دراسة: الفيروسات العملاقة سلالات محوّرة من فيروسات صغيرة

لم تكن معروفة قبل القرن الحالي وكان العلماء يخلطون بينها وبين أنواع من البكتريا

دراسة: الفيروسات العملاقة سلالات محوّرة من فيروسات صغيرة
TT

دراسة: الفيروسات العملاقة سلالات محوّرة من فيروسات صغيرة

دراسة: الفيروسات العملاقة سلالات محوّرة من فيروسات صغيرة

تتسبب الفيروسات العملاقة في حيرة العلماء منذ سنوات حيث يعتبرها بعض العلماء مجموعة مستقلة من الكائنات الدقيقة، وذلك بسبب حجمها الهائل مقارنة بالحجم المعتاد للفيروسات، وبسبب خصائصها الجينية التي تتجاوز الخصائص المعروفة عن الفيروسات العادية. ومع ذلك فربما كانت الفيروسات العملاقة مجرد مسخة فرانكنشتاين للفيروسات الصغيرة، حسبما أوضح باحثون أميركيون في دراسة حديثة لهم نشرت أمس الخميس في مجلة «ساينس».
ويستخدم الباحثون تعبير «فرانكنشتاين» للإشارة للمخلوق المسخ هائل الحجم، الذي نتج عن طريق الخطأ عن تجارب الطالب الألماني فكتور فرانكنشتاين في رواية الكاتبة البريطانية ماري شيلي التي صدرت عام 1818.
وعثر فريق الباحثين تحت إشراف فريدريك شولتس، وتانيا فويكه من معهد جوينت جينوم للدراسات الجينية بمدينة والنوت كريك بولاية كاليفورنيا الأميركية على أربعة فيروسات عملاقة جديدة، وكان العثور على أول هذه الفيروسات بمحض الصدفة، وذلك عندما كان الباحثون يحللون في إطار مشروع آخر المجموع الوراثي لكائنات دقيقة أخذت من مياه صرف إحدى محطات معالجة مياه الصرف الصحي في مدينة كلوسترن نويبورغ النمساوية.
وعثر شولتس وفويكه أثناء ذلك على التسلسل الجيني لفيروس عملاق غير معروف حتى الآن أطلقا عليه اسم «كلوز نويفيروس».
يمتلك هذا الفيروس مجموعا وراثيا يتكون من 1.57 مليون زوج قاعدي، من بينها الكثير من الجينات التي توجد عادة في كائنات أسمى.
وتمتلك الكثير من الكائنات الدقيقة الخلوية مجموعا وراثيا أقل بكثير من هذا المجموع.
ثم بحث الباحثون في عينة مياه الصرف الصحافي عن جسيمات مناسبة لهذا الفيروس، وعثروا خلال ذلك على فيروس بقطر 300 نانومتر (300 جزء من واحد من مليون مليمتر). قال شولتس إنه إذا تأكد فعلا أن هذا الجسيم هو فيروس كلوز نويفيروس، فإن هذا الفيروس سيكون أحد الفيروسات العملاقة الأقل حجما.
وأشار شولتس إلى أن أشهر أكبر فيروس حتى الآن هو فيروس بيثوفيروس الذي يبلغ قطره 1500 نانومتر، ولكنه يمتلك 600 ألف زوج قاعدي «وليس هناك علاقة وثيقة بين كمية المجموع الوراثي للفيروس وحجمه لدى الفيروسات العملاقة»، حسبما أوضحت فويكه.
وقارن الباحثون التسلسل الجيني الذي عثروا عليه بإجمالي المجموع الوراثي لـ7000 عينة بيئية، وعثروا خلال ذلك على ثلاثة فيروسات أخرى شديدة التقارب مع هذا الفيروس الجديد وهي: إنديفيروس الذي يحتوي على 0.85 مليون زوج قاعدي وفيروس هوكوفيروس (1.33مليون زوج قاعدي) وكاتوفيروس (1.53 مليون زوج قاعدي).
وفقا للباحثين، فإن جميع هذه الفيروسات الثلاثة تنتمي لمجموعة كلوز نويفيروس، التي تنتمي بدورها لعائلة فيروسات ميميفيريدي، التي يرجح الباحثون أنها تصيب كائنات حية معينة وحيدة الخلية يطلق عليها اسم سيركوزوا.
ثم حاول الباحثون من خلال تحليلات جينية معقدة معرفة طريقة تطور الفيروسات العملاقة.
وتشير النتائج التي توصلوا إليها إلى أن هذه الفيروسات تُراكِم مع مرور الوقت المزيد من الموروثات الجينية، وذلك لأن المواد الجينية التي تفقدها أقل من التي تكتسبها.
وخلص الباحثون إلى أن منشأ هذه الفيروسات ليس أحد الأسلاف الأكثر تعقيدا، وليس مجموعة من الأحياء الدقيقة المنقرضة، كما كان يفترض بعض الباحثين، بل نشأت على الأرجح من فيروسات أصغر راكمت بشكل مفرط مواد جينية لعائلها. وتعتبر الأميبات والطحالب من هذه العوائل التي تتطفل عليها الفيروسات العملاقة.
جدير بالذكر أن الفيروسات جسيمات مُعْدية لا تعتبر ضمن الكائنات الحية، حسب تصنيف معظم علماء الفيروسات، وذلك لأسباب، منها أنها لا تستطيع الاعتماد على نفسها في البقاء على قيد الحياة، بل تُدخل مجموعها الوراثي في خلايا كائنات أخرى لكي تستطيع التكاثر.
ولكن الصفات المميزة للفيروسات العملاقة، التي اكتشفت في السنوات الماضية، تجعل بعض الباحثين يشككون في صحة هذا التصنيف، حيث يمكن أن تحتوي جينات هذه الفيروسات على خطط تكوين بروتينات تميز الكائنات الدقيقة الخلوية، وتمثل أهمية للتكاثر الذاتي على سبيل المثال.
وفي حالة فيروس كلوز نويفيروس الذي وصفه الباحثون، فإن ذلك مثال على آلية واسعة تشارك في تحويل المعلومات الوراثية إلى بروتينات مختلفة في الخلية.
لم يعرف الباحثون الفيروسات العملاقة إلا في القرن الحادي والعشرين، حيث كانوا يغفلون هذه الفيروسات أو يخلطون بينها وبين أنواع من البكتريا.
وفي عام 2010 تحدث الباحثون، على سبيل المثال، عن فيروس عملاق عثروا عليه في البحر ورجحوا أنه يلعب دورا محوريا في سلسلة الغذاء وهو فيروس «كافيتيريا روينبرجينسيس» (CroV) الذي عثروا عليه في مياه تكساس، ويصيب كائنات تتغذى على العوالق البحرية.
وبعد ذلك بأربع سنوات، كتب فريق آخر من الباحثين أنه أيقظ فيروسات عملاقة عمرها 30 ألف سنة من تربة صقيعية، وهي فيروسات بيثو سيبِريكوم، صاحب الرقم القياسي كأكبر فيروس عملاق حتى الآن. وهذا الفيروس يصيب أميبات بعينها، حسبما ذكر الباحثون في دراستهم التي نشرت في مجلة «بروسيدنجز» التابعة للأكاديمية الأميركية للعلوم.
وحذر الباحثون من أن ذوبان التربة الصقيعية في مناطق مثل سيبيريا أو الحفر للتنقيب عن النفط في المنطقة القطبية الشمالية ربما هدد حياة الحيوان والبشر.
وأوضح شولتس أن العلماء يعرفون حتى الآن 60 نوعا من الفيروسات العملاقة تنتمي لما بين سبع إلى ثمانية خطوط رئيسية، ولكنهم لا يعرفون شيئا عن العائل الذي يفضله كل من هذه الفيروسات.
وغالبا ما يستخدم الباحثون أميبات كطعم لاستدراج هذه الفيروسات، ولكن ذلك لا يعني أن الباحثين يعرفون ما تفضله هذه الفيروسات كعوائل في الطبيعة.
ويعتزم الباحثون زراعة هذا الفيروس الجديد الذي عثروا عليه في النمسا في المختبر لدراسة أسلوب حياته.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)