سوق «باب الذهب» تعود إلى الحياة... وتودع للسلاح

باب التبانة تخلع عنها رداء الحروب الضارية

شبان المنطقة يحتفلون بافتتاح سوق باب الذهب السبت الماضي
شبان المنطقة يحتفلون بافتتاح سوق باب الذهب السبت الماضي
TT

سوق «باب الذهب» تعود إلى الحياة... وتودع للسلاح

شبان المنطقة يحتفلون بافتتاح سوق باب الذهب السبت الماضي
شبان المنطقة يحتفلون بافتتاح سوق باب الذهب السبت الماضي

«شارع سوريا» الذي تردد اسمه طوال أكثر من ست سنوات كرمز للموت المجاني وخط تماس بين منطقتين متحاربتين، استعاد هويته القديمة، ورجع كما كان ذات يوم حاملاً اسمه العتيق: «باب الذهب». هذا ما تقرأه بخط عريض على حائط زين برسم الغرافيتي أنجزه ابن منطقة باب التبانة محمد الأبرش. السبت الماضي 29 أبريل (نيسان) احتفل السكان وضيوفهم لمرة جديدة، بطي صفحة الحرب مع تدشين أكثر من 100 محل تجاري في الشارع أعيد ترميمها من آثار الدمار، لتستعيد الحياة بهجتها.
وكان هذا الشارع الذي تمترس فيه المقاتلون طوال فترة المعارك بين منطقتي جبل محسن ذات الغالبية العلوية، وباب التبانة ذات الغالبية السنية، في الضاحية الشمالية لمدينة طرابلس اللبنانية، قد شهد أعنف المعارك طوال ست سنوات ضارية، توقفت عام 2014 إثر اتفاق قضى باعتقال من يتبقى من المقاتلين، وبخروج الزعيم العلوي رفعت عيد من المنطقة. جمعية «مارش» هي من بين أكثر الجمعيات نشاطاً في المنطقة، واكبت السكان منذ توقف الاقتتال إلى اليوم في مشاريع متلاحقة، لإعادة اللحمة بين شبان المنطقتين بالموسيقى والبناء والمسرح والرسم والغرافيتي.
تقول دعاء حبشيتي وهي طالبة جامعية، إنها سعيدة بأن الحرب قد توقفت، وثمة من يعتني بمنطقتها، بعد طول إهمال. «نحن الدولة لا تتطلع بنا، ونسكن في منطقة خصبة للحروب. هناك من وفر السلاح ليطلق الناس الرصاص على بعضهم البعض. الآن صار الشارع أجمل، وأحب أن أرى منطقتي تتحسن، وأستطيع أن أمشي فيها، وأعيش وأتنفس».
المحلات رممت بأيدي أكثر من 100 شاب وصبية تم اختيارهم من المنطقتين، دربوا على أعمال الدهان، تمديد الكهرباء، والأدوات الصحية، وغيرها من مستلزمات العمار. وأشرف على المشروع خبراء من المهندسين المدنيين والمعماريين، هكذا صار لهؤلاء خبرة وصنعة للمستقبل بعد انتهاء الترميم، يقول محمد سرحان منسق المشروع من جمعية «مارش». بعض الشبان كانوا محاربين وفئة أخرى كانت عاطلة عن العمل، أما الفتيات فقد تم اختيارهن لتدريبهن على التسويق وتزيين الواجهات والتصميم.
ويقول سرحان: «لم يكن الهدف فقط هو ترميم المحلات وإعادة الحياة التجارية للسوق، وإنما أيضا، أن نغير نظرة الشبان من المنطقتين إلى بعضهم البعض. لذلك لم نكن نكتفي بالعمل في الورشة، وإنما الاجتماع في أنشطة رياضية، وموسيقية، وحفلات، أو تدريب للتطوع في الصليب الأحمر، تعليمهم فرز النفايات، توعية على مساوئ المخدرات». ويضيف: «نطمح أيضاً إلى مشاريع أخرى للحفاظ على الألفة التي بنيناها بين الشبان».
وجعلت جولات المعارك، شارع سوريا أحد أخطر الشوارع في لبنان، وكان الذهاب إليه مجازفة لا يريدها أحد. بعد إنارة المكان من قبل البلدية، وافتتاح «مارش» لقهوة تجمع شبان المنطقتين، وعملها لفترة طويلة على تدريب ما يقارب 50 شاباً وشابة لتقديم ثلاثة أعمال مسرحية، جميلة عرضت في طرابلس وبيروت، ومن ثم تنظيمها لمهرجان فني كل سبت وأحد، طوال ما يقارب الشهر العام الماضي، بدا الشارع أكثر ألفة ومحبة.
الحفلات الموسيقية، الاحتفالات، لعب كرة القدم، تجعل سكان المنطقتين يهرعون لمتابعة النشاطات.
تنشط جهات عدة للمساعدة في إعادة الحياة إلى طبيعتها. هناك من يهتم بإعادة ترميم المنازل، وجمعيات أخرى توفر استثمارات صغيرة لمن يريد إطلاق مشروع متواضع، وجهة غيرها تؤهل ملعباً رياضياً.
ويحكي سرحان عن تعاون «مارش» مع جمعية «رواد التنمية» طوال أربعة أشهر احتاجها مشروع ترميم المحلات: «كنا خلالها نؤمن وجبة غداء يومية من هذه الجمعية لأنها هي نفسها تعمل مع سيدات منازل لتحضير الطعام».
وسميت منطقة باب التبانة بسوق الذهب سابقاً، لأنها المدخل إلى طرابلس من جهة الشمال ولكل القادمين من سوريا. وانتعش سوقها، منذ الفترة العثمانية، وعرف ازدهاراً كبيراً. وبقيت منطقة باب التبانة تجارية، خصبة، تغلي بالحيوية، حتى الحرب الأهلية اللبنانية، حيث شهدت معارك مدمرة، وتعرضت لمجزرة لا يزال سكانها يتحدثون عنها إلى اليوم. ومنذ انتهاء الحرب الأهلية، دخلت باب التبانة مرحلة سلام كما كل المناطق اللبنانية. مع بدء الثورة السورية تصاعد التوتر الذي كان قد سبقها بمدة، واشتعلت حرب ضروس أوقعت عشرات الضحايا بين قتلى وجرحى، بسبب تأييد جبل محسن للنظام السوري، ومعاداة باب التبانة له، التي تتهمه بارتكاب مجزرة أثناء الحرب والتنكيل بأبنائها، من جهة أخرى.
اليوم يتحدث السكان عن أخطاء ارتكبت، وحماقات دفعوا ثمنها غالياً وتقول ابنة باب التبانة دعاء «إن الذين أصغوا لتحريض السياسيين وحملوا السلاح، هم الآن في السجون، ولن يخرجوا بسهولة. وما نريده هو أن نستعيد حياتنا الطبيعية، وسعداء بما يتحقق كل يوم».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».