حين يُذكر اسم الفنان الفرنسي هنري ماتيس (1869 - 1954) تنهمر على أعين مواطنيه أمطار من تشكيلات لونية صريحة تحاكي النبات والقماش والكواكب والقطط السيامية وأسماك البحر وطيور السماء. حتى النساء في لوحاته نراهن بأجساد حمراء وزرقاء وبرتقالية، يتماسكن بالأيدي ويرقصن أو يسترحن على أرائك ومفارش هي مهرجانات من ألف لون. أي معرض هذا الذي يقام في متحف الفنون الجميلة في مدينة ليون، جنوب فرنسا، لأعمال بالأسود والأبيض لماتيس؟ يتصور المرء أنه قرأ الدعوة بشكل مغلوط. لكنه حين يمعن النظر يتذكر أن الفنان الذي ترك وراءه مئات التلاميذ والمقلدين لم يكن رسامًا فحسب، بل كان خطاطا ونحاتا وحفارا بارعا. وبهذا فإنه رسم بالحبر الأسود تخطيطات لكتب كثيرة واشتغل على لوحات غرافيك لا تقل إيحاء عن لوحاته الزيتية.
لماذا في ليون؟ لأن ماتيس ترك مدينة نيس الساحلية، مع حلول 1941، ودخل مستشفى فيها. كان مريضًا جدًا ولا يصدق أنه سيعيش بعد عملية لإزالة ورم خبيث من البروستاتا. لكنه شفي، بعد أربعة أشهر، وشعر بأنه يولد من جديد. وكانت تلك فترة لازدهار جميل في نشاطه الفني ومرحلة تشبه فوراته أيام الشباب. ولرد الجميل للمدينة التي تعافى فيها، أهداها ماتيس نسخًا من كل الكتب التي كان قد شارك في رسم تخطيطاتها، باستثناء «عوليس» لجيمس جويس. وهي تلك الهدية التي سمحت للمتحف الفني في ليون أن ينظم اليوم هذا المعرض الفريد. ومن بين المعروضات كراس «جاز» الشهير الذي كشف للجمهور طريقة التشكيل بقصاصات مصبوغة بالحبر.
لكنه ليس معرض النقاهة فحسب، بل انتهز القائمون عليه الفرصة وقدموا نماذج من أعمال ماتيس ومنحوتاته تدل على مجمل مسيرته الفنية بكامل مراحلها. منذ تمارينه الأولى وحتى أعماله التي كانت بمثابة وصايا ما قبل الرحيل، مثل اللوحات التي زين بها كنيسة صغيرة من تصميم المعماري أوغست بيريه، تابعة لدير الراهبات الدومنيكيات في بلدة فإنس. ومنذ أن مرت أنفاسه فيها، تحول اسم المكان من كنيسة الوردية إلى تحفة ماتيس. فقد عكف الفنان، كل يوم، ولمدة ثلاث سنوات، بين 1948 و1951، على تلوين جدرانها وزجاجها وخزف تماثيلها. إنها المرة الوحيدة التي يتولى فيها فنان ونحات «إخراج» مكان بالكامل وفق نظرته وذوقه.
يضم المعرض 200 عمل، ما بين الرسم بالحبر والمنحوتات البرونزية والمحفورات التي اشتغل على بعضها بالأصباغ الزيتية. وتلفت إيزابيل مونو فونتين، المتخصصة في أعمال ماتيس، نظر الزوار إلى أن الخط الأسود على ورقة بيضاء، أو بالعكس، هو نقطة انطلاق الفنان إلى كل ما تجود به موهبته من تشكيلات. لقد كان الورق عنصرًا أساسيًا في كل الأماكن والمحترفات التي تنقل فيما بينها، تمامًا مثل القماش وعجائن الجبس. وهو كان يرى في الأسود لونًا قائمًا بذاته، يختصر ويحتوي كل الألوان الأخرى. لكنه ليس باللون الثقيل كما قد يتصور الناس. وعمومًا، فإن إبداع ماتيس يقوم على إزاحة ثقل الماضي من فوق كاهل اللوحات المتحفية وتقديم فن مدهش فيما يشيعه في النفوس من خفة وبهجة. إن من يقف ليتأمل لوحاته يشعر وكأنها تناديه لكي يرقص معها. أما الميل إلى المدرسة الوحشية في الرسم فإنه تمثل في الألوان وطريقة توزيع تدرجاتها. وهو قد عاد إلى أسلوب تحديد الأشكال والنقوش النباتية والثياب الشرقية. وكان يقول إنه استلهمها من «الكيمونو»، الثوب التقليدي الياباني الذي كانت ترديه زوجته.
مضى ماتيس في الخط المحدد للأشكال حتى جعله يتلوى مثل الأفعى ويشكل أجسادًا تتماسك وتحلق في دوائر من دون خلفيات تستند إليها. وهي لوحات يفتخر باقتنائها متحف الفن الحديث في نيويورك، وتمنح لمن يتفرج عليها متعة الشعور بالحرية والرغبة في الانعتاق من جاذبية الأرض ولذة العيش. وقد نجح متحف ليون في استعارة التخطيطات التجريبية والدراسة التي سبقت تلك اللوحات، حيث هي اليوم من مقتنيات متحف كوبنهاغن. وهناك لوحات جاءت من مجموعة متحف «بومبيدو» في باريس. ومن بين الأقسام الخمسة للمعرض الذي يستمر حتى الشهر الثالث من العام المقبل، يبقى ذاك المخصص للموديلات النسائية أكثر مدعاة للدهشة، لأنه يكاد ينافس نساء بيكاسو اللواتي خلدهن في لوحاته.
200 لوحة وتخطيط ومنحوتة في متحف «ليون»
عندما يرسم ماتيس بالأسود سيد الألوان
200 لوحة وتخطيط ومنحوتة في متحف «ليون»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة