردني ينادي بدور عربي وإقليمي لتخفيف العقوبات على الشعب السوري و«دعم وإسناد المرحلة الجديدة والانتقالية».

محمد خير الرواشدة (عمّان)
المشرق العربي فيدان والصفدي خلال المؤتمر الصحافي في أنقرة (الخارجية التركية)

تنسيق تركي - أردني حول دعم المرحلة الانتقالية في سوريا... وعودة اللاجئين

أبدت تركيا توافقاً مع الأردن على العمل لضمان وحدة وسيادة سوريا ودعم إدارتها الجديدة في استعادة الاستقرار وبناء مستقبل يشارك فيه جميع السوريين من دون تفرقة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي عبد القادر مؤمن

كيف أصبح ممول صومالي غامض الرجل الأقوى في تنظيم «داعش»؟

يرجّح بأن الزعيم الصومالي لتنظيم «داعش» عبد القادر مؤمن صاحب اللحية برتقالية اللون المصبوغة بالحناء بات الرجل الأقوى في التنظيم

«الشرق الأوسط» (باريس)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.