معرض «الفن من أجل قضية»... رحلة نادرة في أعماق الثقافة الأرمينية

عرضت فيه أعمال لبول غيراغوسيان وسيرج شارت واسادور وهرير

النافورة من أعمال صامويل غارغنيان  -   دون عنوان من أعمال إيفت إفتيسيان
النافورة من أعمال صامويل غارغنيان - دون عنوان من أعمال إيفت إفتيسيان
TT
20

معرض «الفن من أجل قضية»... رحلة نادرة في أعماق الثقافة الأرمينية

النافورة من أعمال صامويل غارغنيان  -   دون عنوان من أعمال إيفت إفتيسيان
النافورة من أعمال صامويل غارغنيان - دون عنوان من أعمال إيفت إفتيسيان

الغوص في أعماق الثقافة الأرمينية المتمثلة في 125 عملاً فنياً تعود لرسامين أرمن من لبنان والعالم أجمع، يشكل العنوان الرئيسي لمعرض «الفن من أجل قضية».
هذا المعرض الذي يعد الأول من نوعه في لبنان والعالم نظراً للمروحة الواسعة من النتاج التشكيلي الأرميني التي يجمعها تحت سقفه، يتضمن لوحات نادرة يعود قسم لا يستهان به منها إلى اثنين من هواة جمع هذا النوع من الأعمال.
«كل لوحة مشاركة في المعرض لها قصتها وحيثياتها فلقد لحق بها هواتها إلى أقاصي الأرض من أجل الحصول عليها بأي ثمن». يروي غاري فتّال «منظم المعرض» لـ«الشرق الأوسط»، ويضيف: «رغبنا في إقامة هذا المعرض لخدمة قضايا إنسانية نلمسها في حياتنا اليومية، ولذلك فإن ريعه بالكامل يعود إلى المؤسسة الخيرية الأرمينية (إيه جي بي يو) التي تملك فروعاً لها في مختلف دول العالم وبينها لبنان».
يحضر في المعرض الذي يفتح أبوابه حتى 30 أبريل (نيسان) الشهر الحالي في نادي اليخوت (زيتونة باي)، فنانون أرمن تركوا بصمتهم في العالم أجمع، وبينهم الراحلون بول غيراغوسيان وسيرج شارت واسادور وهرير من لبنان، إضافة إلى آخرين عالميين أمثال الأميركي الأرميني الأصل هوفسيب بوشمان ومواطنه سامويل غاريغوريان وهاغوب هاغوبيان الذي ولد ونشأ في مصر وغيرهم.
«هناك أعمال نادرة جداً يمكن مشاهدتها في المعرض، وبينها تلك التي تعود إلى الفنان الفرنسي المولود في حلب ونشأ في مصر كرنيك زولوميان المعروف بكارزو وهي بعنوان (فينيز) وكان قد رسمها في أواخر السبعينات. وهناك أيضاً أخرى لجان جانسم، وهي كناية عن عملين، هما (الانتظار) و(راقصة الباليه)، اللذان يعود تاريخ تنفيذهما إلى منتصف الأربعينات والخمسينات، وطالت شهرة هذه الأعمال اليابان، لما تحمل من تقنية رسم خارجة عن المألوف». يقول غاري فتّال في سياق حديثه.
وتخلل هذا المعرض الذي فاقت تكاليف تنظيمه المليون دولار، مزاد علني صامت لمدة ساعة واحدة عادت أرباحه للمؤسسة الخيرية الأرمينية (إيه جي بي يو).
«وعلى الرغم من تعلّق الهاويين الأرمينيين اللذين رفضا ذكر اسمهما لتبقى مبادرتهما تدور في فلك أعمال الأيادي البيضاء، واللذين قدما إلى المعرض قسماً كبيراً من هذه المجموعات الفنية النادرة التي يملكانها في منازلهما، وقد استغرقهما الحصول عليها عشرات السنين، فإنهما لم يتوانيا عن التخلّي عنها والتبرّع بها إلى معرض (الفن من أجل قضية) ليصبّ ريعها من أجل عمل الخير. لقد كانا يفكران في إقامة مزادات علنية مختلفة لبيعها، ومن ثم للتبرع بأسعارها لمؤسسات خيرية، ولكن عندما عرضنا عليهما القيام بهذه الخطوة ضمن معرض بهذا المستوى لم يترددا في الموافقة على الأمر تلقائياً». يعلّق غاري فتّال.
يحضر بول غيراغوسيان في لوحتين تجريديتين؛ واحدة منها تتناول موضوع الخير والشر وأخرى تصوّر مجموعة من النساء يحملن أطفالاً رضّعاً. فيما تأخذنا لوحة «وجوه» لاسادور في رحلة إلى أعماق ملامح أشخاص رسمهم بتقنيته الهندسية المعروف بها. أما لوحة فاهران «رحلة في الطبيعة» فتعود بنا إلى حقبة تاريخية قديمة نستشفها من أزياء شخصياتها من القرون الماضية. ومن الفنانين المعاصرين المشاركين في المعرض يوروز، الذي اشتهر بأعماله عن اللاجئين بعنوان «الرومانسية مع القيثارة»، وأخرى لسركيس هامالباشيان أحد أهم فناني أرمينيا حالياً بعنوان «طريق الحرير»، وكذلك واحدة بعنوان «نزهة ليلية» للفنان فاهرام دافتيان، و«أجنحة» لروبن غريغوريان. كذلك يتضمن المزاد لوحة للفنان دارون موراديان، وأخرى لسامويل غاريغينيان المقيم في الولايات المتحدة، وهي بعنوان «النبع». وتطول أسماء الفنانين المشاركين في هذا المعرض من أرمن وغيرهم، أمثال أندريه لانسكوي وكريكور أغوبيان وآرام جوعيان وأرمين جيفورغيان وأفيت أفيتيسيان وبرنار بوفيه وكارلوس ساياديان وكاثي طبّاع وكلود فينار وإدغار شاهين وفاطمة الحاج وديفيد ديفيد وهرير ومانويلا غيراغوسيان وغيرهم.
يُذكر أن الجمعية الخيرية العمومية الأرمينية (AGBU) التي تأسست قبل 110 أعوام، تنشط في مجالات عدة وتولي عناية خاصة في لبنان بالقطاع التربوي. وقد أنشأت ثانوية «تاروهي هوفاغيميان»، وابتدائية «نازاريان» ومتوسطة «غارميريان»، مؤمّنة بذلك الدراسة لأكثر من 500 تلميذ سنوياً.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT
20

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)