نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

بين الجماعات الإرهابية واليمين المتطرف

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
TT

نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)

عاشت بعض الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها، في الآونة الأخيرة، ارتفاعًا لافتًا للأصوات اليمينية المتطرفة المناهضة للأجانب والمؤمنة بفوقية الرجل الأبيض. كذلك، تتعالى في بعض الدول في آسيا وأفريقيا أصوات الجماعات المتطرفة باسم الدين، بالأخص في مناطق الصراع والاضطراب السياسي. وفي المقابل، لا تزال جماعات متطرفة ترفع شعارات إسلامية كـ«داعش» و«بوكو حرام» تكتسب الكثير من المؤيدين، على الرغم من مشاهد العنف والوحشية والقتل. إن ما يحدث يبدو وكأنه يزكي نظرية الأكاديمي الأميركي صموئيل هنتينغتون التي تحدثت عن «صراع الحضارات» في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
يصعب استيعاب مدى قدرة الخطابات والآراء المتطرفة على كسب مؤيدين وغسل أدمغتهم وإقناعهم بشرعية قتل الأبرياء، وإن تضمن ذلك استهداف المقدسات الدينية. ولكن واضح جدًا في المقابل تأثير خطاب الكراهية وقدرته على التغلغل إلى عقول البعض في مهاجمته الآخر بناءً على العرق أو الدين أو الجنس، وسهولة التحريض على العنف وجرائم الكراهية التي تعزّزت في حقبة زاد فيها التقوقع والتعصب، نتيجة الأجواء المحمومة التي لا يصل فيها إلا صوت مقت الآخر، ومحاولة إلغائه أو القضاء عليه. ولقد شهدنا في الآونة الأخيرة تأييدًا شعبيًا لقيادات وسياسيين حوت حملاتهم السياسية خطابات تشوبها العنصرية؛ ما يؤكد وجود نوع من الموافقة الضمنية لفحواها.
* صوت اليمين المتطرف
وحقًا، حيثما نظرنا، نرى أن العالم اليوم يسقط في هاوية الأصولية الإقصائية أو الإلغائية، والرغبة في التقوقع والانعزال. وأن الابتعاد عن الاعتدال ومنطق الحوار أفسح المجال لاختلاف بات تهديدا للأمن، وأعطى للأصوات المتطرفة قدرة على استقطاب المؤيدين من خلال خطابات الكراهية وشيطنة الآخر.
الترويج للتطرف والعنف السياسي يأتي في ثلاثة أشكال:
- الشكل الأول هو الطرق التقليدية التي تستخدم استراتيجياتها منذ أيام التنظيمات السابقة الأقل وهجًا في استخدامها التقنية في عملية الاستقطاب، كتنظيم «القاعدة»، الذي يعتمد أساسًا على خطابات أبرز قادته بأساليب إقناع وقدرة على التأثير، إضافة إلى الكتب والمنشورات التي تختار اقتباسات قرآنية أو تاريخية يجرى انتقاؤها حسب ما يرونه مناسبًا.
- الشكل الثاني هو عبر النزول إلى الساحة واختيار شخصيات جذابة تتغلغل إلى داخل المجتمعات الصغيرة سعيًا وراء الاكتشاف والتجنيد.
- الشكل الثالث، وهو الذي جعل تنظيم داعش يتفوق على التنظيمات الأخرى، هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بنجاح وبكثافة حسابات ومواد تحريضية يصار إلى عرضها على الملأ، والغوص في العالم الافتراضي بتواصل سريع مع من يسعون إلى استقطابهم.
* التوحش عبر الكتب
لا تعد الحملات الدعائية لنشر البغضاء اكتشافًا جديدًا، ولا تقتصر على الأصولية الدينية، بل ترتبط بشكل عام بالتأصيل الفكري الذي طغى عليه في السابق النازية أو اليمين المتطرف بشكل عام. وكأبرز مثال على قوة تأثير الكتب وخطابات الكراهية كتاب «يوميات تيرنر» التي نشرت عام 1978. وهو عبارة عن رواية من تأليف الأميركي اليميني المتطرف ويليام لوثر بيرس (نشرها تحت اسم مستعار هو آندرو ماكدونالد) جاءت في تلك الحقبة، جزءا من سلسلة روايات ذات طابع عنصري وتحريضي تغوص في عوالم العنصرية والنازية، وتدعو إلى القومية البيضاء والاستعلاء على الأعراق الأخرى. ولقد حظر الكتاب في ألمانيا بسبب اعتماد موضوعه على الفكر النازي، ولمدى تأثيره التخريبي على الرأي العام؛ إذ تسبب في حدوث 200 جريمة قتل تتضمن التفجير الإرهابي الذي ارتكبه الأميركي تيموثي ماكفي 19 أبريل (نيسان) 1995، حين فجر أحد المباني الحكومية الكبرى في مدينة أوكلاهوما سيتي الأميركية. وعدت عملية التفجير تلك أكبر عملية إرهابية محلية في أميركا، وظهر فيها تأثر ماكفي بهذه الرواية التي استلهم عقب قراءتها نقمته وبغضه للحكومة الأميركية؛ الأمر الذي يشي بخطورة ومدى قابلية البعض التأثر بخطابات الكراهية، أو أي موضوعات تنشر في هذا المضمون.
من جهة أخرى، اشتهر عدد من كتب تنظيم «القاعدة» وأحد أشهرها كتاب «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي. وما هذا الكتاب إلا تجميع لمقالاته التي سبق نشرها عبر منتدى «أنا مسلم». وإلى جانب شرح الكتاب أبرز استراتيجيات وأهداف التنظيم، فإنه يتطرق إلى منهجية استقطاب المؤيدين عبر رفع الحالة الإيمانية والمخاطبة المباشرة والعفو والتأليف بالمال، وأهمية «جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس، كل الناس، استقطاب، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق، وفريق إلى جانب أهل الباطل، ويتبقى فريق ثالث محايد ينتظر نتيجة المعركة لينتصر المنتصر. علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، وبخاصة أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المرحلة الحالية».
على النسق ذاته، تظهر رسالة «أبو مصعب الزرقاوي» إلى أسامة بن لادن في 14 فبراير (شباط) 2004، التي يسعى فيها إلى التحذير من الشيعة بوصفهم خطرا يحدق بالمسلمين وعدوا يبطن الخبث؛ إذ يقول الإرهابي المتطرف الراحل «إن الناظر المتئد والمبصر المتفحص ليدرك أن التشيع هو الخطر الداهم، والتحدي الحقيقي، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (سورة المنافقون:4)، إن رسالة التاريخ تصدقها شهادة الواقع لتشي بأوضح بيان، أن التشيع دين لا يلتقي مع الإسلام، إلا كما يلتقي اليهود مع النصارى تحت لافتة أهل الكتاب.
* الخطاب التحريضي
ولعل الدعايات الأقدم والأكثر شيوعا وقدرة على التأثير، هي خطب الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر المبغضة لليهود والشهيرة بحدتها. من خلال مثل هذه الخطب يجري إلغاء الآخر وشيطنته واستعمال لغة صدامية عنيفة ضده.
وبعد عقود من موت هتلر، ظهر أسلوب «أبو بكر البغدادي» زعيم تنظيم داعش الإرهابي الذي يسعى للحصول على مؤيدين من خلال خطبه. ومنها خطابه الأخير الذي نشر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وفيه حث المقاتلين مناشدًا «حولوا ليل الكافرين نهارًا وخرّبوا ديارهم دمارًا واجعلوا دماءهم أنهارًا».
ويظهر هنا الحرص على اختيار كلمات منتقاة بلغة رفيعة تحمل تهديدًا لمن يحمل سلطة بإمكانه ممارستها. ثم قال: «فيا أهل نينوى عامة والمجاهدون خاصة، إياكم والضعف عن جهاد عدوكم ودفعه؛ فإن هذا ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق. يا معشر المجاهدين والأنصار امضوا على بصيرتكم واستمروا على عزيمتكم». عبارات كتلك يستحيل أن يتقبلها شخص يؤمن بأهمية التحاور مع الآخر. إنها تفتن أشخاص لديهم قابلية للتطرف وتوجههم نحو استعمال العنف من أجل تحقيق أهداف قد تكون خيالية بعيدة عن الواقع. وبالتالي، مثل هذه الخطب تسعى إلى إلغاء الآخر واستخدام لغة صدامية بلهجة دينية يتم عبرها الترهيب والإقناع بعدم مناقشة أي شخص تفاصيل هذا الخطاب.
وعلى مسافة قريبة نجد خطبًا أخرى تهدف إلى إثارة البغض ضد طائفة معينة كتصريح المتحدث الرسمي لـ«داعش» «أبو محمد العدناني» في محاولته إضرام الطائفية في العراق ضد الشيعة تحديدًا «لقد آن لكم يا أهل السنة العراق أن تعرفوا الحقيقة، وأنه لا تعايش مع الروافض ولا سلام، وأن تدركوا أن الرافضة المشركين شر من وطأ الثرى شر من اليهود والصليبيين». وفي مثل هذه الخطب يستخدم القيادي المتطرف خطابا وعظيا دينيا يفرض تفاصيله، ليجري ترهيب الآخرين وإقناعهم أن من الخطأ أن يناقش أي شخص تفاصيل مثل هذا الخطاب، ومن ثم ما عليه إلا تنفيذ أوامر زعيم «داعش»، وتقديم الولاء والطاعة والإذعان له. هنا نحن أمام توجه متطرف يقوم على إلغاء الآخر والإيمان بأن الإسلام القويم لا تجسده إلا جماعته وسط ثقافة تكفير وتخوين الآخر.
ولا يقتصر هذا النهج الإلغائي على الجماعات المتطرفة التي تزعم التكلم باسم الإسلام في الشرق الأوسط، بل هناك أمثلة كثيرة في الغرب مثل الإرهابي العنصري النرويجي أندرس بريفيك الذي ارتكب جرائم إرهابية في النرويج عام 2011. وهذا الرجل نشر كتاباته المعادية للإسلام عبر «فيسبوك» و«تويتر» وموقع إلكتروني خاص به، وعرف بموقفه المتشدد من الأجانب والهجرة. وثمة دراسة أعدها الأكاديمي دايفيد ياناغيزاوا دروت، في جامعة هارفارد وجامعة زيورخ، أوضح كيف ساهمت خطابات الكراهية لمحطة إذاعة وتلفزيون لبر دي ميل كولين في راوندا بجرائم الإبادة الجماعية العنيفة في أكثر من ألف قرية. ولقد ازداد العنف المدني نتيجة تغطية الراديو بمعدل 65 في المائة، والعنف المنظم بنسبة 77 في المائة لمتابعة الإذاعة المذكورة.
* الاستقطاب إلكترونيًا
من ناحية أخرى، سيطر الاهتمام في الآونة الأخيرة على الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي في كسب المؤيدين، وتأجيج الرأي العام التي تفوق في استراتيجياتها تنظيم داعش. ولكن بزغت أيضًا جماعات جديدة من اليمين المتطرف في الغرب. وتذكر دراسة أعدها الباحث الأميركي جي أم برغر، من جامعة واشنطن، أنه على الرغم من تفوق «داعش» في سطوته على وسائل التواصل الاجتماعي واعتباره أحد أبرز التنظيمات الإرهابية من حيث القدرة على التجنيد واستغلال هذه الوسائل، فإن ثمة متطرفين آخرين نجحوا في التغلغل في العالم الافتراضي. أبرز هؤلاء حركة القوميين (العنصريين) البيض في الولايات المتحدة، الذين ارتفع حضورهم في موقع «تويتر» بما يزيد على 600 في المائة منذ عام 2012. ويظهر تأثر هؤلاء بمبادئ عرقية متطرفة، وأهمها النازية؛ إذ تظهر الدراسة أن من أكثر الأفلام الوثائقية تداولا في أوساط القوميين البيض في «تويتر» فيلم عن هتلر.
وتوضح دراسة برغر، من جهة أخرى، بالتفصيل طرق استقطاب الجماعات للمؤيدين عبر العالم الإلكتروني، كما يلي:
الأولى - مرحلة الاستكشاف التي يتم عبرها استكشاف المؤيدين أو المتعاطفين ممن يمكن اكتسابهم.
الثانية - تكوين مجتمع مصغّر أو مجموعة إلكترونية يقوم فيها أعضاء «داعش» بمد المؤيدين لتنظيمهم بالمعلومات بصفة مستمرة.
الثالثة - مرحلة العزل، وفيها ينصح المجند الجديد بأن ينعزل عن الآخرين؛ وذلك بهدف التأثير على آرائه والسيطرة عليه دون مؤثرات خارجية.
الرابعة - الانتقال إلى الرسائل الخاصة ليتم وقتئذ توصية مناصري «داعش» بالتواصل بصفة خاصة عبر قنوات مشفرة.
الخامسة - التعريف بالمهام المتوقعة من قبل المؤيدين والحث على اتخاذ خطوات عملية بصفتها جزءا من التنظيم، كالسفر للانضمام إلى التنظيم أو القيام بعمليات إرهابية في بلادهم. عبر القنوات المذكورة يكثف البث المرئي والمنشورات المؤثرة. وعلى سبيل المثال نشر تنظيم داعش بثا مرئيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمى «على خطى والدي» يظهر فيه تدريب طفلين فرنسيين عبر دروس واستعمال للسلاح. ويتحدث فيها طفل في الثانية عشرة من عمره بلغة فرنسية بلهجة تهديد «أقول لفرنسا سوف نقتلكم كما قتلتم إخواننا في أراضي الدولة الإسلامية اليوم في الشام وغدا في باريس».
مثل هذه المنهجية تمزج ما بين التأثير على الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى طرق التأثير على الأطفال وتجاوز مرحلة الإقناع إلى التلقين وزرع الكراهية والرغبة في قتل الآخر ليصبحوا أكثر شراسة ورغبة في أعمال العنف من خلال التخرج من برامج تحت مسمى «أشبال الخلافة». وهذه استراتيجية متبعة لجميع المنضمين إلى تنظيم داعش رجالا ونساء. وقد تنتقل عملية الإقناع إن أتيحت الفرصة إلى الساحة من خلال اختيار شخصيات تحمل جاذبية معينة أو قدرة على الإقناع بأهمية القتال، كما حدث مع الداعية البوسني الأصل «أبو تيجما» الذي كان يتخذ من المساجد في بلدان نمساوية مختلفة فرصة لاستقطاب الشباب. ولقد اعتقل في النمسا إثر تجنيده عشرات الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 14 وثلاثين سنة، وإقناعهم بضرورة نشر الإسلام من خلال «الجهاد»، والانضمام إلى صفوف التنظيم الداعشي في سوريا.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.