رحيل اللبناني ستراك سركيسيان سيد الإيقاع والأنامل الذهبية

نعاه نقيب الموسيقيين واصفًا إياه بوالد محترفي الموسيقى

أحدث صورة للعازف الراحل التي جمعته بالفنانة سميرة توفيق
أحدث صورة للعازف الراحل التي جمعته بالفنانة سميرة توفيق
TT

رحيل اللبناني ستراك سركيسيان سيد الإيقاع والأنامل الذهبية

أحدث صورة للعازف الراحل التي جمعته بالفنانة سميرة توفيق
أحدث صورة للعازف الراحل التي جمعته بالفنانة سميرة توفيق

غيّب الموت عازف الإيقاع الأول في لبنان ستراك سركيسيان بعد صراع مع المرض أبعده عن الساحة الفنية منذ نحو السنة. وكان أول من نعى عازف الطبلة اللبناني نقيب الموسيقيين مروان خوري، خصوصا أن ستراك كان يشغل مركز نائبه. فوصفه بأنه امتلك آلته وزمانه وبأنه زيّن بأنامله أغاني الكبار في عصر ذهبي، مختتما تغريدته هذه على موقع «تويتر» بالقول: «ستفتقدك نقابتك يا نائب الرئيس ويا أبا لمحترفي الموسيقى والغناء».
والمعروف أن ستراك سركيسيان هو من أهم عازفي الإيقاع في لبنان والعالم العربي، وقد استطاع بفعل جهده تأسيس مدرسة خاصة بأسلوبه الفنّي فطالت شهرته العالم، خصوصا أنه رافق عمالقة الفن في لبنان على أشهر المسارح في العالمين الغربي والعربي.
وظلّ ستراك لسنوات من طفولته يقرع على التنك إلى أن اشترى طبلته الأولى من مصروفه الخاص، فكَسرها له شقيقه، وبقي «الحظر العائلي» على عزف الطبلة ساري المفعول وصولا إلى الطبلة رقم 4. كان ذلك في عز ثورة الـ1958 كما ذكر في إحدى إطلالاته الإعلامية، وبقي منتظرا الفرج حتى مطلع الستينات عندما بدأت العائلات اللبنانية المحافظة تقبل مبدأ احتراف أبنائها الفنّ بشكل عام.
فكلّ ما حقّقه العازف الراحل من شهرة في الوطن العربي لم يأت بالصدفة أو بضربة حظّ بل نتيجة عمله الدؤوب في هذا المجال ولأكثر من نصف قرن.
ولدت صداقة ستراك الصاخبة مع الطبلة والإيقاع من سنوات الولدنة الأولى، يوم كان يجلس أمام المرآة عازفًا، ومحاولا أن يستلهم تقنية العزف عليها من أحد عازفي الطبلة الذين أحبّهم أسامة النجا. وهو نفسه العازف الذي شجّعه على الصعود للمرة الأولى إلى المسرح كعازف طبلة، كان ذلك عام 1961 في مطعم المنصور في الزيتونة، أيام بيروت المتألقة بالنجوم والحفلات. ومن تلك الأيام حكاية عن البدايات، يرويها ستراك: «هناك التقيت للمرة الأولى الفنان وديع الصافي. وأثناء أدائه لأغنيته (ع اللوما اللوما) أخطأت في أحد الإيقاعات، فتوقف وديع عن الغناء وقال لي منزعجًا: جاي تتعلّم الحلاقة فوق رأسي؟ عندها أوقفت العزف. وخرجت إلى الكواليس متضايقا جدًا مما حصل». لكن في غرفة تبديل الملابس التابعة للمطعم، سمع الكلمات التي شدّت من عزمه من قبل الراقصة عليا واصف، فحاولت أن تخفف عنه بالقول: «اذهب وتدرّب جيدا وعندما سيطلبك وديع الصافي إلى المسرح، ستبرهن عن كفاءتك». ومنذ ذلك اليوم راح ستراك يتمرّن على الطبلة بلا انقطاع إلى أن استعان به وديع الصافي في حفلة كانت تشاركه فيها سميرة توفيق في الشام، فطلب منه أن يحل مكان عازف الطبلة الذي لم يتمكن من الحضور لخطأ في أوراقه. وكانت تلك فرصة العازف الشاب كي يثأر لكبريائه مما حصل بينهما قبل بضع سنوات فذكّره بالعبارة التي قالها له «لقد كنت أريد أن أسجل موقفًا يتعلق بضرورة أن نُشجع كل مبتدئ عندما يطل على الجمهور للمرة الأولى وبعدها بسنوات تصالحنا وصرت أرافقه في حفلاته وتسجيلات أغنياته» روى العازف الراحل في إحدى مقابلاته التلفزيونية.
عمل ستراك مع عدد من الفنانين اللبنانيين وشارك في أعمال للرحابنة، وكان الراحل عاصي الرحباني من أوائل المشجّعين له؛ إذ كان يردّد دائما بأن ستراك له أسلوبه الخاص في العزف وبأنه سيّد عصره في الإيقاع.
وسيودّع اللبنانيون العازف الراحل في مأتم مهيب يقام له في الواحدة من بعد ظهر اليوم في كنيسة بطريركية الأرمن الأرثوذكس في أنطلياس.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».