نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

بين الجماعات الإرهابية واليمين المتطرف

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
TT

نشاط متبادل في ترويج ثقافة العنف والكراهية

غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط»)  - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)
غلاف إدارة التوحش لأبو بكر ناجي («الشرق الأوسط») - داعشي بجانب بقايا طائرة سورية زعم التنظيم أنه أسقطها في الرقة عام 2014 (أ.ف.ب)

عاشت بعض الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها، في الآونة الأخيرة، ارتفاعًا لافتًا للأصوات اليمينية المتطرفة المناهضة للأجانب والمؤمنة بفوقية الرجل الأبيض. كذلك، تتعالى في بعض الدول في آسيا وأفريقيا أصوات الجماعات المتطرفة باسم الدين، بالأخص في مناطق الصراع والاضطراب السياسي. وفي المقابل، لا تزال جماعات متطرفة ترفع شعارات إسلامية كـ«داعش» و«بوكو حرام» تكتسب الكثير من المؤيدين، على الرغم من مشاهد العنف والوحشية والقتل. إن ما يحدث يبدو وكأنه يزكي نظرية الأكاديمي الأميركي صموئيل هنتينغتون التي تحدثت عن «صراع الحضارات» في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
يصعب استيعاب مدى قدرة الخطابات والآراء المتطرفة على كسب مؤيدين وغسل أدمغتهم وإقناعهم بشرعية قتل الأبرياء، وإن تضمن ذلك استهداف المقدسات الدينية. ولكن واضح جدًا في المقابل تأثير خطاب الكراهية وقدرته على التغلغل إلى عقول البعض في مهاجمته الآخر بناءً على العرق أو الدين أو الجنس، وسهولة التحريض على العنف وجرائم الكراهية التي تعزّزت في حقبة زاد فيها التقوقع والتعصب، نتيجة الأجواء المحمومة التي لا يصل فيها إلا صوت مقت الآخر، ومحاولة إلغائه أو القضاء عليه. ولقد شهدنا في الآونة الأخيرة تأييدًا شعبيًا لقيادات وسياسيين حوت حملاتهم السياسية خطابات تشوبها العنصرية؛ ما يؤكد وجود نوع من الموافقة الضمنية لفحواها.
* صوت اليمين المتطرف
وحقًا، حيثما نظرنا، نرى أن العالم اليوم يسقط في هاوية الأصولية الإقصائية أو الإلغائية، والرغبة في التقوقع والانعزال. وأن الابتعاد عن الاعتدال ومنطق الحوار أفسح المجال لاختلاف بات تهديدا للأمن، وأعطى للأصوات المتطرفة قدرة على استقطاب المؤيدين من خلال خطابات الكراهية وشيطنة الآخر.
الترويج للتطرف والعنف السياسي يأتي في ثلاثة أشكال:
- الشكل الأول هو الطرق التقليدية التي تستخدم استراتيجياتها منذ أيام التنظيمات السابقة الأقل وهجًا في استخدامها التقنية في عملية الاستقطاب، كتنظيم «القاعدة»، الذي يعتمد أساسًا على خطابات أبرز قادته بأساليب إقناع وقدرة على التأثير، إضافة إلى الكتب والمنشورات التي تختار اقتباسات قرآنية أو تاريخية يجرى انتقاؤها حسب ما يرونه مناسبًا.
- الشكل الثاني هو عبر النزول إلى الساحة واختيار شخصيات جذابة تتغلغل إلى داخل المجتمعات الصغيرة سعيًا وراء الاكتشاف والتجنيد.
- الشكل الثالث، وهو الذي جعل تنظيم داعش يتفوق على التنظيمات الأخرى، هو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بنجاح وبكثافة حسابات ومواد تحريضية يصار إلى عرضها على الملأ، والغوص في العالم الافتراضي بتواصل سريع مع من يسعون إلى استقطابهم.
* التوحش عبر الكتب
لا تعد الحملات الدعائية لنشر البغضاء اكتشافًا جديدًا، ولا تقتصر على الأصولية الدينية، بل ترتبط بشكل عام بالتأصيل الفكري الذي طغى عليه في السابق النازية أو اليمين المتطرف بشكل عام. وكأبرز مثال على قوة تأثير الكتب وخطابات الكراهية كتاب «يوميات تيرنر» التي نشرت عام 1978. وهو عبارة عن رواية من تأليف الأميركي اليميني المتطرف ويليام لوثر بيرس (نشرها تحت اسم مستعار هو آندرو ماكدونالد) جاءت في تلك الحقبة، جزءا من سلسلة روايات ذات طابع عنصري وتحريضي تغوص في عوالم العنصرية والنازية، وتدعو إلى القومية البيضاء والاستعلاء على الأعراق الأخرى. ولقد حظر الكتاب في ألمانيا بسبب اعتماد موضوعه على الفكر النازي، ولمدى تأثيره التخريبي على الرأي العام؛ إذ تسبب في حدوث 200 جريمة قتل تتضمن التفجير الإرهابي الذي ارتكبه الأميركي تيموثي ماكفي 19 أبريل (نيسان) 1995، حين فجر أحد المباني الحكومية الكبرى في مدينة أوكلاهوما سيتي الأميركية. وعدت عملية التفجير تلك أكبر عملية إرهابية محلية في أميركا، وظهر فيها تأثر ماكفي بهذه الرواية التي استلهم عقب قراءتها نقمته وبغضه للحكومة الأميركية؛ الأمر الذي يشي بخطورة ومدى قابلية البعض التأثر بخطابات الكراهية، أو أي موضوعات تنشر في هذا المضمون.
من جهة أخرى، اشتهر عدد من كتب تنظيم «القاعدة» وأحد أشهرها كتاب «إدارة التوحش» لأبي بكر ناجي. وما هذا الكتاب إلا تجميع لمقالاته التي سبق نشرها عبر منتدى «أنا مسلم». وإلى جانب شرح الكتاب أبرز استراتيجيات وأهداف التنظيم، فإنه يتطرق إلى منهجية استقطاب المؤيدين عبر رفع الحالة الإيمانية والمخاطبة المباشرة والعفو والتأليف بالمال، وأهمية «جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس، كل الناس، استقطاب، فيذهب فريق منهم إلى جانب أهل الحق، وفريق إلى جانب أهل الباطل، ويتبقى فريق ثالث محايد ينتظر نتيجة المعركة لينتصر المنتصر. علينا جذب تعاطف هذا الفريق وجعله يتمنى انتصار أهل الإيمان، وبخاصة أنه قد يكون لهذا الفريق دور حاسم في المراحل الأخيرة من المرحلة الحالية».
على النسق ذاته، تظهر رسالة «أبو مصعب الزرقاوي» إلى أسامة بن لادن في 14 فبراير (شباط) 2004، التي يسعى فيها إلى التحذير من الشيعة بوصفهم خطرا يحدق بالمسلمين وعدوا يبطن الخبث؛ إذ يقول الإرهابي المتطرف الراحل «إن الناظر المتئد والمبصر المتفحص ليدرك أن التشيع هو الخطر الداهم، والتحدي الحقيقي، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (سورة المنافقون:4)، إن رسالة التاريخ تصدقها شهادة الواقع لتشي بأوضح بيان، أن التشيع دين لا يلتقي مع الإسلام، إلا كما يلتقي اليهود مع النصارى تحت لافتة أهل الكتاب.
* الخطاب التحريضي
ولعل الدعايات الأقدم والأكثر شيوعا وقدرة على التأثير، هي خطب الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر المبغضة لليهود والشهيرة بحدتها. من خلال مثل هذه الخطب يجري إلغاء الآخر وشيطنته واستعمال لغة صدامية عنيفة ضده.
وبعد عقود من موت هتلر، ظهر أسلوب «أبو بكر البغدادي» زعيم تنظيم داعش الإرهابي الذي يسعى للحصول على مؤيدين من خلال خطبه. ومنها خطابه الأخير الذي نشر في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وفيه حث المقاتلين مناشدًا «حولوا ليل الكافرين نهارًا وخرّبوا ديارهم دمارًا واجعلوا دماءهم أنهارًا».
ويظهر هنا الحرص على اختيار كلمات منتقاة بلغة رفيعة تحمل تهديدًا لمن يحمل سلطة بإمكانه ممارستها. ثم قال: «فيا أهل نينوى عامة والمجاهدون خاصة، إياكم والضعف عن جهاد عدوكم ودفعه؛ فإن هذا ينقض عرى الإسلام ويطفئ نور الحق. يا معشر المجاهدين والأنصار امضوا على بصيرتكم واستمروا على عزيمتكم». عبارات كتلك يستحيل أن يتقبلها شخص يؤمن بأهمية التحاور مع الآخر. إنها تفتن أشخاص لديهم قابلية للتطرف وتوجههم نحو استعمال العنف من أجل تحقيق أهداف قد تكون خيالية بعيدة عن الواقع. وبالتالي، مثل هذه الخطب تسعى إلى إلغاء الآخر واستخدام لغة صدامية بلهجة دينية يتم عبرها الترهيب والإقناع بعدم مناقشة أي شخص تفاصيل هذا الخطاب.
وعلى مسافة قريبة نجد خطبًا أخرى تهدف إلى إثارة البغض ضد طائفة معينة كتصريح المتحدث الرسمي لـ«داعش» «أبو محمد العدناني» في محاولته إضرام الطائفية في العراق ضد الشيعة تحديدًا «لقد آن لكم يا أهل السنة العراق أن تعرفوا الحقيقة، وأنه لا تعايش مع الروافض ولا سلام، وأن تدركوا أن الرافضة المشركين شر من وطأ الثرى شر من اليهود والصليبيين». وفي مثل هذه الخطب يستخدم القيادي المتطرف خطابا وعظيا دينيا يفرض تفاصيله، ليجري ترهيب الآخرين وإقناعهم أن من الخطأ أن يناقش أي شخص تفاصيل مثل هذا الخطاب، ومن ثم ما عليه إلا تنفيذ أوامر زعيم «داعش»، وتقديم الولاء والطاعة والإذعان له. هنا نحن أمام توجه متطرف يقوم على إلغاء الآخر والإيمان بأن الإسلام القويم لا تجسده إلا جماعته وسط ثقافة تكفير وتخوين الآخر.
ولا يقتصر هذا النهج الإلغائي على الجماعات المتطرفة التي تزعم التكلم باسم الإسلام في الشرق الأوسط، بل هناك أمثلة كثيرة في الغرب مثل الإرهابي العنصري النرويجي أندرس بريفيك الذي ارتكب جرائم إرهابية في النرويج عام 2011. وهذا الرجل نشر كتاباته المعادية للإسلام عبر «فيسبوك» و«تويتر» وموقع إلكتروني خاص به، وعرف بموقفه المتشدد من الأجانب والهجرة. وثمة دراسة أعدها الأكاديمي دايفيد ياناغيزاوا دروت، في جامعة هارفارد وجامعة زيورخ، أوضح كيف ساهمت خطابات الكراهية لمحطة إذاعة وتلفزيون لبر دي ميل كولين في راوندا بجرائم الإبادة الجماعية العنيفة في أكثر من ألف قرية. ولقد ازداد العنف المدني نتيجة تغطية الراديو بمعدل 65 في المائة، والعنف المنظم بنسبة 77 في المائة لمتابعة الإذاعة المذكورة.
* الاستقطاب إلكترونيًا
من ناحية أخرى، سيطر الاهتمام في الآونة الأخيرة على الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي في كسب المؤيدين، وتأجيج الرأي العام التي تفوق في استراتيجياتها تنظيم داعش. ولكن بزغت أيضًا جماعات جديدة من اليمين المتطرف في الغرب. وتذكر دراسة أعدها الباحث الأميركي جي أم برغر، من جامعة واشنطن، أنه على الرغم من تفوق «داعش» في سطوته على وسائل التواصل الاجتماعي واعتباره أحد أبرز التنظيمات الإرهابية من حيث القدرة على التجنيد واستغلال هذه الوسائل، فإن ثمة متطرفين آخرين نجحوا في التغلغل في العالم الافتراضي. أبرز هؤلاء حركة القوميين (العنصريين) البيض في الولايات المتحدة، الذين ارتفع حضورهم في موقع «تويتر» بما يزيد على 600 في المائة منذ عام 2012. ويظهر تأثر هؤلاء بمبادئ عرقية متطرفة، وأهمها النازية؛ إذ تظهر الدراسة أن من أكثر الأفلام الوثائقية تداولا في أوساط القوميين البيض في «تويتر» فيلم عن هتلر.
وتوضح دراسة برغر، من جهة أخرى، بالتفصيل طرق استقطاب الجماعات للمؤيدين عبر العالم الإلكتروني، كما يلي:
الأولى - مرحلة الاستكشاف التي يتم عبرها استكشاف المؤيدين أو المتعاطفين ممن يمكن اكتسابهم.
الثانية - تكوين مجتمع مصغّر أو مجموعة إلكترونية يقوم فيها أعضاء «داعش» بمد المؤيدين لتنظيمهم بالمعلومات بصفة مستمرة.
الثالثة - مرحلة العزل، وفيها ينصح المجند الجديد بأن ينعزل عن الآخرين؛ وذلك بهدف التأثير على آرائه والسيطرة عليه دون مؤثرات خارجية.
الرابعة - الانتقال إلى الرسائل الخاصة ليتم وقتئذ توصية مناصري «داعش» بالتواصل بصفة خاصة عبر قنوات مشفرة.
الخامسة - التعريف بالمهام المتوقعة من قبل المؤيدين والحث على اتخاذ خطوات عملية بصفتها جزءا من التنظيم، كالسفر للانضمام إلى التنظيم أو القيام بعمليات إرهابية في بلادهم. عبر القنوات المذكورة يكثف البث المرئي والمنشورات المؤثرة. وعلى سبيل المثال نشر تنظيم داعش بثا مرئيا عبر مواقع التواصل الاجتماعي تحت مسمى «على خطى والدي» يظهر فيه تدريب طفلين فرنسيين عبر دروس واستعمال للسلاح. ويتحدث فيها طفل في الثانية عشرة من عمره بلغة فرنسية بلهجة تهديد «أقول لفرنسا سوف نقتلكم كما قتلتم إخواننا في أراضي الدولة الإسلامية اليوم في الشام وغدا في باريس».
مثل هذه المنهجية تمزج ما بين التأثير على الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى طرق التأثير على الأطفال وتجاوز مرحلة الإقناع إلى التلقين وزرع الكراهية والرغبة في قتل الآخر ليصبحوا أكثر شراسة ورغبة في أعمال العنف من خلال التخرج من برامج تحت مسمى «أشبال الخلافة». وهذه استراتيجية متبعة لجميع المنضمين إلى تنظيم داعش رجالا ونساء. وقد تنتقل عملية الإقناع إن أتيحت الفرصة إلى الساحة من خلال اختيار شخصيات تحمل جاذبية معينة أو قدرة على الإقناع بأهمية القتال، كما حدث مع الداعية البوسني الأصل «أبو تيجما» الذي كان يتخذ من المساجد في بلدان نمساوية مختلفة فرصة لاستقطاب الشباب. ولقد اعتقل في النمسا إثر تجنيده عشرات الشباب ممن تتراوح أعمارهم ما بين 14 وثلاثين سنة، وإقناعهم بضرورة نشر الإسلام من خلال «الجهاد»، والانضمام إلى صفوف التنظيم الداعشي في سوريا.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».