رجال طهران في واشنطن.. و«المساومة الكبرى»

إيران اقترحتها أول مرة سنة 2003 إبان حرب العراق.. والولايات المتحدة رفضتها

رجال طهران في واشنطن.. و«المساومة الكبرى»
TT

رجال طهران في واشنطن.. و«المساومة الكبرى»

رجال طهران في واشنطن.. و«المساومة الكبرى»

على عكس الصورة التي يحاول النظام الإيراني أن يقدمها حول نفسه ومواقفه، لا يتعدى شعار «مرك بار أميركا»، أي الموت لأميركا، كونه كلاما لفظيا، بينما في الواقع تبتعد طهران عن العقائدية وتتبع سياسة عملانية تهدف إلى مصادقة واشنطن والتحالف معها، حتى تنال إيران اعترافا أميركيا بهيمنتها في منطقة الشرق الأوسط، وتفويضا لإدارة هذه المنطقة، خصوصا في وقت يسود فيه شعور أميركي شعبي بالإرهاق من السياسة الخارجية.
ولأن طهران ليست عقائدية، بل واقعية، فقد عملت منذ منتصف التسعينات على تشكيل مجموعة ضغط، متعارف على تسميتها «لوبي»، داخل العاصمة الأميركية، وبتمويل من طهران وإشراف مباشر من البعثة الإيرانية الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك، نجحت إيران في خلق هذا اللوبي الذي راح مسؤولوه، يتصدرهم إيراني - سويدي على المذهب الزرادشتي يقيم في واشنطن، يتباهون بتحقيقهم النتائج، وبإلحاقهم هزائم بأعتى اللوبيات الأميركية، وعلى رأسها ذاك المؤيد لإسرائيل.

في مكتبي بواشنطن، وصلت إليّ دعوة من «مركز وودرو ويلسون» المرموق لحضور ندوة بعنوان «إيران في السنوات الخمس المقبلة: تغيير أم المزيد من الشيء نفسه؟».. الموضوع الإيراني ساخن، وندوات من هذا النوع غالبا ما تستقطب حشدا من المعنيين من مسؤولين أميركيين وخبراء وإعلاميين.
فتحت الدعوة، فإذا بي أعرف واحدة من المتحدثين، وهي صحافية أميركية تكتب عن الشرق الأوسط بشيء من الموضوعية. أما المتحدثون الآخرون، فلم يكونوا من الأميركيين، مما دفعني إلى التحري عنهم. واحد إيراني، ويدعى بيجان خاجيهبور، ويدير شركة استشارات، يفترض أن مقرها النمسا، لكنني أقرأ اسمه منذ فترة كمحاضر في الندوات المخصصة لإيران هنا في العاصمة الأميركية.
ثم ببحث سريع، وجدت أن شركة الاستشارات المزعومة، «آتية إنترناشونال»، تابعة لـ«مجموعة آتية» في طهران، التي تقدم نفسها، على موقعها على الإنترنت، كمؤسسة متخصصة في تقديم «المساعدة والنصح للشركات الأجنبية للدخول والعمل بنجاح في السوق الإيرانية».
المتحدث الثاني باحث فرنسي اسمه بيرنارد هوركارد، أفضى بحثي عنه إلى مقابلة أجرتها معه قناة «يورونيوز» في أبريل (نيسان) الماضي، وقال فيها: «منذ 34 عاما، ونحن نقول كل يوم إن الجمهورية الإسلامية قاربت أن تنهار، ولكنها ما زالت موجودة، وهي أكثر نظام حكومة مستقر في الشرق الأوسط، ونحن نرى ذلك، خصوصا بعد الربيع العربي، وهي الدولة التي يمكن أن تتقدم إلى الأمام». ثم يدعو هوركارد إلى السماح لإيران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم، والتوصل إلى اتفاق معها يفضي إلى رفع العقوبات عنها، وتطبيع العلاقات مع الغرب، وخصوصا الولايات المتحدة.
المتحدث الثالث، روبرتو توسكانو، إيطالي وسبق أن عمل سفيرا لبلاده لدى إيران بين الأعوام 2003 و2008. في مقالة له في «هفنغتون بوست»، قلل توسكانو من هتاف الإيرانيين «الموت لأميركا»، وكتب أنه من الأفضل للسياسات الأميركية، ألا تلتفت إلى خطاب النظام المعادي للولايات المتحدة، وأن تمضي قدما في الانفتاح عليه، وإلا فإن البديل الوحيد هو الحرب، وعند ذاك، يتوحد الإيرانيون خلف قيادتهم، وتصبح هتافاتهم بالموت لأميركا ذات معنى.
وختم توسكانو أنه عندما «يقول الإيرانيون الأميركيون (خصوصا المجلس القومي الإيراني الأميركي): لا تضربوا إيران. هم لا يقولون ذلك، لأنهم متساهلون مع النظام، بل لأنهم يعرفون أن أي هجوم سينعش النظام شعبيا، لذا اسمحوا لي بأن أؤكد أن صورة الإيرانيين ككارهين لأميركا هي صورة خاطئة».
أما مديرة الندوة، حسبما ورد في الدعوة، فهي الإيرانية - الأميركية هالة اصفندياري، وهي مديرة برنامج الشرق الأوسط في المعهد، وكان النظام اعتقلها في عام 2007 لمدة أربعة أشهر في السجن الانفرادي في إيفين، ثم أفرج عنها، ومنذ ذلك اليوم واصفندياري تصر على ضرورة انفتاح أميركا على إيران، وعلى رفع العقوبات عن طهران، والسماح لها بالمضي قدما ببرنامجه النووي. ولهذا السبب، تقيم اصفندياري ندوات في المعهد الذي تديره، وتوقع على عرائض لرفع العقوبات.

* التغيير المقبل
* إذن، حتى من دون ذهابي إلى الندوة حول إيران، كان يمكنني أن أتكهن مسبقا بمجرياتها؛ مجموعة من الإيرانيين، بعضهم ممن اكتسبوا الجنسية الأميركية أو الأوروبية، وأوروبيون مؤيدون للانفتاح غير المشروط على إيران، يتكلمون على مدى ساعتين حول التغيير المقبل مع انتخاب حسن روحاني رئيسا لإيران والفرصة السانحة لاقتناصها، والعوائد المالية للانفتاح على طهران، ويحذرون من مغبة عرقلة أميركا التوصل إلى اتفاق، حتى لو تعنتت إيران وتمسكت بشروطها النووية، بحجة أنه لا اتفاق يعني حتما الحرب، وهي كلمة لا يستسيغها الأميركيون بعد حربي العراق وأفغانستان.
ويبدو أن توسكانو، الذي يأخذ على عاتقه تجميل صورة إيران، والتحذير من الحرب، والتمجيد بالمجلس القومي الإيراني - الأميركي، نشر مقالته بدعم من المجلس نفسه، الذي يترأسه الإيراني - السويدي المقيم في واشنطن تريتا بارسي، الذي يكتب دوريا في هذا الموقع.
وبارسي صديق وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف منذ أكثر من عقد، عندما كان الأخير يعمل مبعوثا دائما لبلاده في الأمم المتحدة بنيويورك. وفي منتصف العقد الماضي، اتهم الإيراني المعارض حسن داعي الإسلام بارسي بالعمل لمصلحة النظام، فما كان من بارسي إلا أن أقام دعوى قدح وذم بحق داعي الإسلام، فأمرت المحكمة بفتح البريد الإلكتروني لبارسي، ليتبين أنه كان على اتصال بظريف، وأنه قام بتنسيق لقاءات بين أعضاء في الكونغرس من الحزبين مع المسؤول الإيراني.

* إثباتات المحاكم الأميركية
* الرسائل الإلكترونية التي جرى الكشف عنها أظهرت أن ظريف وبارسي التقيا للمرة الأولى في مارس (آذار) 2006، وأن ظريف مرر إلى بارسي وثيقة «المساومة الكبرى» التي اقترحها الإيرانيون على الأميركيين إبان حرب العراق في عام 2003، ورفضتها واشنطن.
وتظهر وثائق المحكمة أن طهران قدمت الوثيقة للسفير السويسري لدى إيران، الذي يمثل المصالح الأميركية، والذي مررها إلى الأميركيين.
وفي وقت لاحق، ادعى الأميركي فلينت ليفيريت أنه وزوجته تسلما الوثيقة من الإيرانيين أيضا ومرراها إلى الإدارة الأميركية. وليفيريت مؤلف كتاب حول حياة الرئيس السوري بشار الأسد، ويتمتع بعلاقة جيدة بدمشق وطهران، ويقول في مقابلة مع الكاتب لي سميث، إنه من الأميركيين القلائل الذين يزورون طهران دوريا ومن دون فيزا. ويعتقد سميث أن ليفيريت يعتقد أنه في حال التوصل إلى اتفاق أميركي - إيراني، فإنه سيكون من أول المستفيدين ماليا من العقود المقبلة إلى حد أطلق سميث على ليفيريت لقب «رجل إيران في واشنطن».
وفي رسائل بارسي الإلكترونية التي كشفتها المحكمة تنسيق بينه وبين ظريف حول مؤتمر في الكونغرس بالتعاون مع مؤسسة «أميركا الجديدة»، كجزء من مشروع أطلقه بارسي في عام 2006، بعنوان «مشروع التفاوض مع إيران». ويرفق بارسي رسالته الإلكترونية إلى البعثة الإيرانية بتقدير تكاليف ستة أشهر من العمل لهذا المشروع، الذي يتضمن دعوة عشرة إلى 15 خبيرا في الشأن الإيراني من حول العالم، بتكلفة تبلغ مائة ألف دولار.
وفي سبتمبر (أيلول) 2012، حكمت المحكمة ضد بارسي، وغرمته مبلغ 185 ألف جولار كتعويضات لداعي الإسلام.
والبعثة الإيرانية الدائمة لدى الأمم المتحدة في نيويورك لا تشرف على «اللوبي الإيراني» في واشنطن فحسب، بل كانت تشرف كذلك على عمل ما يعرف بـ«مؤسسة علوي»، حسبما نقلت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» عن محققين فيدراليين أميركيين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2009.
و«مؤسسة علوي» أنشأها شاه إيران في عام 1973 تحت اسم «مؤسسة بهلوي»، وفي عام 1979، تحول اسمها إلى مؤسسة المستضعفين، وفي وقت لاحق أصبحت معروفة بـ«مؤسسة علوي». وفي فبراير (شباط) من عام 2012، رفعت شرطة نيويورك السرية عن وثائق لها تعود إلى مايو (أيار) 2006، وفيها أن «أجهزة الاستخبارات الإيرانية تعمل داخل الولايات المتحدة عبر مؤسسات متعددة، منها (مؤسسة علوي)»، وهي تهمة نفتها المؤسسة التي تكرر على موقعها أن مهمتها الأساسية هي «شرح الثقافة الإسلامية، واللغة الفارسية والأدب والحضارة». وفي صفحات أخرى على موقعها، ترى المؤسسة أن هدفها دعم «الثقافة الشيعية».
وتملك المؤسسة ناطحة سحاب في قلب مدينة نيويورك تعود عليها بإيجارات ضخمة تستخدمها في تمويل أكثر من 30 مؤسسة تعليمية في عموم الولايات المتحدة. ويعتقد خبراء أن طهران تستخدم هذه الأموال لتكافئ الأكاديميين الذين يكتبون ما يرضيها، والمؤسسات التربوية التي تصدر دراسات تخدم مصلحة طهران.
إلا أنه على الرغم من نفي «مؤسسة علوي» أي ارتباط مع طهران، كشفت «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (إف بي آي) أن رئيس المؤسسة فرشيد جاهدي قام في عام 2008 بإتلاف وثائق تثبت أن المؤسسة سددت جزءا من أموالها لبنك ملي في طهران، والمملوك من الحكومة الإيرانية، وأن جزءا من الأموال قد يكون جرى استخدامه في تمويل البرنامج النووي الإيراني.
وفي أبريل 2010، حكمت محكمة فيدرالية في نيويورك على جاهدي بالسجن ثلاثة شهور بتهمتي عرقلة التحقيقات وإعاقة العدالة، وجرى التحفظ على جزء كبير من أموال وممتلكات المؤسسة، التي ما زالت تعمل، وإنما بحذر.

* نشاطات اللوبي الإيراني
* في ديسمبر (كانون الأول)، وقبل أيام من انعقاد قمة مجلس التعاون الخليجي في الكويت، عقد خبراء ومسؤولون عرب وأجانب حوارا سنويا في المنامة توّجه وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل بحضور جدد أثناءه تعهد بلاده بأمن الخليج في وجه أي تهديد إيراني، لكن تعهدات الوزير الأميركي لم تكن بريئة، بل جاءت بمثابة تطمينات في وقت كانت فيه حكومة بلاده تتفاوض مع إيران، سرا وعلنا. ومع هيغل، حضر عدد من مستشاريه، الحاليين والسابقين، من أمثال أندرو بارازيليتي، وهو مدير موقع «آل مونيتور»، حيث تعمل الباحثة في «مجلس الأطلسي» باربرا سلافين، التي تزور إيران بانتظام، وغالبا ما تنظم ندوات، على غرار اصفندياري، تستضيف فيها وجوه لوبي طهران في واشنطن، بمن فيهم بارسي وخاجيهبور، وتؤلف بالاشتراك معهم دراسات تزعم أن العقوبات على طهران تؤذي الإيرانيين فقط من دون حكومتهم، مما يوجب حكما رفعها.
وسلافين تكتب علنا أن على واشنطن البحث عن مصالحها الفعلية، وأن ذلك يكون عبر الاستبدال بتحالفها مع الرياض تحالفا مع طهران، فيما كتب بارازيليتي أن على أميركا تكليف إيران حل الأزمة من سوريا، من دون شروط. والموقع يموله الأميركي من أصل سوري جمال دانييل، الذي جمع ثروة من عمله في قطاع النفط، والذي يعتقد كثيرون أنه يأمل بأن تكافئه إيران بعقود نفطية في حال جرى رفع العقوبات عنها.
في المنامة، حيث حضر بارازيليتي، اندلعت أزمة كادت تطيح بالقمة الخليجية، عندما قام أحد الصحافيين بطرح سؤال على وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي حول إمكانية قيام اتحاد خليجي، ليرد الأخير أن الاحتمال غير وارد، وأن عمان ستنسحب من المجلس في حال جرى التصويت عليه في قمة الكويت. هنا سارعت الدبلوماسية الكويتية لإنقاذ القمة التي كانت في طريقها لاستضافتها، في حين تبين في وقت لاحق أن السؤال والإجابة حصلا بتنسيق كان يهدف إلى إحراج المملكة العربية السعودية.
وفي واشنطن، استمرت نشاطات اللوبي الإيراني المتنوعة، التي تدعو جميعها لإسقاط العقوبات بشكل غير مشروط عن إيران وبالتحالف معها، حتى لو اقتضى ذلك التنازل لها في سوريا ولبنان والعراق وعموم المنطقة. ونشاطات اللوبي الإيراني تتضمن ندوات، وإصدار دراسات، وعقد مؤتمرات، ونشر مقالات في صحف أميركية متنوعة، وإقامة صداقات مع باحثين وخبراء أميركيين، كذلك مع مسؤولين في الحكومة وفي الكونغرس، ومع مساعديهم.
وفي الوقت الذي حاول فيه اللوبي الموالي لإسرائيل، والمعروف بـ«أيباك»، حض مؤيديه في الكونغرس على تمرير قانون يفرض عقوبات جديدة على إيران بمفعول متأخر، أي بعد سنة على الإقرار، وفي حال فشل المفاوضات الدولية مع إيران، التي أنتجت اتفاقية مؤقتة في نوفمبر الماضي في جنيف، وضع اللوبي الإيراني خطة محكمة للتصدي لمجهود العقوبات الجديدة.
ولوبي إسرائيل لديه سيطرة شبه مطلقة في مجلس الممثلين في الكونغرس، الذي تسيطر عليه غالبية من الحزب الجمهوري، والذي أقر نسخة من قانون العقوبات المطلوب على إيران. لكن مجلس الشيوخ يسيطر عليه الحزب الديمقراطي، الذي على الرغم من الصداقة التي تجمعه بلوبي إسرائيل، من غير الممكن له أن يعارض قرارات رئيس البلاد الذي ينتمي إلى الحزب نفسه. هكذا، جمع اللوبي الإسرائيلي 59 صوتا من أصل 60 مطلوبة لفرض الإقرار على زعيم الغالبية في المجلس هاري ريد، وعلى أوباما نفسه. وبغياب الصوت الوحيد المطلوب، تعثر مجهود فرض أي عقوبات جديدة على إيران في حال انهارت المفاوضات الدولية النووية معها، أو لم تتوصل إلى نتيجة.
لكن اللوبي الإيراني لم يقف متفرجا على أوباما، الذي كان في خضم مواجهة تشريعية مع أصدقاء إسرائيل، بل راح الإيرانيون يحشدون شعبيا لتأييد الرئيس ضد عقوبات جديدة. وفي خضم نشاطهم، عثر الإيرانيون على حلفاء نجحوا في تجنيدهم لتأييد المفاوضات مع إيران، أي مفاوضات، وبغض النظر عن نتيجتها. أما هؤلاء الحلفاء، وهم قوة سياسية شرسة لا يستهان بها، فهم مجموعات مناهضة للحرب في العراق وأفغانستان.
طبعا لا تؤدي دفعة جديدة من العقوبات على إيران إلى الذهاب إلى حرب معها حكما، لكن الإيرانيين نجحوا في تسويق هذه الفكرة، التي راح يرددها مسؤولو البيت الأبيض وحلفاؤهم في الكونغرس. كذلك تبنى فكرة «مفاوضات أو حرب» التحالف المناهض للحرب، وهو ما شد من عضد أوباما وقدم له دعما شعبيا في مواجهة غالبية الكونغرس في موضوع إيران.

* تراجع اللوبي الإسرائيلي
* «لغالبية الأميركيين هموم واهتمامات تمنعهم من متابعة السياسة الخارجية وتفاصيلها، مما يعطي مجموعة صغيرة، لكنها مثابرة المقدرة على الهيمنة في هذه المواضيع»، يكتب بارسي فيما يبدو أنه تصوره لكيفية عمل اللوبيات في العاصمة الأميركية. مقالة بارسي صدرت على موقع «هفنغتون بوست» بعنوان «وهم أن أيباك لا تقهر»، على أثر تراجع اللوبي الإسرائيلي عن محاولة تمرير عقوبات جديدة على إيران.
ويضيف بارسي، أن «أيباك» واجهت مجموعة من الهزائم، كان أولها بعدما تبنت توجيه أميركا ضربة عسكرية إلى سوريا في أعقاب الهجوم الكيماوي الذي شنته قوات بشار الأسد ضد مدنيين في ضواحي دمشق في أغسطس (آب) . أما الهزيمة الثانية فجاءت في المواجهة حول إيران. في المواجهتين، يعتقد بارسي أن المزاج المعارض للحرب هو الذي أثبت فاعليته، وأن في المرة الثانية، استند البيت الأبيض لهذا المزاج، الذي ينشط فيه بشدة بارسي واللوبي الإيراني، لإحباط «أيباك» وأي عقوبات جديدة على إيران.
إلا أن المواجهة لم تنته، حسب بارسي، الذي يؤكد أن الجولة المقبلة بين طرفين حدد واحد منهما على أنه اللوبي الإسرائيلي ولم يحدد الآخر، آتية في غضون أشهر، إذ إن لوبي إسرائيل، حسب الناشط الإيراني، سيفرد اهتمامه لنسف الاتفاقية النهائية التي يجري التفاوض عليها بين إيران والعالم.
طبعا لا يذكر بارسي أنه مؤلف كتاب يمتدح فيه إسرائيل، ويقول إنه لا عداء إيرانيا معها، وإن مصلحة أميركا تتمثل في دخول بتحالف مثلث الأضلاع، يجمع كلا من أميركا وإسرائيل وإيران. لكن يبدو أنه بعدما تأكدت طهران من أن إسرائيل لن تسمح لها بحيازة سلاح نووي، قررت الانقلاب من محاولة مصادقة الإسرائيليين إلى مواجهتهم، خصوصا في عاصمة القرار العالمي واشنطن.
وحسب المواجهات القليلة الماضية، يبدو أن بارسي محق في أن لوبي إسرائيل ليس معصوما عن الخسارة، وأنه يمكن للوبي فتي - كمثل اللوبي الإيراني الذي أسسه بارسي ويقوده في واشنطن منذ نحو عقد - أن يلحق هزيمة بالإسرائيليين، وذلك بالتحالف مع تيارات داخلية أخرى، وفهم الصورة الأميركية بشكل دقيق ومتابعتها، وهو نشاط إيراني يبدو أنه قارب أن يثمر، خصوصا مع ترديد الرئيس الأميركي أن التغيير آتٍ، وأن واشنطن في طريق حتمي إلى مصالحة وصداقة مع طهران، وأن على حلفاء أميركا في المنطقة التكيف مع التغيير.



السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
TT

السوريون يحتفون بذكرى عودة سوريا وهروب الأسد


سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)
سوريون يلوحون بأعلام بلدهم وهم يشاركون في الاحتفالات بسقوط نظام بشار الأسد في دمشق أمس (أ.ب)

تعيش دمشق، في الذكرى الأولى لـ«التحرير» التي تصادف اليوم، لحظات احتفاء بعودة السوريين إلى بلادهم، وانهيار النظام السابق وهروب رئيسه بشار الأسد.

في العاصمة التي بدت كأنها في «وقفة عيد»، تتداخل بهجة بـ«حق العودة» مع ثقل الذاكرة، فيما تعكس الشوارع ملامح هوية جديدة حلّت محل رموز «الحقبة السوداء»، وصهرت مقاتلي الفصائل في أجهزة الدولة الناشئة، وامتصت جانباً من قلق الدمشقيين تجاه مستقبلهم.

وخلف الزينة والزحام والفنادق المكتظة والعائدين بعد سنوات منفى، ثمة غصة حاضرة لدى أهالي المغيبين وسكان المناطق المدمرة. رغم ذلك، استعاد الناس جرأة النقاش العلني، كأن «الجدران لم تعد لها آذان»، في تعبير عن شعور عام باسترداد القرار الفردي والحق في العودة.

هذا التحول لم يلغِ ذكرى الليلة العصيبة التي أعقبت هروب الأسد في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، حين وقفت دمشق على حافة الفوضى؛ فقد انهارت المؤسسات الأمنية، واندفعت مجموعات مسلحة لنهب مقرات حساسة، بينما ترك عناصر النظام بزاتهم في الشوارع.

ومع ذلك، نجحت أحياء مثل الجسر الأبيض وباب توما والقصاع في حماية نفسها عبر لجان أهلية ارتجالية ضمت أطباء وطلاباً وتجاراً. وبفضل هذه المبادرات، أوقف أكثر من 200 لص، وأحبطت محاولات اعتداء ذات طابع طائفي، في لحظة كشفت قدرة الناس على منع الانزلاق.

وفي طهران، تبرز اليوم روايات متناقضة حول انهيار «خيمة المقاومة»، وفقدان إيران عمودها السوري بين خطاب المرشد عن «مؤامرة خارجية»، ورؤية «الحرس الثوري» لسوريا بوصفها «المحافظة الخامسة والثلاثين»، ودفاع الدبلوماسية، واتهامات برلمانيين بهدر عشرات المليارات. وتتوالى الأسئلة حول التكلفة والخسارة، وفيما إذا تستطيع طهران خوض مغامرة جديدة في سوريا بعدما انهار الرهان السابق.


4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
TT

4 روايات إيرانية عن انهيار «خيمة المقاومة»

الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)
الجنرال قاسم سليماني يجري مكالمة هاتفية قرب قلعة حلب التاريخية شتاء 2016 (فارس)

192 يوماً فصلت بين اللقاء الأخير الذي جمع المرشد الإيراني علي خامنئي بالرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في طهران، وسقوط النظام السابق بيد المعارضة. هذا الفاصل الزمني لم يكن تفصيلاً عابراً في روزنامة الحرب السورية، بل تحول إلى مرآة حادة داخل طهران عكست حجم الرهان الذي وضعته القيادة الإيرانية على شخص الأسد، وكشفت عن حدود قدرتها على استشراف مسار الصراع وتحولات ميزان القوى في الإقليم.

في ذلك اللقاء، قدم خامنئي خلاصة «عقيدته» السورية على ضوء المستجدات في ساحات «محور المقاومة». فـسوريا، في نظره، ليست دولة عادية، بل صاحبة «مكانة خاصة»؛ لأن هويتها - كما رأى - تتشكل من دورها في هذا المحور.

ولأن «المقاومة هي الهوية المميزة لسوريا وينبغي الحفاظ على هذه السمة»، خاطب خامنئي الأسد بوصفه شريكاً في هذه الهوية لا مجرد حليف سياسي، وأثنى على عبارتيه: «كلفة المقاومة أقل من كلفة المساومة»، و«كلما تراجعنا تقدم الطرف المقابل». هكذا ثبّت خامنئي رهانه الكامل والمتأخر في الوقت نفسه على بقاء النظام، في لحظة كانت مؤشرات الانهيار فيها تتراكم بوضوح في الميدان، كما أقر بذلك لاحقاً بعض المسؤولين الإيرانيين.

بعد أقل من سبعة أشهر، كان النظام قد سقط، لكن سقوط نظام بشار الأسد لم ينتج رواية إيرانية واحدة، بل عدة روايات متوازية: رواية المرشد، ورواية «الحرس الثوري»، ورواية جهاز السياسة الخارجية، إلى جانب أصوات من داخل النظام نفسه عادت إلى الواجهة لتطرح أسئلة صريحة عن كلفة المغامرة الإيرانية في سوريا.

في أول خطاب له بعد سقوط الأسد، قدم خامنئي تفسيراً حاداً لما جرى، عارضاً الحدث بوصفه «نتاج مخطط مشترك أميركي - صهيوني» بمساندة بعض الدول المجاورة. وتحدث عن عوامل - قال إنها منعت طهران من تقديم المساندة المطلوبة - من بينها الضربات الإسرائيلية والأميركية على الأراضي السورية، وإغلاق الممرات الجوية والبرية أمام الإمداد الإيراني، ثم خلص إلى أن الخلل الحاسم وقع داخل سوريا نفسها، حين ضعفت «روح المقاومة» في مؤسساتها. وشدد على أن سقوط النظام لا يعني سقوط فكرة «المقاومة»، متوقعاً أن «ينهض الشباب السوري الغيور» يوماً ما لإعادة إنتاجها بصيغة جديدة.

هذه الرواية تنفي عملياً مفهوم «الهزيمة الاستراتيجية»؛ فما جرى بالنسبة لخامنئي، ليس نهاية المعركة، بل مرحلة قاسية في مسار أطول، ولذلك يصر على أن «الوضع لن يبقى على حاله».

رواية «الحرس الثوري»

في المقابل، بدا «الحرس الثوري» أقرب إلى لغة الأمن القومي منه إلى لغة العقيدة الخالصة، وإن استعان بالقاموس الآيديولوجي نفسه. في فبراير (شباط) 2013، صاغ مهدي طائب، رئيس «مقر عمار» المكلَّف بـ«الحرب الناعمة»، المعادلة بأوضح ما يكون: «سوريا هي بالنسبة لنا المحافظة الخامسة والثلاثون، وهي ذات أهمية استراتيجية. وإذا شنّ العدو هجوماً وحاول الاستيلاء على سوريا أو خوزستان (الأحواز)، فإن الأولوية لدينا ستكون الإبقاء على سوريا».

بهذه الجملة الصادمة داخلياً، رُفعت سوريا عملياً إلى مرتبة جزء من الجغرافيا الأمنية الإيرانية، يتقدّم أحياناً على أجزاء من التراب الإيراني نفسه.

وكان اللواء قاسم سليماني، القائد السابق لـ«فيلق القدس»، هو المهندس الميداني لهذه المقاربة: مواجهة التهديدات خارج الحدود، عبر بناء شبكات من الميليشيات المتعددة الجنسية، وتحويل «حماية العتبات والأماكن المقدسة» إلى شعار تعبوي يغطي في آن واحد الدوافع الآيديولوجية وحسابات الأمن القومي.

وفي خطاب الذكرى الخامسة لمقتل سليماني، بعد أقل من شهر على سقوط الأسد، أعاد خامنئي تثبيت هذه المدرسة؛ فربط بين حماية العتبات في دمشق والعراق وبين حماية «إيران بوصفها حرماً» نفسها، في محاولة لتوحيد كل هذه الساحات ضمن إطار واحد: صراع أمني - مذهبي عابر للحدود.

بعد سقوط النظام السوري، حافظت هذه الرواية على جوهرها: النجاح أو الفشل لا يُقاس بهوية من يجلس في قصر الشعب في دمشق، بل بما إذا كانت شبكات النفوذ التي نسجها الحرس ما زالت قابلة للحياة، وبما إذا كان «العمق السوري» ما زال مفتوحاً أمام النفاذ الإيراني. الانسحاب الكامل من سوريا يعني، وفق هذا المنطق، الاعتراف بأن «المحافظة الخامسة والثلاثين» سقطت من الخريطة؛ لذلك سيظل «الحرس» يبحث عن طرق لإبقاء موطئ قدم (مهما كان ضيقاً) في الجغرافيا السورية.

شيباني يلتقي عراقجي بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً بسوريا بعد شهر من الإطاحة بالأسد يناير 2025 (الخارجية الإيرانية)

رواية الجهاز الدبلوماسي

حاول جهاز السياسة الخارجية تقديم قصة أكثر نعومة للداخل والخارج. قبل السقوط بأسابيع، أوفد خامنئي مستشاره الخاص علي لاريجاني إلى دمشق وبيروت، حاملاً رسائل سياسية تطمينية إلى بشار الأسد وحلفاء آخرين. تحدث لاريجاني علناً عن أن ما يجري في سوريا ولبنان «يتصل مباشرة بالأمن القومي الإيراني»، وكأن طهران ما زالت قادرة على ضبط التوازنات.

بعده بأيام، زار وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي دمشق قبل ستة أيام فقط من الانهيار، واختار أن يلتقط صورة وهو يتناول الشاورما في أحد مطاعم العاصمة، في إشارة مقصودة إلى أن «الوضع طبيعي»، وأن الحديث عن انهيار وشيك جزء من «الحرب النفسية». كان ذلك ذروة الفجوة بين الصورة التي تحاول الدبلوماسية تسويقها والواقع المتفكك على الأرض.

بعد السقوط، لجأت الخارجية إلى صيغة دفاعية مألوفة: إيران «استجابت لطلب حكومة حليفة، وقدّمت المشورة والدعم»، لكنها «لا تستطيع أن تقرر نيابة عن الشعوب». هكذا خففت مسؤولية القرار عن كاهل الدبلوماسية، وأُحيل الجزء الأكبر من الفشل إلى الداخل السوري و«التآمر الخارجي» الذي يتكرر في خطابات خامنئي. هذه الرواية تكشف عن قراءة تعد سوريا ملفاً من بين ملفات، لا ساحة وجودية كتلك التي يراها «الحرس الثوري» والمرشد.

من الناحية الجيوسياسية، كانت سوريا بالنسبة لطهران أكثر من حليف؛ كانت ممراً إلى لبنان وفلسطين، وساحة اشتباك مع إسرائيل، وخط دفاع متقدماً في مواجهة الولايات المتحدة. وتلخص عبارة مهدي طائب في 2013 - «إذا اضطررنا للاختيار فإن الأولوية تكون لحماية سوريا قبل خوزستان» - هذه العقيدة بوضوح.

اليوم، مع سقوط النظام الذي ارتبط بهذه العقيدة، تواجه إيران فراغاً في عمقها الإقليمي لا يمكن ملؤه بالشعارات وحدها. وهنا يصبح السؤال المركزي: كيف تتصرف طهران بعد أن فقدت النسخة التي صاغتها لنفسها من «خيمة المقاومة» في دمشق؟ الإجابة لا تأتي من خطاب واحد، بل من موازنة بين دوافع آيديولوجية راسخة، وقيود اقتصادية خانقة، وموازين قوى ميدانية لم تعد تميل لها كما في السابق.

ملصق نشره موقع المرشد الإيراني بعد آخر زيارة للأسد إلى طهران بينما كانت دمشق تتعرض إلى انتقادات بسبب تخليها عن «حزب الله»

رواية «الحساب المفتوح»

الرواية الرابعة جاءت من حيث لا يُفترض أن تأتي: من داخل المؤسسة نفسها؛ إذ خرج للمرة الأولى، من قلب البنية الرسمية توصيف شبه علني بأن العائد الاقتصادي من المغامرة السورية يكاد يكون معدوماً، وأن «الاستثمار» السياسي والأمني انتهى إلى ما يشبه الخسارة الصافية.

في مايو (أيار) 2020، قال حشمت الله فلاحت‌بيشه، الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، إن إيران أنفقت «بين 20 و30 مليار دولار» في سوريا، وإن «هذا مال الشعب ويجب استرداده».

بعد خمس سنوات، عاد فلاحت‌بيشه ليطلق اتهاماً أكثر مرارة: ديون سوريا لإيران - كما قال - سُويت عملياً عبر «أراضٍ بلا نفط، ومزارع أبقار بلا أبقار، ووعود فارغة».

هذا الصوت ليس استثناءً. على مدى عقد، ربطت شعارات الاحتجاجات الداخلية بين «غزة ولبنان وسوريا»، والخبز والوقود في المدن الإيرانية. ومع سقوط الأسد، صار من الأسهل على المنتقدين القول إن النظام أنفق عشرات المليارات، ودفع كلفة بشرية ملموسة بين مقاتليه وحلفائه، لينتهي إلى نفوذ شبه معدوم تقريباً في دمشق.

بالنسبة لصانع القرار، تتحول هذه الرواية إلى عامل ضغط داخلي ضد أي قرار بالعودة إلى سوريا بالحجم نفسه الذي كان عليه التدخل السابق.

عند جمع هذه الروايات المتوازية، يتضح التناقض الجوهري في المقاربة الإيرانية بعد سقوط الأسد: المرشد و«الحرس» لا يعترفان بأن إيران «خسرت سوريا»، بل يتعاملان مع ما جرى كمرحلة عابرة في مسار صراع أطول، ويصران على أن «جبهة المقاومة» قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وأن سوريا ستعود، بطريقة ما، إلى هذا المدار. في المقابل، تكشف رواية الدبلوماسية الرسمية ورواية «الحساب المفتوح» عن إدراك ضمني بأن نموذج التدخل الذي طبق خلال العقد الماضي لم يعد قابلاً للاستمرار بصيغته السابقة، لا سياسياً ولا مالياً.

قائد «الحرس الثوري» يقدم إفادة لنواب البرلمان حول سقوط نظام بشار الأسد وخروج القوات الإيرانية يناير 2025 (موقع البرلمان)

السيناريوهات: هل تعيد طهران دمشق للمحور؟

في ضوء ما سبق، يمكن رسم أربعة سيناريوهات رئيسية، ليست متنافية بالضرورة، بل يمكن أن تتداخل زمنياً وجغرافياً.

السيناريو الأول هو «العودة عبر الوكلاء». وهو الأقرب إلى منطق «الحرس الثوري» ومدرسة سليماني. هنا تحاول طهران إعادة بناء نفوذها في سوريا من أسفل، عبر شبكات محلية مسلّحة كانت نواتها موجودة أصلاً، أو عبر تجنيد مجموعات جديدة تحت شعارات مذهبية أو آيديولوجية. الهدف ليس استعادة نظام شبيه بالأسد، بل تكوين قوة ضغط دائمة على أي سلطة قائمة في دمشق، وأداة استخدام ضد الخصوم الإقليميين. نجاح هذا السيناريو يتوقف على عاملين خارج السيطرة الكاملة لإيران: مآل معادلة الحكم في دمشق، واستعداد المجتمع السوري لتحمل دورة عنف جديدة أياً كان اسمها.

السيناريو الثاني هو «التموضع الإقليمي من دون سوريا». وفق هذا المسار، تقبل طهران ضمناً بأن دمشق لم تعد محور ارتكاز لنفوذها كما كانت، فتُعيد توزيع مواردها على الساحات الأربع التي ما زالت تمسك ببعض خيوطها فيها، رغم تراجع دورها النسبي: لبنان، العراق، اليمن، وغزة. تتحول سوريا هنا إلى ساحة استنزاف ثانوية، يقتصر الدور الإيراني فيها على منع الخصوم من تحويلها إلى منصة تهديد مباشر، من دون الدخول في مشروع جديد لإعادة هندسة النظام السياسي.

وينسجم هذا المسار مع ضغوط الكلفة المالية والبشرية التي راكمها التدخل خلال العقد الماضي، لكنه يصطدم بحقيقتين أساسيتين: حاجة «حزب الله» إلى سوريا بوصفها ممراً لوجيستياً، واستمرار خطاب خامنئي في التعامل معها على أنها عنصر بنيوي في «جبهة المقاومة».

السيناريو الثالث هو «التسوية الرمادية». هنا لا تسعى إيران إلى فرض عودة صاخبة، بل إلى تسلل محسوب عبر اتفاقات موضعية مع القوى المسيطرة على مناطق مختلفة من سوريا، وعبر مشاريع اقتصادية أو أمنية محدودة. الخطابات التي يتحدث فيها خامنئي عن أن «الأيام لا تبقى على حالها»، وأن «الشباب السوري سيعيد التوازن» يمكن قراءتها كتهيئة لعودة تدريجية وغير صدامية، تتيح لطهران القول إنها ما زالت «حاضرة» من دون أن تتحمل كلفة الرهان على نظام واحد كما فعلت مع الأسد.

السيناريو الرابع هو «مأسسة الخسارة». في هذا المسار، تتعامل طهران مع فقدان سوريا على أنه أمر واقع، من دون محاولة جدية لاستعادة نفوذ ميداني، لكنها تحوله إلى ملف داخلي - عقائدي أكثر منه جيوسياسي، خصوصاً في ضوء السردية التي تبنتها بعد الحرب الـ12 يوماً مع إسرائيل في يونيو (حزيران) 2025. تعاد تجربة سوريا وتؤطر ضمن خطاب «المؤامرة على جبهة المقاومة»، وتستخدم ذريعة لتشديد القبضة الأمنية، وتقييد النقاش حول كلفة التدخلات الخارجية، وتجريم الربط بين الإنفاق الإقليمي والأزمة المعيشية.

في المقابل، تبقي إيران على حضور رمزي منخفض في الملف السوري (لغة الشهداء، العتبات، حراك دبلوماسي شكلي)، فيما تطوى عملياً صفحة «المشروع السوري» بوصفه عمقاً استراتيجياً، من دون إعلان هزيمة صريحة، بل عبر تغليفها بلغة «الابتلاء والصمود»، ودفعها تدريجياً إلى هامش أجندة صنع القرار.

في كل هذه السيناريوهات تبقى حقيقة واحدة ثابتة: سوريا، التي نظر إليها يوماً على أنها أهم من «الأحواز» و«الهوية المميّزة للمقاومة»، لم تعد، في ميزان الواقع، ما كانت عليه قبل الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. يمكن للمرشد أن يراهن على الزمن، ولـ«الحرس» أن يفتش عن فتحات جديدة في الجغرافيا السورية، وللخارجية أن تلمّع لغة بياناتها، وللمنتقدين أن يتحدثوا عن «أراضٍ بلا نفط».

لكن السؤال المعلق فوق كل نقاش في طهران سيظل واحداً: هل تستطيع إيران أن تتحمل مغامرة ثانية بهذا الحجم في سوريا، بعد أن خرجت من الأولى وهي تحاول إقناع نفسها بأن «خيمة المقاومة» ما زالت قائمة، فيما عمودها السوري مكسور؟


كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
TT

كيف حمت دمشق نفسها ليلة هروب الأسد؟

لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)
لقطة جوية تُظهر رجلاً سورياً يلوّح بعَلم الاستقلال السوري في ساحة الأمويين بوسط دمشق (أ.ف.ب)

«في تلك الليلة لم يُكسر قفل محل واحد في حينا»، يقول وائل، طبيب في الأربعين من عمره، وهو يقف أمام عيادته الصغيرة في شارع بغداد وسط دمشق. يروي لحظة لن ينساها من يوم 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024: «شاهدنا لصوصاً في طريقهم لاقتحام البنك المركزي في ساحة السبع بحرات. كنا بين صدمة وخوف وفرح، ثم أدركنا أن أحداً لن يحمينا... فبدأنا نحمي أحياءنا بأنفسنا».

كانت تلك الساعات الأولى بعد انهيار نظام بشار الأسد، حين عم الخوف وبات شبح الفوضى يخيم على المدينة. لكن دمشق، بطريقة ما، حمت نفسها.

نور الدين ترجمان، المعروف بـ«أبو جبريل»، أحد أبرز المتطوعين في لجنة حماية الجسر الأبيض والروضة القريبين من المقرات الأمنية والقصر الرئاسي، يتذكر ما حدث عند الثانية بعد منتصف الليل: «شاهدنا عناصر من النظام السابق يخلعون بزاتهم ويرمونها في حاويات القمامة قبل أن يفروا». بعد دقائق، وصلت مجموعات مسلحة على متن سيارات وشاحنات ودخلت المقر الأمني المعروف بـ«قسم الأربعين».

نهبوا كل شيء؛ السلاح، الحواسيب، الأقراص الصلبة، الوثائق، وحتى خزانات الوقود. لكن رغم موقع القسم وسط السوق التجارية والفوضى التي غمرتها، لم تُقتحم أي من المحال.

يقول أبو جبريل لـ«الشرق الأوسط»: «إن أطفالاً كانوا يلعبون بالسلاح والقذائف وسط إطلاق نار. الأهالي عاجزون عن التدخل. لكن عندما اندلع حريق داخل القسم، هرع الناس لإخماده خوفاً من انفجار أكبر». لم تهدأ المنطقة إلا مع وصول عناصر من «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر.

حارس أمام علم في ساحة باب توما (رويترز)

قناص في «واتساب»

مع اتساع حوادث السرقة، خصوصاً السيارات، بدأ شباب الحي، وبينهم أطباء ومهندسون وأصحاب محلات وطلاب جامعيون، يتجمعون. يقول أبو جبريل: «بعد عشرين يوماً من سقوط النظام بدأ العمل ينتظم». وارتفع عدد المتطوعين من 75 إلى نحو 300. اشتروا أجهزة اتصال، وقسموا إلى مجموعات، وزودتهم السلطة الجديدة بقطعتي سلاح لكل مجموعة مع كلمة سر للتعريف.

واعتمدت اللجان على مجموعات «واتساب» للتواصل بين أفراد اللجان أنفسهم، وبين اللجان والأهالي. في بعض الأحياء تجاوز عدد المشتركين الآلاف. كانت المشاركة شخصية ومباشرة للإبلاغ عن تحركات مريبة، تصوير السلوكيات الخطرة، والمراقبة المستمرة.

ولا تخلو تلك المجموعات من خروقات، كما حصل لدى اكتشاف قناص من النظام السابق ضمن لجان الحماية نفسها.

القصاع وباب توما

في حي القصاع ذي الغالبية المسيحية، بقي الخوف من التجييش الطائفي حاضراً، خاصة بعد كتابة عبارات طائفية على جدار كنيسة القديس كيرلس. يوسف، أحد شبان «الفزعات» في باب توما والقصاع، يقول إن المتطوعين لعبوا دوراً حاسماً في احتواء الانفلات الأمني منذ اللحظة الأولى: «بدأت الفوضى عند الخامسة فجراً واستمرت حتى الثانية ظهراً. كانت المؤسسات الأمنية والحكومية تُنهب بالكامل، بعضها تعرض للحرق مثل مبنى الهجرة والجوازات في الزبلطاني». ويضيف: «رأيت أطفالاً يعرضون أسلحة للبيع ولصوصاً يسرقون السيارات».

أغلق شباب الحي الحارات بالسيارات حتى وصول «هيئة تحرير الشام» بعد الظهر. الخوف الأكبر كان من احتمال وقوع مجازر. يقول يوسف: «فجأة وجدنا أنفسنا أمام مسلحين (...) ذهبنا إليهم وطلبنا وضع حد للفوضى. وكانوا متعاونين».

وبحسب شهادة يوسف، فإن أعمال العنف لم تحدث بالمعنى المنظم في الأشهر الأولى، بل كانت هناك حوادث بالفعل واستفزازات، بسبب الخوف المسبق وسوء الفهم والجهل المتبادل بالآخر.

رفض أهالي الأحياء المسيحية تسلم السلاح من السلطة الجديدة خشية أن يجر ذلك إلى «خراب»، مفضلين الاعتماد على «الكثرة العددية» في حال حدوث طارئ، واللجوء إلى قوى الأمن لمواجهة الخطر عند الحاجة. وقد ساعد ذلك في إحباط هجوم مسلح والتصدي لسيارات رفعت شعارات طائفية.

سيدة سورية تُلوِّح بعلامة النصر حاملة باقة ورد في «ساحة الأمويين» بدمشق احتفالاً بإعلان إطاحة الأسد (أرشيفية - أ.ف.ب)

«أوقفنا 200 لص»

بعد عام على سقوط النظام، يقول سكان من الجسر الأبيض إن لجان المجتمع الأهلي التي تشكلت لعبت دوراً أساسياً في سد الفراغ الأمني إلى حد ما، خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى، مشيرين إلى أن أكثر من 200 لص أُوقفوا في ذلك الحي وحده.

محمد الفقي يروي: «في تلك الأشهر عملنا في كل شيء؛ تنظيم السير، الحراسة، ملاحقة العصابات، الإسعاف، تأمين ذهاب الأطفال للمدارس. لم يكن هناك خيار آخر لحماية أهلنا».

ويضيف الفقي أن التحدي الأكبر كان غياب القدرة على التمييز بين رجال السلطة الحقيقيين ومنتحلي الصفة.

يضحك أبو جبريل وهو يستعيد ذكريات الأسبوع الأول: «كنا مجانين. نحمي الحي بلا سلاح ولا تدريب. تعرضنا لإطلاق نار مرات عدة، ومع ذلك واصلنا السهر كل ليلة على أمن الحارات».

هكذا، في تلك الليلة الرهيبة التي سقط فيها نظام بشار الأسد وعمت الفوضى، لم تنزلق دمشق إلى الهاوية التي خاف منها الجميع. وقام أهلها بحمايتها عبر ارتجال قرار جماعي.