لورا بيتشيني آخر صانعات المجوهرات على جسر «بونتي فيكيو» بفلورنسا

مع زحف العلامات التجارية العالمية واكتساحها للمتاجر التاريخية

جسر بونتي فيكيو في فلورنسا الإيطالية معلم تاريخي يجذب السياح - لورا بيتشيني عميدة العائلة تعرض بعض القطع التي صنعت خصيصًا في المتجر (نيويورك تايمز)
جسر بونتي فيكيو في فلورنسا الإيطالية معلم تاريخي يجذب السياح - لورا بيتشيني عميدة العائلة تعرض بعض القطع التي صنعت خصيصًا في المتجر (نيويورك تايمز)
TT

لورا بيتشيني آخر صانعات المجوهرات على جسر «بونتي فيكيو» بفلورنسا

جسر بونتي فيكيو في فلورنسا الإيطالية معلم تاريخي يجذب السياح - لورا بيتشيني عميدة العائلة تعرض بعض القطع التي صنعت خصيصًا في المتجر (نيويورك تايمز)
جسر بونتي فيكيو في فلورنسا الإيطالية معلم تاريخي يجذب السياح - لورا بيتشيني عميدة العائلة تعرض بعض القطع التي صنعت خصيصًا في المتجر (نيويورك تايمز)

يزور هذه المدينة، التي يبلغ تعدادها 360 ألف نسمة، أكثر من 16 مليون سائح سنويًا، وأكثرهم يصطف على جسر «بونتي فيكيو» القديم لالتقاط صور معه باستخدام الهاتف المحمول لتصبح زيارتهم ذكرى مميزة.
مثل بطاقة بريدية جاهزة، يبدو من الصعب وجود منظر أجمل لنهر أرنو عند الوقوف في نقطة متوسطة من الجسر، لكن مثل الكثير في فلورنسا، يوجد موقع أفضل لرؤية هذا المنظر، متوار عن الأنظار وإن كان واضحا.
بعد الدخول من باب أحد المتاجر، وصعود ثلاثة طوابق على درج ضيق يعلوه سقف ينخفض ارتفاعه كلما صعدت، ستجد طاولة عمل مصنوعة من خشب بال في مواجهة نافذة؛ وكذلك ستجد آخر سيدة تعمل في مجال صياغة الجواهر والحلي، الجسر حيث كان يجتهد الصاغة لترسيخ صناعتهم طوال خمسة قرون، مستأثرة بالاستمتاع بالمشهد الأكثر سحرًا وفتنة في فلورنسا.
قالت كارلوتا غامبينيري في مساء أحد الأيام بينما يحلّ الغسق على المدينة الشتوية جاعلا النهر يبدو مثل البرونز المنصهر: «لا يوجد سواي هنا في الأعلى». بدأت كارلوتا، صانعة المجوهرات والحلي، العمل لدى متجر «فراتيلي بيتشيني» المملوك للعائلة، والذي تأسس عام 1903 وهو يعد، طبقًا لمعايير مدينة يوجد مقرّ مجلس بلديتها في مبنى يعود تاريخ جزء منه إلى عام 1229 منشأة يافعة نسبيًا.
قالت إليزا بيتشيني، من أحفاد مؤسس المتجر، بينما تجلس إلى مكتبها الموجود في الطابق الأرضي من المتجر، والذي يواجه عدة نوافذ: «نادرًا ما ننظر. قد ترفع عينيك أحيانًا، وتلاحظ المكان المحيط بك».
بفضل الوجود أعلى جسر يربط حرفيًا بين مناطق قديمة من المدينة وأخرى أقدم تمتعت عائلة بيتشيني بمنظور منفرد لتغير وتحول أذواق مجتمع محدود منعزل وأذواق السياح، الذين يهددون باجتياح المدينة، كما يحلو للسكان المحليين وصف الأمر بنبرة شاكية.
وأوضحت لورا بيتشيني، كبيرة العائلة: «على سبيل المثال لا يحب سكان فلورنسا التفاخر». ولا تعد الأذرع التي اكتسبت سمرة من الشمس، وتزينها أساور من الذهب، والتي قد تراها في روما، أو الأيادي مشذبة الأظافر المزينة بالأحجار الكريمة الخالصة التي يفضلها أهل ميلانو، من المظاهر التي تشتهر بها مدينة تزدري التباهي والتفاخر». تقول لورا: «أهل فلورنسا يتسمون بالنبل، ويشعرون بذلك، ولا يحبون التباهي بما لديهم».
إذا كانت أذواق العملاء الروس قد تغيرت بمرور الزمن عقب سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه، لا يزال الصينيون زوارا جددا للسوق، حيث ينجذبون للمعان الذهب ويشعرون بالانبهار. وأضافت لورا أنه من الصعب التعميم حينما يتعلق الأمر بالأميركيين، حيث قالت: «يتمتع بعضهم بذوق جيد جدًا، في حين يفتقر البعض الآخر إلى الثقافة، لكنهم يمتلكون كثيرًا من المال، ويجب أن يتعلموا أن الفخامة الحقيقية هي أن يكون لديك شيء تم إعداده خصيصًا لك».
لا يزال متجر «فراتيلي بيتشيني»، الذي يتمتع بمكانة متفردة بين متاجر المجوهرات هنا، ينتج مجوهرات على جسر «بونتي فيكيو» في وقت يشهد زحف واكتساح العلامات التجارية العالمية مثل «يو بوت»، و«فاشيرون كونستانتين» للمتاجر الصغيرة، التي يعجّ بها الجسر القديم، عظيم الأثر.
في الوقت الذي يتم صناعة الجزء الأكبر من إنتاج عائلة بيتشيني خارج المكان بسبب القواعد الخاصة بالحريق، لا تزال كارلوتا تعمل يوميًا على منضدة تعود إلى القرن التاسع عشر منثور عليها مثاقب، وحشوات من الشمع، وفرجار، ومكبات الأسلاك، وقوالب طبشور، وزرادية ذات أيد مطاطية.
في أحد الأركان يوجد مصهر معادن، وفي وسط غرفة أرضيتها ذات بلاطات متصدعة، توجد أداة رفع تبدو مثل منحوتة تستخدم في بسط ومدّ خيوط الذهب الساخنة لعمل بعض التصميمات مثل سوار ذي مفاصل من خشب الزيتون مطعم بالألماس مستطيل الشكل.
وتقول لورا بيتشيني باستهجان: «إنها غرفة العمل الوحيدة الباقية، ولا ينبغي أن تكون قانونية»، وأضافت أنه لا يمكن النظر أبدا إلى فلورنسا، المدينة التي تمثل جلال وبهاء عصر النهضة، كمدينة متعقلة».
*خدمة: «نيويورك تايمز»



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».