بيروت تتلون خضرة في «معرض الحدائق ومهرجان الربيع»

في نسخته الـ13 يحتضن كل ما يحبه عشاق الطبيعة

جانب من «معرض الحدائق ومهرجان الربيع»
جانب من «معرض الحدائق ومهرجان الربيع»
TT

بيروت تتلون خضرة في «معرض الحدائق ومهرجان الربيع»

جانب من «معرض الحدائق ومهرجان الربيع»
جانب من «معرض الحدائق ومهرجان الربيع»

تلونت بيروت بمساحات خضراء على مد النظر، خلال افتتاح «معرض الحدائق ومهرجان الربيع» في ميدان سباق الخيل. هذا المعرض الذي تشهده العاصمة اللبنانية للسنة الثالثة عشرة على التوالي، ويستمر حتى 27 مايو (أيار) الحالي، هو بمثابة نافذة ربيعية مشرقة يطل منها زائرها على أكبر مجموعة زهور ونباتات ومعدات بستنة وأثاث شرفات وحدائق، وغيرها من الأعمال والحرف اليدوية. كما يضم الحدث المنتظر من قبل أهالي بيروت سنوياً 220 شركة عارضة، وأفكاراً جديدة من نوعها يشارك فيها طلاب جامعيون لتعزيز المساحات الخارجية.
وقالت جومانة دموس سلامة، المشاركة في تنظيم معرض شركة «هوسبيتاليتي سيرفيسيز»: «في ظل ازدهار السياحة الداخلية في لبنان، يستحدث المعرض للسنة الثالثة على التوالي جناحاً خاصاً بها، يتألف من 60 عارضاً جاؤوا من مختلف البلدات والمناطق اللبنانية، كتنورين والقبيات والبترون، للتعريف عنها من خلال خرائط وصور فوتوغرافية تحكي عن خصائصها».
كل ما يخطر على بال هواة استحداث المساحات الخضراء، إن في منازلهم أو في حدائقهم، يقدمها لهم المعرض في إطار مريح، حيث يستمتعون بالتنزه في أرجائه، ويستكشفون كل جديد في مجال الزراعة والهندسة الخارجية الخاصتين في استقدام الطبيعة إلى متناول يدهم.
الأعمال الحرفية والأشغال اليدوية على أنواعها تلفتك في هذا المعرض الذي خصص مساحات شاسعة لها. فصناعة الفخار، كما الزخرفة على الخشب ونفخ الزجاج وأعمال الكروشيه والتطريز وغيرها، عرضها أصحابها فخورين بها كونها تشكل إرثا من أجدادهم يعاني من خطر الزوال، إذا ما أُهمل. «نحن الوحيدون في لبنان الذين لا نزال متمسكين بصناعة الفخار على أصوله، أي يدوياً من دون الاستعانة بأي آلة أو(دولاب) لقولبته»، تقول سنا جبّور، من بلدة آسيا البترونية التي تحمل صناعاتها من الفخار إلى هذا المعرض كل عام.
وتضيف جبّور، في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لقد ورثت هذه المهنة من والدتي منذ نحو 18 سنة، التي كانت بدورها تزاولها منذ أكثر من 50 سنة. صناعة الفخار من أقدم الصناعات في لبنان، والأواني الفخارية كانت تستخدم في الماضي للطبخ». وتتابع: «للأسف، لم تعد هذه الصناعة رائجة في لبنان، ويقتصر وجودها اليوم في بلدتنا، وتحديداً في ثلاثة منازل، ونحن من ضمنها». وتوضح كيفية صنعها: «هي غير مطلية، وبمثابة خلطة خاصة من تراب الفخار وحجر الملحقاق الموجودان في منطقتنا، ويلزمنا شهر كامل لإنهاء أي قطعة منها».وعن طبيعة الأشخاص الذين تستقطبهم هذه النوعية من الفخار، تقول: «فقط هؤلاء الذين يهتمون بالطعام الصحي والطبيعة والحفاظ على البيئة الخضراء».
وفي أحد الأكشاك الخشبية العارضة تحت عنوان «عزم زمان»، تلفتك أشغال يدوية تتألف من الرسم على الزجاج والتطريز على طريقة «القطبة الإسطنبولية» النادر إيجاد من يخيطها في لبنان اليوم. وتتحدث إليانا، المسؤولة عن هذا الكشك، للتعريف عنه: «نحن نمثل مدرسة حرفية في طرابلس (مدرسة العزم)، يعمل تلامذتها من مكفوفين ومعاقين وغيرهم من الأشخاص العاديين المعيلين لأفراد عائلاتهم في هذه الحرفة التي ندربهم عليها ضمن صفوف خاصة، مثل ترميم كراسي القشّ (تقشيش) والتطريز وصب الصابون والموزاييك، وغيرها».
ولا تنسى خلال جولتك في المعرض الذي افتتح برعاية محافظ بيروت القاضي زياد شبيب، ورئيس بلديتها المهندس جمال عيتاني، أن تعرج على أقسام المشاتل والنباتات، وكذلك على تلك الخاصة بفن بناء الحدائق. ففي الأولى، تستكشف نباتات من القرية اللبنانية (الزعتر البرّي والعطر والخبيزة)، ومن خارجها، كالنعناع المغربي وإكليل الجبل وغيرها. أما في القسم الثاني، فتتعرف على طلاب جامعيين من كلية «ألبا» للفنون الجميلة، وقسم الزراعة في الجامعة اللبنانية.
ومن كلية الزراعة في الجامعة اللبنانية، تقول الطالبة جيسي: «نعرض هنا ما يمكن أن يساعد الناس في بناء حدائق ضمن بيئة متوازنة، وقد استخدمنا الخشب الأبيض لنضع ألوان النباتات المستعملة بشكل ظاهر لتؤلّف معاً لوحة طبيعية جميلة».
ويتضمن المعرض، إضافة إلى أثاث الحدائق والشرفات، أنواعاً من المؤونة اللبنانية (كشك ودبس الرمان وماء الزهر، وغيرها)، وكذلك توجد أنواع حلويات صنعتها ربات منازل تعرف كيفية تحضيرها، كالمرزبانية (من اللوز والسكر).
فسحة في الطبيعة والهواء الطلق، وبين أشجار الصنوبر في ميدان سباق الخيل، سيمضيها زائر «معرض الحدائق ومهرجان الربيع» من دون شك، بعيداً عن الأماكن المغلقة وتطور التكنولوجيا، عله يتزود بالطاقة والحيوية استعداداً لتمضية صيف واعد بالحفلات والمهرجانات.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)