على الرغم من الأجواء الاحتفائية وكثرة المشاهدين الإيطاليين ورخاء المظاهر، هناك ما يشي بأن الدورة الثامنة من هذا المهرجان الذي انطلق في الثامن من الشهر الحالي وينتهي في الثامن عشر منه، لا يستطيع أن يختلف كثيرا عن مهرجانات أوروبية أخرى تقام حوله صيف شتاء.
إنه بالتأكيد ليس بحجم برلين ولا شهرة فينيسيا ولا حتمية «كان»، ما يتركه في الحقل ذاته الذي يلعب فيه روتردام وسان سباستيان وفيينا مثلا.
ولعل مديره ماركو مولر أول من يعرف ذلك منذ أن ترك إدارة مهرجان فينيسيا وانضم إلى مهرجان روما قبل عامين. فعلى الرغم من علاقاته العامة والوطيدة مع مخرجين ومنتجين عالميين، فإن على المهرجان أن يعني شيئا خاصا هذه الأيام لكي ينمو. وإذا ما كان مهرجان روتردام في هولندا شكل وخزة إبرة في جانب مهرجان برلين، أول ما انطلق، وترايبيكا النيويوركي ضايق مهرجان نيويورك العتيد، فإن روما كشف، سنة 2006 حين أقيم لأول مرة، عن أنه يريد سحب البساط من فينيسيا. لكن بساط فينيسيا لا يزال مكانه ولو أن مشكلة المهرجان الإيطالي المذكور اسمها تورنتو وليس روما.
حياة في تركيا
هذا ليس لأجل التقليل من أهمية روما، بل تحديدها وتبقى الأفلام المعروضة فيه، والمنتقاة بعناية مولر المعروفة، خير معيار لذلك. أول ما يطالعنا من جديد وجود فيلم تركي بعنوان «أنا لست هو» للمخرج تايفون بريسليموغلو تراه مسحوبا من فيلم ألفرد هيتشكوك «فرتيغو» مقلوبا. فعوض أن يحاول الرجل (كما أداه جيمس ستيوارت في ذلك الفيلم سنة 1958) دفع المرأة التي يحب لأن تقلـد المرأة التي أحبها من قبل (وكلاهما - من دون أن يعلم بادئ الأمر واحد) هناك ذلك الرجل، نهاد (أركان كيسال) الذي يناط به ذلك التحول. حكاية علاقة تندفع بحدة صوب المستحيل عندما يحتل الرجل فيها مكان زوج المرأة التي ارتبط معها بعلاقة والذي يكمن في السجن.
يسبق ذلك تقديم يراد له أن يكون واقعيا لنهاد الغارق في أيام هزيلة خلال العمل في حانة أو خارجها. حين تدخل حياته عيشة (مريم زاري) التي تعاني من ضنك الحياة بدورها. ما يجذب عيشة إلى نهاد ليس حنانه غير الظاهر، بل وجه الشبه بينه وبين زوجها (لا نراه في الفيلم لكنها تعرض صورته) هذا قبل أن يلتقي هو بمن تشبه المرأة التي يحب. جيد التصوير (من قبل أندرياس سينانوس الذي صور للراحل ثيو أنجيلوبولوس أعمالا) لكنه في أماكن عدة يظهر ضعف إيقاع متباطئ بلا سبب فعلي.
خيانات زوجية إيرانية
إيران مشتركة في المسابقة أيضا عبر فيلم هو الأول لمخرج اسمه كياراش أسديزاده. عنوانه «لاذع» وهو أيضا يذكرنا بفيلم آخر هو «انفصال» لأصغر فرهادي من حيث إن كليهما يتعاطى موضوع الاضطهاد في العلاقة بين الرجل والمرأة، لكن في حين أن الفيلم الشهير لفرهادي (نال أوسكار أفضل فيلم أجنبي) يضع الرجل مسؤولا وتحت الاضطهاد في آن معا، يحرص الفيلم الجديد على توجيه لكماته للمجتمع الإيراني الذكوري. قيمة الفيلم السابق هو أن الرجل القامع هو بدوره مقموع ما منح الفيلم قراءة سياسية لا يملكها هذا الفيلم، ولو أنه يبقى ضمن الأعمال التي تتوخى نقد مجتمعاتها.
المحور يقوم هنا على ثماني شخصيات ينتقل الفيلم بينها بتعثر. لعل الشخصيتين الرئيستين كافيتان لإدراك ما في بال المخرج من نيات، فهو يقدم رجلا متزوجا يعمل في مهنة الطب يحضر النساء لبيته ويغازل الأخريات في مكتبه. زوجته (ممرضة في مستشفى) تعرف ذلك، لكنها لا تريد أن تترك البيت ربما لأنها تعيش حياة رغدة بالمقارنة مع سواها. على ذلك تمتنع عن الحديث لزوجها. هذا اللون من الاضطهاد تتبعه أوضاع أخرى. على بعضها البعض لا تقول شيئا لا نعرفه ولا تقوله على نحو فني جيد.
في مجمله يبدو «لاذعا» جريء الطرح من دون أن يبتعد كثيرا عما هو مسموح بطرحه. في أفضل حالاته هو توظيف، إن لم يكن استغلالا للاهتمام الذي تسبب به «انفصال» عالميا حول الوضع الاجتماعي في إيران.
ستالينغراد: ثلاثة أبعاد
من الخاص إلى العام
المخرج الروسي فيودور بوندراتشوك، ابن أبيه سيرغي بوندراتشوك الذي عرف بملاحمه الحربية الشاسعة، ومنها «الحرب والسلام» و«ووترلو» و«حاربوا من أجل وطنهم»، يقدم على أكبر أعماله تحت عنوان «ستالينغراد» مختارا من حصارها موضوعا يحاول أن لا يظهر فيه ميوله العاطفية تجاه وطنه كثيرا وأن يؤم العمل على نحو من التوازن. ما هو أهم عن بوندراتشوك الابن هو النواحي التقنية كلها. هذا أول فيلم روسي كبير تم تصويره بتقنيات سينما الأبعاد الثلاثة وبنظام آيماكس العريض. لذلك إذا ما كان الموضوع مكررا في أفلام روسية وفنلندية وألمانية وأوروبية أخرى سابقة، فإن طريقة العرض هنا هي التي تستولي على العمل الذي يعيد طرح الأيام الصعبة التي واجهها الستانليغراديون خلال الحرب العالمية الثانية.
جرى افتتاح الفيلم في الشهر الماضي في موسكو والمدن الرئيسة الأخرى وجلب ما يوازي خمسين مليون دولار منها. لكنه جلب لنفسه غضبة عددا ملحوظا من النقاد لما اعتبروه منح الألمان صورة لامعة أكثر مما يستحقون. لكن المعادلة التي يعرضها الفيلم يمكن قبولها. الجنود الروس المدافعون عن الوطن ضد الاحتلال النازي، مقابل ضابط ألماني يختلف عن أترابه في فهمه وآرائه.
ما يثير في الفيلم هو أنه ينتقل إلى الزمن الحالي ليقدم فريقا من رجال الإنقاذ الروس العاملين في اليابان بعد كارثة فوكوشيما. الروس ينقذون خمسة أطفال ألمان ويروون عليهم حكاية ستالينغراد!
الأحداث تورط المشاهد وتجذبه. وأفكار الفيلم الإنتاجية والتقنية جيدة، لكن تنفيذها الحرفي ليس بجودة أفلام (أميركية) أمت النظم التقنية ذاتها.

