ربما تكون حلب وبغداد أكثر مدينتين عربيتين تغنى بهما الشعراء، قديما وحديثا، في عزهما، وبكوهما في خرابهما ودمارهما. والاثنان، العز والخراب، رافقا مصائر هاتين المدينتين عبر التاريخ، فما أن يهدآ مرة، فيزدهرا ويورقا، حضارة وأدبا وعلما، حتى يهجم البرابرة المتشابهون مهما كانت أزمانهم وأسماؤهم وأثوابهم. هم لا يمضون إلا ليعودوا حين يينع الزهر، ويخضوضر العشب، ويهدر الماء، ويأتيهما الربيع الطلق يختال ضاحكـا من الحسن حتـى كـاد أن يتكلمـا.
إنها اللحظات المهيأة أيضا للخراب. فمع استيقاظ الطبيعة، تستيقظ الوحوش أيضًا:
والشمس يعنون إلا أنهم جهلوا
والموت يدعون إلا أنهم وهموا
لبغداد وقت، ولحلب وقت. وقتان مختلفان التقيا في النعيم والجحيم. وقت حلب الآن. وقت جحيمها المفتوح. رأى المتنبي ليلها منذ أكثر من ألف سنة:
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت
فكيف ليل فتى الفتيان في حلب
لم يعد الفتيان في حلب، بل وحوش تطل من قلعتها المهجورة حتى من الغربان، هذه القلعة التي جاورها أبو الطيب يوما، كما يذهب بعض الباحثين.
لن تستعيد حلبك يا أبا الطيب... إلى حين. تيمورلنك عاد إلى الشهباء، وليس أنت، جماجمه التي سدت الطرق. القبور أمست عزاء. حلب ترحل من حلب.
إنها ترحل للمرة الأولى في تاريخها. لم تتعلم الرحيل من قبل. تعلمت على الخراب، ومات نهرها منذ زمن لم تعد تتذكره، وجف ضرعها، وقتل شعراؤها بعد أن أشبعوها غزلا، وتيتمت وشاب شعرها. لكنها لم ترحل. لا تجيد الرحيل. إنها تتعلمه للمرة الأولى. ولكن هل يرحل المكان؟
نحن أدرى وقد سألنا بنجد
أطويل طريقنا أم يطول؟
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
لا أقمنا على مكان وإن طاب
ولا يمكن المكان الرحيل
لم يستطع المكان الرحيل مع المتنبي، فهل يرحل مع الوحوش؟ رحل المتنبي من حلب، لكن ظلت مقصده دائما:
كلما رحبت بنا الروض قلنا
حلب قصدنا وأنت السبيل
ومغادرة حلب بالنسبة لرهين المحبسين، أبي العلاء المعري، حيث تنحدر أمّه من بيت معروف من بيوتاتها، هي السعير بعينه:
حلب للوارد جنة عدنٍ
وهي للغادرين نار سعير
والعظيم العظيم يكبر في عي
ـنيه منها قدر الصغير الصغير
فقويقٌ في أنفس القوم بحرٌ
وحصاة منه مكان ثبير
لا ينتهي غناء الشعراء على باب حلب، ولا بكاؤهم أيضا. ولا تنتهي حكايا حلب مع الشعراء. يقول لنا التاريخ إنه مر بحلب في صعوده وهبوطه: آشوريون وسلوقيون ورومان وبيزنطيون وفرس. ومر هولاكو أيضا، وتيمورلنك. مضوا جميعا. وسيمضي أحفادهم، ويبقى الشعراء الذين لن تنتهي حكاياتهم مع حلب، ولن تنتهي حكاياتها معهم. لن تنتهي حكاية ابنها العظيم البحتري، مع ابنة حلب ومغنيتها الأولى، علوة بنت زريقة، التي تذكر مصادر أن بيتها كان يتوسط المدينة. ماذا بقي من بيت علوة؟ ماذا بقي من أغانيها؟ كيف يمكن أن يسكن الحب والقتل بيتا واحدا؟
تناءت دار علوة بعد قرب
فهل ركب يبلغها السلاما
لا يبرح البحتري حلب إلا ليعود إليها. لا يطمح فيها شيئا، ولا يريد منها ما يريد المتنبي. يريد أغنية، والآس، وبعض حب. ليس ذلك كثيرا عليه فهو الشاعر:
يا برق أسفر عن قويق فطرتي حلبٍ فأعلى القصر من بطياس
عن منبت الورد المعصفر صبغة
في كل ضاحية ومجنى الآس
أرضٌ إذا استوحشتكم بتذكرٍ
حشدت علي فأكثرت إيناسي
ستطوف الأغاني، ويهيم الشعراء في كل واد، ثم يعودون للمنازل الأولى، مثل أبي فراس الحمداني، الذي يماهي، كما فعل المتنبي، بين المدينة وحاكمها النبيل سيف الدولة:
لقد طفت في الآفاق شرقا ومغربا
وقلبت طرفي بينها متقلبا
فلم أر كالشهباء في الأرض منزلا
ولا كقويق في المشارب مشربا
سقى ثرى حلب ما دمت ساكنها
يا بدر غيثان منهلّ ومنبجسُ
أسير عنها وقلبي في المقام بها
كأن مهري لثقل السير محتبسُ
...
كأنما الأرض والبلدان موحشة
وربعها دونهن العامر الأنسُ
مثل الحصاة التي يرمي بها أبدا
إلى السماء فترقى ثم تنعكسُ
العدوى ستنتقل من الأجداد للأحفاد. لكنها عدوى رائعة. فالحب مرض بمنتهى الروعة، كما يعبر مايا كوفسكي. سيعيد اللبناني شبلي الملاط، بعد مئات السنين، ما قاله أبو فراس الحمداني عن حلب الشهباء. لم نقرأ عند الاثنين غزلا بالحسان، والحدائق، والسماء الصافية، والماء الغرير، بل رغبة في امتلاك المكان، والامتلاء به، والتوحد معه، كملجأ حين تضيق الأرض، وتنسد السبل. هكذا كانت الشهباء التي ترحل الآن، باحثة عن ملجأ:
وددت لو أن في الشهباء داري
إذا أزمعت عن وطني ارتحالا
وإن جار الزمان علي فيه
فلست أرى سوى حلب مآلا
بني أمي يعزّ علي أني
أشد غدا إلى الوطن الرحالا
وكنت أحب لو يومي تمادى
وليلي امتدّ بينكم وطالا
ومن يستطيع أن ينسى قصيدة حفيد الأخطل الأموي، بشارة الخوري، التي يمكن أن تضعها في خانة واحدة مع قصائد أجداده العظام، وأنت مطمئن تماما. حلب ظلت تفعل فعلها في قلوب وخيال أحفاد المتنبي والبحتري وأبي العلاء. لن تكف عن ذلك. لا تستطيع، فهي حلب:
نَفَيْتَ عَنْكَ العُلى وَالظَّرْفَ وَالأَدبَا
وَإِنْ خُلِقْتَ لَها - إِنْ لَمْ تَزُرْ حَلبَا
شَهْباءُ، لَوْ كانَتِ الأَحْلامُ كَأْسَ طِلا
في راحَة الفَجْرِ كُنْتِ الزَّهْرَ والحببا
أَوْ كانَ لِلَّيْلِ أَنْ يَخْتَارَ حِلْيَتَهُ
وَقَدْ طَلَعْتِ عَلَيْهِ، لازْدَرى الشُّهُبَا
لَوْ أَنْصَفَ العَرَبُ الأَحْرارُ نَهْضَتَهُمْ
لَشَيَّدوا لَكَ في ساحاتِها النُّصُبا
ما ضَرَّ مُوقِدَهَا، وَالخُلْدُ مَنْزِلُهُ
إِذا رَمى نَفْسَهُ في نارِها حَطَبا
أما نزار قباني، الذي غنى بغداد وبيروت ودمشق، فقد تعذر عليه الشعر، فلجأ للنثر معتذرا. وأغلب الظن أنه لم يعرف حلب جيدا:
كل الدروب لدى الأوروبيين توصل إلى روما
كل الدروب لدى العرب توصل إلى الشعر
وكل دروب الحب توصل إلى حلب
صحيح أن موعدي مع حلب تأخر ربع قرن
وصحيح أن النساء الجميلات لا يغفرن لرجل
لا ذاكرة له ولا يتسامحن مع رجل لا ينظر
في أوراق الروزنامة...
ولا يقدم لهن فروض العشق اليومي
كل هذا صحيح ولكن النساء الجميلات وحلب واحدة منهن
يعرفن أيضا أن الرجل الذي يبقى صامدا في نار العشق
خمسا وعشرين سنة ويجيء ولو بعد خمس وعشرين سنة
هو رجل يعرف كيف يحب ويعرف من يحب
ربما لم أضع حلب على خريطتي الشعرية
وهذه إحدى أكبر خطاياي ولكن حلب كانت دائما
على خريطة عواطفي وكانت تختبئ في شراييني
كما يختبئ الكحل في العين السوداء
وكما يختبئ السكر في حبة العنب
شعراء غنوا على باب حلب... وبكوها
من المتنبي والبحتري وأبي العلاء إلى الملاط والأخطل الصغير
شعراء غنوا على باب حلب... وبكوها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة