يستضيف «القصر الصغير» في باريس القائم على بعد رمية حجر من جادة الشانزليزيه، معرضا استثنائيا يقيمه حتى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية تحت عنوان: «فن السلام». وأهمية المعرض أنه يضع بأيدي الزائر وثائق دبلوماسية أساسية كان لها دور في تاريخ فرنسا وأوروبا والعالم، وهي من محفوظات الأرشيف الوطني الفرنسي. المعرض، كما يدل عليه اسمه، يقوم على مبدأي الحرب والسلام ومن زاوية أن المعاهدات والاتفاقيات غرضها كبح الحروب وتوفير السلام.
ورغم أن المبدأ شيء والواقع شيء آخر، فإن المعرض يبسط أمام الزائر نحو مائة معاهدة ووثيقة تعرض للمرة الأولى، وتغطي مراحل تاريخية واسعة (نحو ألف سنة) تبدأ مع القرون الوسطى وتمتد إلى العصر الحديث. إنها مجموعة من الوثائق الاستثنائية (40 مخطوطة و60 وثيقة) تنقل إلينا صورة معاهدات واتفاقيات أبرمتها فرنسا مع دول خارجية.
وحتى لا يكون المعرض بالغ الصرامة، فقد أثريت بمجموعة من اللوحات والرسوم والمنحوتات التي وضعت لتمكن الزائر من الربط بين الوثائق والمعاهدات من جهة؛ والشخصيات التي كان لها دور في إبرامها من جهة أخرى. وبالطبع، كان للفنانين دور في «تخليد» هذه اللحظات التاريخية المهمة.
ربما سيكون الزائر العربي مشدودا للتمعن في الوثيقة التي تمثل اتفاقية «سايكس - بيكو» المبرمة في 9 مايو (أيار) من عام 1916؛ أي قبل عامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي تقاسمت فرنسا وبريطانيا بموجبها إرث «الرجل المريض»؛ أي الإمبراطورية العثمانية المتحالفة مع دول المحور (ألمانيا والنمسا وبلغاريا).
وفيما يدور الحديث عن ترسيم جديد لإرث «سايكس - بيكو»؛ أي للدول التي ولدت عن التقاسم البريطاني الفرنسي (العراق وسوريا ولبنان وفلسطين)، يبدو من المهم العودة إلى هذه الوثيقة والتمعن فيها، خصوصا أن تركيا مثلا تريد في 2016 أن تصحح ما يسميه بعض الأتراك «الخطأ التاريخي» الذي حرم بلادهم من نفط الموصل وشمال العراق، أو من الرقة وحتى من حلب.
ومن المفيد أيضا، بفضل المعرض في «القصر الصغير»، أن نتذكر أن مراسلات مارك سايكس البريطاني وفرنسوا بيكو الفرنسي استمرت لمدة سنة تقريبا، وانتهت في مايو 1916 بتوقيع صادق عليه وزير الخارجية الروسي سازونوف.
يذكر أن بريطانيا، أجرت في الوقت ذاته اتصالات مكثفة مع أمير مكة المكرمة الشريف حسين بن علي الذي كان يخطط للثورة العربية الكبرى وتأسيس مملكة الحجاز. ولذا، فالتساؤل الذي يطرح نفسه ويوحي به تأمل وثيقة «سايكس - بيكو» هو: هل نحن اليوم أمام «سايكس - بيكو» جديدة ستحدد مصير المنطقة لمائة عام إضافية؟
الطابع الرسمي لمعرض «فن السلام» لا ينفي قيمته الفنية والتاريخية؛ ففيه الوثائق التي تعرض لأول مرة لعامة الناس على مستوى العالم. ومن بين 25 ألف وثيقة توجد في خزينة المحفوظات الدبلوماسية الفرنسية، تم انتقاء معاهدات لا تقتصر فقط على فترات ازدهار فرنسا وانتصاراتها، بل على فترات الضعف والهزائم أيضا. كما أن الوثائق لم تتغافل عن الصورة الاستعمارية لفرنسا وعن رغبتها في إحلال السلام العالمي كما تتصوره في فترة لاحقة.
من الناحية المادية، وحتى عام 1945، كانت المعاهدات والاتفاقيات، إلى جانب قيمتها السياسية والدبلوماسية وما ترسمه بين الدول، ذات قيمة فنية نادرة؛ فهي تحمل توقيع الفنانين ولمساتهم.. فالمعاهدة مثلا تكتب بطريقة فنية على ورق من الذهب أو باستعمال أنسجة مطرزة ومواد راقية تضفي عليها مسحة جمالية أخاذة. ومن الأمثلة على ذلك، رسالة كتبها ملك فرنسا الشهير لويس الرابع عشر على ورق من الذهب موجهة لأحد أقرانه.
في علم الاستراتيجيا، ثمة مبدأ متعارف عليه فحواه أن الحرب استمرار للسياسة ولكن بوسائل أخرى. ومعرض باريس يأتي بالبرهان على أن الدبلوماسية رغم التعقيدات، فإنها يمكن أن تكون سبيلا لتلافي الحروب وما تحمله من مآس وآلام.
من أبرز ما يتضمنه معرض «فن السلام» الاتفاقيات والوثائق التالية:
- وثيقة مؤتمر برلين 1885: التي عجل بموجبها الأوروبيون احتلال أفريقيا.
- معاهدة ميونيخ 1938: وتنص على قبول بريطانيا وفرنسا طلب ألمانيا بضم أحد أقاليم تشيكوسلوفاكيا.
- معاهدة الأراس 1482.
- كتاب القديس أغسطينوس (354 - 430) «مدينة الله»: وهو أحد أهم المؤلفات في تاريخ الفلسفة المسيحية.
- كتاب كريستين دو بيزان (1363 - 1430) المسمى «كتاب السلام».
- معاهدة ماسترخت 1992: هي المعاهدة التي تم بموجبها إنشاء الاتحاد الأوروبي.
- قسم ستراسبورغ: وهو أول معاهدة كتبت باللغة الفرنسية، ومن خلالها يتضح أن السلام مسألة كانت في البداية عائلية. وهذا القسم تم في عهد الملك شارلماني، وبموجبه قسمت التركة بين أبنائه الثلاثة بدلا من تفضيل الابن البكر.
- اتفاقية كريستوف كولمبوس: وقعت في 1492 مع الملوك الكاثوليك الإسبان، وجاء فيها أن كولمبوس «بصفته مكتشفا للجزر والقارات في البحر والمحيط» سيمنح رتبة أمير البحار والمحيطات.