الفقر يدفع فنزويليات إلى بيع شعرهن

بسعر يصل إلى 30 دولاراً على الحدود مع كولومبيا

الفقر يدفع فنزويليات إلى بيع شعرهن
TT

الفقر يدفع فنزويليات إلى بيع شعرهن

الفقر يدفع فنزويليات إلى بيع شعرهن

لم يتبق أمام ألبا ليرما سوى بضع مئات من الأمتار لتقطعها، ستقطع هذه المسافة الباقية، تاركة وراءها كل مشكلاتها. لكنها لا تستطيع الاستمرار. وتبكي بحرقة. وأصبح هربها من فنزويلا كابوسا.
وتوسلت ألبا ليرما للحمالين بأن ينقلوا حقائب السفر الخاصة بها مجانا، عبر الجسر للوصول إلى كولومبيا.
وكان قد تم إغلاق جسر سيمون بوليفار الحدودي فوق ريو تاتشيرا، وهو المعبر الرئيسي بين فنزويلا الاشتراكية وكولومبيا، لفترة طويلة بسبب التوترات بين البلدين.
ومنذ افتتاحه للمشاة في أغسطس (آب) الماضي، عبر 40 آلف شخص على الأقل إلى كولومبيا لشراء سلع مثل الأرز والحفاضات وورق التواليت والحليب والزيت والدقيق. ثم يحملون مشترياتهم عائدين بها إلى سان أنطونيو في فنزويلا، حيث بالكاد تتوفر هذه المنتجات.
في مدينتي فيلا ديل روزاريو وكوكوتا، على الجانب الكولومبي من النهر، يقول الباعة: إن حجم الأعمال قد تضاعف من الناحية العملية.
ويتربح هؤلاء الباعة من أزمة عدم توافر السلع والفوضى في فنزويلا، البلد الذي يتباهى بأن لديه أكبر احتياطيات من النفط في العالم.
وتسمح الشرطة للسلع بعبور الحدود. وبالنسبة للحكومة الاشتراكية في فنزويلا، فإن المشتريات الطارئة من جارتها تحقق بعض الارتياح.
ولكن الآلاف يستخدمون أيضا الجسر للهرب، مثل ألبا ليرما (58 عاما) برفقة ابنتها وزوج ابنتها وابنهما، البالغ من العمر عاما واحدا. تريد ألبا ليرما أن تبدأ حياة جديدة في منطقة سيزار الكولومبية، حيث استقر بالفعل نجلاها.
واستقلوا حافلة في كاركاس، كان من المفترض أن تتوجه مباشرة إلى الحدود.
وتم تفتيش جميع الركاب بحثا عن أسلحة. ولكن بعد ذلك في فالنسيا، تعرضوا لحادث سلب من جانب خمسة رجال وامرأة.
وقالت ألبا ليرما «سائق الحافلة كان يعرفهم، على ما أظن»، مضيفة «كان بحوزتهم مسدسات وسكاكين، أخذوا منا كل شيء تقريبا».
وأضافت: «آلاف الدولارات وهواتف محمولة ومجوهرات - كل شيء ضاع... لم يتبق لدي سوى ساعة وسوار، يجب أن أبيعها هناك، أنا محطمة نفسيا».
عندما وجدت ألبا ليرما أخيرا شخصا لنقل حقائبها، تتوجه وهي مفلسة إلى كولومبيا، وهي دولة تركت لتوها خلفها حرب عصابات دامت 52 عاما، وينظر إليها على أنها نمر اقتصادي جديد في أميركا الجنوبية.
وألبا ليرما نفسها كولومبية، لكنها هاجرت إلى فنزويلا في حقبة تسعينات القرن الماضي، عندما كان الوضع مختلفا تماما عما هو عليه الآن، وكانت كولومبيا غارقة في العنف.
بعد فترة وجيزة من اجتياز لافتة مكتوب عليها «مرحبا بكم في كولومبيا»، يمكن سماع شباب وهم يصيحون أنهم يريدون شراء الشعر.
وقالت ألبا ليرما وعائلتها وداعا وبحثوا عن شخص لينقلهم بسيارة إلى محطة الحافلات، وعبروا الطريق إلى بائعي الشعر. وإذا كان هناك أي شيء يجسد الأزمة، فإن هذا الشيء هو هذا العمل على الحدود.
وكريس ميللر جوردان (وهذا ليس اسمه الحقيقي) نفسه هرب من فنزويلا.
وقال الشاب (23 عاما) «منذ فتح الحدود، جاء عدد متزايد من النساء من فنزويلا لقص شعرهن».
ويتم الدفع لهن بالعملة الكولومبية البيزو، التي على عكس العملة الفنزويلية البوليفار، لا تفقد قيمتها يوميا. ونادى ميللر جوردان على امرأة فنزويلية جميلة، قائلا: «سأشتري شعرك، يا سيدتي».
ولم تبد هذه المرأة أي اهتمام، ولكن امراة أخرى فكرت في الأمر لفترة طويلة. وفحص ميللر جوردان شعرها الأسود وعرض ما يعادل نحو 30 دولارا.
وقال: «أبيعه في مدينتي ميديلين وكالي». في هاتين المدينتين الكولومبيتين، حيث يتم استخدام الشعر وصلات للشعر الطبيعي.
وأضاف، أنه في يوم جيد، يصطحب 15 امرأة إلى مصفف شعر قريب. ولكن هناك الكثير من المنافسة. وتابع: «يعمل أكثر من 30 شخصا في هذا المجال».
ويجلس رجل وامرأة من سان كريستوبال في فنزويلا يراقبان الوضع من كشك قريب. وفي نهاية المطاف، ينهض الرجل ويتوجه إلى ميللر جوردان.
ويخرج الرجل حزمة سوداء طويلة من الشعر من حقيبة ويحاول بيعها. لكن تاجر الشعر يريد فقط شعرا جديدا يتم قصه هنا على الحدود. ويعود الرجل إلى صديقته وهو محبط. وعند سؤالها عن شعر من هذا؟ تجيب المرأة «إنه شعر ابنتنا البالغة من العمر تسع سنوات».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)