عمود عبد الله بن الزبير يثير اهتمام زوار معرض الحرمين الشريفين

بسيط في شكله وعميق في تاريخه يعود إلى عام 65 هـ

قاعة الكعبة المشرفة في المعرض (تصوير: أحمد حشاد)
قاعة الكعبة المشرفة في المعرض (تصوير: أحمد حشاد)
TT

عمود عبد الله بن الزبير يثير اهتمام زوار معرض الحرمين الشريفين

قاعة الكعبة المشرفة في المعرض (تصوير: أحمد حشاد)
قاعة الكعبة المشرفة في المعرض (تصوير: أحمد حشاد)

يثير عمود خشبي، في إحدى زوايا معرض عمارة الحرمين الشريفين بمكة المكرمة، اهتمام الزوار، الذين يفدون إلى المعرض من شتى بقاع العالم الإسلامي. وبعد أن يعرفوا قصة ذلك العمود يحرصون على التقاط صور بجواره لتكون ضمن ذكرياتهم بعد عودتهم إلى أوطانهم.
العمود الخشبي البسيط في شكله، العميق في تاريخه والذي يعود إلى عام 65هـ في عهد الصحابي عبد الله بن الزبير، يعتبر من أقدم مقتنيات المعرض، بحسب مدير إدارة المعرض أحمد الدخيل.
وأضاف الدخيل لـ«الشرق الأوسط» أن المعرض يزخر بالكثير من المقتنيات التاريخية والإسلامية، التي يحكي كل واحد منها، فصولاً من مراحل الخلافة الإسلامية على مر العصور.
وقال: «يحرص المعتمرون والحجاج على زيارة المعرض بمجرد وصولهم إلى مكة المكرمة، إذ يأتي مندوبو بعثاتهم إلى المعرض للتنسيق ومعرفة أوقات الزيارة وآلية قدومهم، ومن أبرز من يحرصون على زيارة المعرض؛ الإندونيسيون، والماليزيون، والأتراك، والباكستانيون، والهنود، وبعض مسلمي أوروبا، وسريلانكا».
وأشار إلى أن طلبات لزيارة المعرض تصل من غير بعثات الحج والعمرة، ومنها إحدى المدارس الإسلامية في الولايات المتحدة الأميركية التي تقدمت بطلب زيارة لطلبتها وتم منحهم التراخيص، فضلاً عن أن المعرض يستقبل الأفراد من جميع الجنسيات وذلك خلال الدوام الرسمي للمعرض. وتابع: «استحدثنا العام الحالي نظام التصاريح الإلكترونية التي تصدر من الموقع الإلكتروني للمعرض، إذ تدخل البعثات المعلومات المطلوبة لاستخراج تصريح الزيارة وإصدارها قبل قدومهم، ونكون جاهزين لاستقبالهم».
وتطرق الدخيل إلى أن القائمين على المعرض يسعون إلى إنهاء مشروع الترجمة الفورية بلغات عدة على معروضات المعرض والتي يتجاوز عددها 200 قطعة وصورة تاريخية، ومن أهمها عمود الكعبة والذي يعود تاريخه لنحو 1300 عام.
وحول عدد الزوار الذين قدموا إلى المعرض، أوضح الدخيل، أن عدد الزوار تجاوز 925 ألف زائر منذ بدء موسم العمرة في شهر محرم الماضي وحتى أمس.
ولفت مدير معرض عمارة الحرمين الشريفين، إلى أن عدد العاملين في المعرض يبلغ 30 موظفاً ينقسمون إلى ورديتين في الأيام العادية ويبدأ عمل المعرض من الساعة الثامنة صباحا وحتى التاسعة مساء، أما في موسمي رمضان والحج فتكون هناك ثلاث ورديات وتفتح أبواب المعرض من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الساعة الثالثة صباحاً.
وأنشأت الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، معرض عمارة الحرمين الشريفين عام 1420هـ، يعنى بالحرمين الشريفين والتطور الذي شهدته عمارتهما على مدى العصور, ويتكون من سبع قاعات تشتمل على مجسمين للحرمين الشريفين وعدد من المخطوطات والنقوش الكتابية والقطع الأثرية الثمينة والمجسمات المعمارية والصور الفوتوغرافية النادرة.
ويضم المعرض عدداً من الأقسام، وهي قاعة الاستقبال، وقاعة المسجد الحرام، وقاعة الكعبة المشرفة، وقاعة الصور الفوتوغرافية، وقاعة المخطوطات، وقاعة المسجد النبوي، وقاعة زمزم، كما يحتوي المعرض على مقتنيات نادرة، من أهمها أعمدة الكعبة المعظمة بقاعدتها الخشبية، والتاج، التي تعود إلى عهد عبد الله بن الزبير عام 65هـ , وقاعدة حجرية كانت تقوم عليها الأعمدة، وهلال نحاسي يعود لعام 1299هـ، وهلال المنارة الرئيسية في المسجد النبوي في بداية القرن الرابع عشر الهجري، وسور نحاسي كان يستخدم على إحدى نوافذ المسجد النبوي الشريف ويعود تاريخه إلى العهد السعودي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)