في جنة الفيزياء... مركز «سيرن» للأبحاث صورة مصغرة للكون

11 ألف باحث علمي يسبرون ألغازه

صورة أرشيفية لمركز «سيرن»
صورة أرشيفية لمركز «سيرن»
TT

في جنة الفيزياء... مركز «سيرن» للأبحاث صورة مصغرة للكون

صورة أرشيفية لمركز «سيرن»
صورة أرشيفية لمركز «سيرن»

لا يتوقف الباحثون هنا عن محاكاة الانفجار العظيم. هنا في المركز الأوروبي للأبحاث الذي يعتبر بالنسبة لعلماء فيزياء الجسيمات الدقيقة منتجعا لقضاء أحلى الأوقات. ويجري علماء من جميع أنحاء العالم منذ أكثر من 60 عاما أبحاثهم في هذا المركز، الذي يعد قلعة عملاقة فائقة التطور، ويقع غرب جنيف، ويتطلعون للعثور، بمساعدة أقوى معجّل للجسيمات الدقيقة على وجه الأرض، على إجابات عن أسئلة أساسية تشغل الوسط العلمي. ومن بين هذه القضايا على سبيل المثال: مم يتألف الكون؟ يحاول أكثر من 11 ألف باحث من جميع أنحاء العالم حل كثير من ألغاز الطبيعة، مستخدمين في ذلك معادلات معقدة وتجارب أكثر تعقيدا.
ولكن هذا المختبر العالمي لا يعرف فقط بأبحاثه الفائقة، بل أيضا بالتعاون السلمي فيه «فهنا يتعاون باحثون من مختلف الدول والثقافات بشكل وثيق، كل منهم مع الآخر» حسبما نقلت وكالة الصحافة الألمانية عن الإيطالية فابيولا جيانوتي، المديرة العامة للمركز، والتي تولت إدارة هذه المؤسسة مطلع عام 2016. وأوضحت جيانوتي أن الكل في هذا المركز البحثي له هدف واحد بصرف النظر عن القوميات المختلفة للعاملين فيه، وأنهم يعملون بإخلاص وحماسة كبيرين.
وضمت الألمانية سوزانا كون صوتها لصوت جيانوتي قائلة: «فريق العمل هنا متحفز، والشكل الدولي له مبهر». وتجري «كون» أبحاثا في هذه المنشأة العلمية منذ سنوات، وتعكف حاليا على إجراء تجربة باستخدام مكشاف «أطلس»، أكبر مكشاف في مركز «سيرن». ويتم خلال هذه التجربة تعجيل البروتونات بسرعة تقارب سرعة الضوء باستخدام مصادم الهدرونات الكبير، في مسار دائري بطول 27 كيلومترا تحت الأرض، ومصادمتها بعضها بعضا».
ويوجد بالمركز أربعة مكشافات للجسيمات، من بينها مكشاف أطلس. وترصد هذه المكشافات الظواهر التي تحدث عند حصول 40 مليون تصادم في الثانية. وتنقسم الشظايا المشحونة بالطاقة للجسيمات الذرية الدقيقة إلى جسيمات جديدة، وتخلف آثارا ترصدها المكشافات. وتفعل الباحثة «كون» ما يفعله بقية زملائها، حيث تحاول أن تستنبط من هذه الكميات الهائلة من البيانات ما يحدث بدقة أثناء تحطم الجسيمة الدقيقة.
وبهذه الطريقة اكتشف الباحثون عام 2012 ما يعرف بجسيم «بوزون هيغز» الذي يعطي المادة كتلتها، وهو اللبنة الغائبة في النموذج الفيزيائي القياسي للمادة عند العلماء. ولخصت «كون» مزايا العمل الجماعي في «سيرن» قائلة: «يمكن أن يكون الإنسان عبقريا، ولكن ذلك لن يجدي شيئا إذا كان وحده في غرفة».
ولا يمثل هذا المركز الذي يقع بين بحيرة جنيف وجبال جورا الفرنسية فقط أحد أشهر المراكز البحثية في العالم، إذ تطور «سيرن» على مدى سنوات ليصبح وكأنه مدينة صغيرة بما فيها من قوات الإطفاء، ومركز يشبه مستشفى صغيرا للحالات الطبية العاجلة. كما أن بالمركز فنادق ومطاعم ومحلات، إضافة إلى بنك وفرع للبريد.
وإلى جانب ذلك، هناك أيضا روضة أطفال لأبناء الفيزيائيين في المركز. واللغتان الفرنسية والإنجليزية هما اللغتان الرسميتان في هذا الحرم العلمي. وتسمى الشوارع التي تصل بين أكثر من 600 مبنى في المركز بأسماء مشاهير العلماء، مثل ألبرت أينشتاين وماري كوري. ويشعر الإنسان عندما يتجول في كثير من المباني ذات الممرات اللانهائية في المركز وكأنه في أحد المسلسلات التلفزيونية في سبعينات القرن الماضي. وعندما يقف الإنسان في الصالات الكبيرة للتجارب ذات التقنيات الكثيرة، يشعر وكأنه في أحد أفلام الخيال العلمي. ولأن القاسم المشترك بين العاملين هنا في «سيرن» ليس فقط حب العلم، فإن هناك كثيرا من الأندية التي يقضون فيها أوقات فراغهم، مثل استوديو للصور، وقاعة للموسيقى والرقص.
وتقوم البريطانية راشيل بري، مسؤولة الترفيه في المركز، بالتنسيق بين هذه الأماكن، حيث توزع على سبيل المثال غرف الترفيه على ساحة المركز، وتنظم الفعاليات الخاصة بتمضية أوقات الفراغ. أوضحت بري أن عدد أعضاء هذه الأندية بلغ أكثر من 6000 شخص، وأن نادي التزلج على الجليد هو أكثر الأندية جذبا للأعضاء.
كما أن نادي اللياقة البدنية محبوب أيضا. ولكن من يتصور أن هذا النادي عبارة عن غرفة فائقة التحضر وذات أجهزة متقدمة من أجل النخبة العلمية، فقد خانه التصور كثيرا. كانت «صالة المضخة» التي بها بضعة أجهزة لياقة بدنية بالفعل محطة لضخ المياه. ورغم أن هذه الصفة السابقة للصالة لا تظهر عليها الآن، فإن غرفها تقادمت مع مرور السنين.
أما باحث الفيزياء الألماني أندريه فيلكر، الذي يعد رسالة الدكتوراه في الأبحاث النووية بجامعة «دريسدن للعلوم التطبيقية» فهو الآخر عضو في نادي اللياقة، ويراه «عمليا جدا» لأنه يجعل الفيزيائيين يشعرون بحيوية دائما. ويشارك فيلكر فيما يعرف بتجربة فصل النظائر، ويستخدم النظائر الكيميائية المشعة في تحديد كتلة العناصر.
يحمل فيلكر، البالغ من العمر 30 عاما، جهاز قياس حول رقبته. يقوم هذا الجهاز بقياس مدى تأثر جسمه بالإشعاع. تظهر على الجهاز الآن عبارة «ليس ملوثا»، وهي إحدى أفضل النتائج التي يمكن أن يصل إليها باحث في علم الفيزياء النووية، بعد يوم طويل من العمل البحثي.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».