سجن برازيلي يخرج عن سيطرة الدولة

تسيطر عليه عصابات المخدرات المتنافسة

السجناء في ساحة سجن الكاكوز خلال المواجهات بين عصابات الاتجار في المخدرات في بالقرب من بلدة ناتال البرازيلية
السجناء في ساحة سجن الكاكوز خلال المواجهات بين عصابات الاتجار في المخدرات في بالقرب من بلدة ناتال البرازيلية
TT

سجن برازيلي يخرج عن سيطرة الدولة

السجناء في ساحة سجن الكاكوز خلال المواجهات بين عصابات الاتجار في المخدرات في بالقرب من بلدة ناتال البرازيلية
السجناء في ساحة سجن الكاكوز خلال المواجهات بين عصابات الاتجار في المخدرات في بالقرب من بلدة ناتال البرازيلية

يخرج سجن الكاسوز في شمال شرقي البرازيل، الذي شهد الخميس الماضي مواجهات جديدة وعنيفة بين المساجين المنتمين إلى عصابات متنافسة، عن سيطرة السلطات رغم نقل بعض السجناء تجنبا لإراقة دماء جديدة.
ولم تصدر أي حصيلة رسمية عن تلك المواجهات، لكن سجينا اتصلت به هاتفيا وكالة الصحافة الفرنسية تحدث عن خمسة قتلى، إلا أن آخر قال إن نحو خمسة عشر سجينا قد قتلوا في هذا المكان، حيث قتل 26 سجينا في نهاية الأسبوع الماضي.
وصباح الخميس، شهدت باحة هذا السجن الكائن قرب ناتال ويشهد منذ أيام مواجهات بين السجناء الذين ينتمون إلى عصابات إجرامية متعادية، أعمال عنف وتحولت إلى ساحة معركة حقيقية.
وأظهرت صور عشرات السجناء المتحصنين خلف متاريس يفصل بينها نحو خمسين مترا، وكانوا يتبادلون رمي الحجارة وكل أنواع المقذوفات الأخرى.
وتتيح الصور أيضا رؤية المجموعتين المتمركزتين على سطوح المباني المزينة بالأعلام التي تحمل الأحرف الأولى لأسماء العصابات، تتبادلان الشتائم، فيما كانت النيران تلتهم مختلف أنواع الأغراض، ويتنقل سجناء يحملون العصي من مكان إلى آخر.
وقامت الشرطة المتمركزة على جدار الباحة، بإطلاق الرصاص المطاط. وبثت شبكة «غلوبونيوز» التلفزيونية البرازيلية صورا لمصابين يجري نقلهم.
وقد استعان روبنسون فارياس، حاكم ولاية ريو غراندي دو نورتي الذي تختطه الأحداث، بالجيش للقيام بدوريات في ناتال، حيث أقدم أفراد من العصابات على حرق حافلات.
وقال الحاكم لإذاعة «سي.بي.ان»: «طلبت... من الرئيس ميشال تامر أن يأمر بالإرسال الفوري، في هذا اليوم بالذات، لقوات مسلحة من سلاح البر والبحر للقيام بدوريات في شوارع ناتال».
وأضاف روبنسون فارياس أن أعضاء العصابات الإجرامية «يقومون بمهاجمة حافلات، للانتقام (من الحكومة المحلية) التي قررت الفصل بينهم في السجون».
وقد أطلق على سجن الكاسوز المبني على كثبان رملية مطلة على المحيط، ويضم نحو 1200 سجين، لقب «غرويير» بسبب عمليات فرار السجناء الذين يحفرون أنفاقا في الرمال.
* حرب لا هوادة فيها
وقد جهزت السلطات الأربعاء أربع حافلات لتنقل إلى سجن آخر في هذه الولاية 220 سجينا ينتمون إلى إحدى الفصائل المتنافسة الذين كانوا يهددون بمعارك جديدة.
وذكرت السلطات، أن نقل هؤلاء السجناء الذين ينتمون إلى فصيل محلي لإحدى العصابات الذي أزعج هذه العصابة الإجرامية، وأدى إلى اندلاع المواجهة في السجن صباح الخميس، وحوادث في عدد كبير من مدن الولاية.
وأحرقت عشرون حافلة وست سيارات وشاحنة واحدة، في هذه المدن، كما أعلن لوكالة الصحافة الفرنسية متحدث باسم الأمن العام المحلي. وأضاف أن سبعة أشخاص قد اعتقلوا.
وفي الولاية نفسها، أسفرت «بداية تمرد» في سجن آخر في مدينة غايسو عن قتيل واحد وخمسة جرحى، كما أوضح هذا المسؤول.
وقد أسفرت الحرب التي لا هوادة فيها للسيطرة على تجارة الكوكايين عن أكثر من 130 قتيلا حتى الآن في سجون البرازيل منذ بداية الشهر.
وتدور هذه الحرب بين مجموعة «بي.سي.سي» الواسعة النفوذ (أول مجموعة في العاصمة) ساو، وبين مجموعة «فيرميلهو» المتمركزة في ريو دو جانيرو، وحلفائهما الإقليميين.
وقد انتهكت مجموعة «بي.سي.سي» ميثاقا ضمنيا لاقتسام السوق البرازيلية من خلال محاولتها بسط سيطرتها على جميع أنحاء البلاد، وعلى إمدادات الكوكايين الآتي من البيرو إلى الحدود الشمالية وللبرازيل. ومن الصعب السيطرة على هذه الحدود بسبب مساحاتها الشاسعة وسط غابات الأمازون.
وكان الحاكم روبينسون فارياس أكد الثلاثاء أن «مجموعة (بي.بي.سي) وجهت تحديا لولاية ريو غراندي دو نورتي. فقد هددت بإحراق ناتال» إذا ما نقل قادتها إلى سجون فيدرالية.
وأضاف الحاكم «إننا نعيش لحظة مأسوية. مجموعة (بي.سي.سي) لا تتحدى الولاية فقط، بل كل المنظمات الإجرامية الإقليمية لاستعادة السيطرة على تجارة المخدرات».
وفي أماكن أخرى من البلاد، ما زال الوضع متفجرا في السجون.
وفي ريو دو جانيرو، قام حراس السجن بإضراب الثلاثاء حتى الاثنين المقبل، للمطالبة بتسوية الرواتب غير المدفوعة وتحسين ظروف العمل.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)