عالم رياضيات أميركي ينشط الخلايا الخاملة المفرزة للإنسولين

إنتاج بروتين يحد من السمنة ومرض السكري

الباحثان برترام وروبر مع جهاز السوائل الميكروية لتحفيز إفراز الإنسولين
الباحثان برترام وروبر مع جهاز السوائل الميكروية لتحفيز إفراز الإنسولين
TT

عالم رياضيات أميركي ينشط الخلايا الخاملة المفرزة للإنسولين

الباحثان برترام وروبر مع جهاز السوائل الميكروية لتحفيز إفراز الإنسولين
الباحثان برترام وروبر مع جهاز السوائل الميكروية لتحفيز إفراز الإنسولين

في أحدث تطورين طبيين في مجال الوقاية من الإصابة بمرض السكري وعلاجه، أعلن علماء أميركيون عن نجاحهم في تحفيز خلايا البنكرياس الخاملة على إفراز الإنسولين مرة أخرى فيما نجح علماء أوروبيون في استخلاص بروتين وإنتاجه، وقالوا إنه ربما يمثل اختراقا علميا يساعد في المستقبل في منع الإصابة بمرض السكري.
وأعلن ريتشاررد برترام البروفسور في الرياضيات بجامعة فلوريدا للدولة، أن فريقه من المتخصصين الأبحاث البيولوجية - الرياضية حقق نجاحات في التوصل إلى علاج لمرض السكري من النوع الثاني، وذلك عند تمكنه من إعادة تنشيط الخلايا الخاملة المفرزة للإنسولين في داخل البنكرياس. ويعرف فريق برترام على نطاق كل الولايات المتحدة، بأعماله في هذا النوع من الأبحاث التي يجري فيها تطوير نماذج رياضية يتم تجسيدها على هيئة تصاميم هندسية دقيقة وصغيرة جدا تنفذ مهمتها البيولوجية.
وقال برترام إنه نجح في إعادة تنشيط الاهتزازات داخل خلايا «بيتا» المفرزة للإنسولين، وهي أهم خطوات إعادة إفراز تلك الخلايا لهذا الهرمون الذي يعاني من نقصانه أو انعدامه مرضى السكري، الأمر الذي يتسبب في ازدياد مستوى السكر في الدم. ويعاني نحو 30 مليون أميركي من مرض السكري، 95 في المائة منهم من النوع الثاني الذي يحدث نتيجة النقص في إفراز الإنسولين.
وتمثل نتائج الدراسة التي نشرت في مجلة «بلوس كومبيوتشينال بيولوجي» اختراقا علميا في السباق الجاري لإيجاد علاج شاف من مرض السكري من النوع الثاني. وقال برترام: «لا يوجد أي شخص آخر وظف هذه التوليفة من أدوات البحث.. ولذا فإننا سعداء لأننا نشرف على أبحاث علمية تنفذ إلى دواخل الأشياء بفضل توظيف الأدوات الصحيحة».
وتشمل تلك «الأدوات الصحيحة» النماذج الرياضية التي وضعها برترام مع تصاميم من «أجهزة السوائل الميكروية» التي طورها مايكل روبر الأستاذ المساعد في قسم الكيمياء البيولوجية في الجامعة، وهي تجسيد للتصاميم المستندة إلى النماذج الرياضية. وبينما وضع العالم الأول معادلات رياضية تحاكي الاستجابات البيولوجية المحتملة عند تدخل العلماء في الجسم الحي، اختبر العالم الثاني هذه التوقعات بواسطة أجهزة ميكروية صغيرة صنعت من الزجاج على حيوانات الاختبار.
ويبلغ حجم كل جهاز حجم بطاقة مصرفية، نحتت على سطحها قنوات تضخ مقادير مضبوطة من محلول لسكر الغلوكوز نحو مجموعات من الخلايا الخاملة في البنكرياس لدى الفئران. وقال روبر إن «جهاز السوائل الميكروية» يشابه الرقائق الإلكترونية ويسمح بدخول عدد من «جزر خلايا بيتا» إلى داخله لكي تضخ إليها مقادير مضبوطة من المحلول.
وتعرف الباحثون على وسائل إعادة تنشيط تلك الخلايا. وعندما ضخوا ميكرولترا واحدا (واحد من المليون من اللتر) من المحلول إلى الخلايا بطريقة إيقاعية نبضية بشكل يحاكي الحجم والذبذبة التي تحدث في الجسم الحي طبيعيا، نجحوا في إثارة الاهتزازات داخل الخلايا ومن ثم تحفيزها على إفراز الإنسولين.
على صعيد آخر قال الباحثان في الجامعة الكاثوليكية في لوفين في بلجيكا، باتريس كاني الباحثة في معهد أبحاث العقاقير بالجامعة، ووليم دي فوس البروفسور في جامعة واغننغن في هولندا، إنهما اكتشفا البروتين أثناء أبحاثهما المتواصلة على بكتريا «أكرمانسيا ميوسينيفيلا» Akkermansia muciniphila وهي بكتريا شائعة الانتشار، توجد بنسبة 1 إلى 5 في المائة داخل الجهاز الهضمي للأحياء. وأوضح الباحثان ولأول مرة أن هذه البكتريا يمكن أن تكون أداة حيوية مهمة لمكافحة السمنة والسكري من النوع الثاني، وكانا قد طرحا فرضية حول أهمية هذه البكتريا عام 2007 ثم أثبتوها عام 2013، حيث استخلصا البكتريا التي توجد في الأغشية المخاطية ووجدا أن كمياتها تكون أقل لدى الفئران السمينة. وقادت تجاربهما على ضخ البكتريا إلى أجسام الفئران، إلى زوال عدد من أمراض التمثيل الغذائي لديها. كما وجدوا أن «بسترة» البكتريا ضاعفت من قوة تأثيرها تحولت البكتريا المبسترة إلى قوة فاعلة في درء حدوث السمنة والسكري من النوع الثاني.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)