صناعة «العود» في مصر.. سجل حافل بالمهارة والذوق الخاص

أشهر آلة شرقية ما زالت تعزف على أوتار القلوب أشجى الألحان

هاني عزيز ورث مهنة تصنيع آلة العود على يد أبيه وبدأ ممارستها وهو في الثانية عشرة ({الشرق الأوسط})
هاني عزيز ورث مهنة تصنيع آلة العود على يد أبيه وبدأ ممارستها وهو في الثانية عشرة ({الشرق الأوسط})
TT

صناعة «العود» في مصر.. سجل حافل بالمهارة والذوق الخاص

هاني عزيز ورث مهنة تصنيع آلة العود على يد أبيه وبدأ ممارستها وهو في الثانية عشرة ({الشرق الأوسط})
هاني عزيز ورث مهنة تصنيع آلة العود على يد أبيه وبدأ ممارستها وهو في الثانية عشرة ({الشرق الأوسط})

مثل أوتاره السبعة التي تشتد وتنعقد وتلين وتسترخي صانعة الألحان، فالتعرف على مهد صناعته تقودك إليه في حي العتبة الشهير بالقاهرة.. أروقة كثيرة وشوارع ضيقة لا بد أن تمشيها داخل شارع «حسن الأكبر»، الذي عرف منذ عقود طويلة بـ«شارع صناعة العود»، أشهر آلة موسيقية في التراث الشرقي، وما زالت تعزف على أوتار القلوب أرق وأشجى الألحان.. وستحرسك داخل هذه الرحلة نغمات العزف المتصاعدة إلى أذنيك، من الأسطوات المهرة الذين احتضنوا الآلة بعد أن أتموا تصنيعها وبدأوا في «الدوزنة» عليه، مثلما يطلق على تهيؤ العازف للدخول في اللحن، ومن ثم تجربتها لمعرفة مدى انسجام النغمات، وتوافقها مع المقامات الموسيقية الشرقية المعروفة.
داخل «دكانه» الصغير الذي يبدو كمكان أثري عكف هاني عزيز (40 عاما)، على تصنيع آلة (عود) جديدة قبل أن يبدأ كلامه قائلا: «هذا الدكان يرجع عمره إلى أكثر من 70 عاما شهد خلالها تصنيع كثير من الآلات على يد أبي الذي ورثت عنه المهنة، وبدأت أمارسها وأنا ابن 12 عاما، ليصبح عمري المهني حاليا 28 عاما صنعت خلالهما مئات (الأعواد) لشخصيات عامة وفرق موسيقية، تنوعت ما بين العود الكهربي والهارب التعليمي، وتقليد بعض الآلات الفرعونية القديمة».
ويتابع عزيز في نبرة لا تخلو من إحساس روحاني قائلا: «صانع العود يعطي من روحه (نفسه)، فيما يصنعه، وهي حقيقة ربانيه تؤثر على أصوات ونغمات العود بعد ذلك. بالإضافة إلى الخامة المصنع منها، فنوع الخشب المصنع منه العود يؤثر على صوت نغماته، فهناك الزان، والمجنة، والفينجي، والبليساندر، والساج، والأبانوس. كل منها له صوت مختلف عن الآخر وسعر مختلف أيضا، وكذلك طريقة «تقفيله» تتحكم في شكل النغمات الصادرة منه.
ويلاحظ كل من يمر بشارع حسن الأكبر وجود بعض المحلات والمقاهي القديمة التي كتب على بعضها تاريخ إنشائها الذي يرجع إلى عام 1907، وهو ما ظهر جليا على الحوائط والممرات التي يبدو عليها «القدم» وتفوح منها رائحة التاريخ.. يقول عزيز: «كان في الماضي لكل صانع عود لمسة خاصة به كنت تستطيع أن تميز العود وصانعه من خلال شكل (القصعة) و(رقبة العود) وكذلك شكل (الواجهة)، وذلك يرجع إلى وجود خامات خشب جيدة في ذلك الوقت، وهو ما كان يتيح لنا العمل والإبداع، في تصنيع الآلة الوترية الموسيقية الوحيدة التي (يحتضنها) العازف ليصدر نغمات موسيقية خرجت من قلبه أولا قبل أن يصدرها عوده».
وعلى صوت «كوكب الشرق» أم كلثوم ينبعث من مذياع بدكانه شرح «عزيز» مراحل تصنيع العود قائلا: «يمر العود بعدة مراحل خلال تصنيعه قبل أن يصدر في شكله النهائي، حيث نبدأ دائما بالقصعة، وهي الجزء الخلفي للآلة، ثم ننتقل إلى واجهة العود (الوش)، ومن ثم الجزء الأخير الذي تثبت به الأوتار ويسمي (الرقبة).
لافتا إلى أنه يوجد بعض الابتكارات التي أضافها صانعو العود علي الآلة كان آخرها عمل عود (حريمي)، ويكون أقل حجما و(القصعة) أقل ارتفاعا، وهو ما يساعد على حمل الآلة بسهولة والعزف عليها خاصة للسيدات، كذلك يوجد عود (العلام) ويكون حجمه صغيرا نسبيا وهو مخصص للمبتدئين الذين يتعلمون العزف على الآلة».
يشار إلى أن قطاع السياحة في مصر تأثر بشدة في أعقاب ثورتي 25 يناير (كانون الثاني) عام 211، و30 يونيو (حزيران) الماضي، مما أثر بدوره على أعداد السياح الوافدين سواء كانوا عربا أم أجانب، وهو ما يؤكده عزيز قائلا: «تأثرت حركة البيع والشراء بشدة في أعقاب أزمة قطاع السياحة خاصة بعد انقطاع السياح العرب عن المجيء في ظل الأزمات الأمنية التي تمر بها البلاد وهو ما أثر علينا كصناع وبائعي العود، حيث كنت في الماضي أبيع أكثر من 12 عودا أسبوعيا، أما الآن فلا أتعدى عودا أو اثنين شهريا، وهو ما يعد قطعا لمصدر رزقنا الأساس، ونتمنى انفراجة قريبة لأزمة السياحة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».