«بيروت ترنّم» سلاما بلوحات غنائية وموسيقية

مهرجان يتضمن مقطوعات لروسيني وشوبان والعربية المعاصرة

الفنانة عبير نعمة يصدح صوتها في «بيروت ترنّم»
الفنانة عبير نعمة يصدح صوتها في «بيروت ترنّم»
TT

«بيروت ترنّم» سلاما بلوحات غنائية وموسيقية

الفنانة عبير نعمة يصدح صوتها في «بيروت ترنّم»
الفنانة عبير نعمة يصدح صوتها في «بيروت ترنّم»

في أجواء كلاسيكية تتضمن أعمالا موسيقية تجمع ما بين روائع الفن العالمي والعربي، ينطلق مهرجان «بيروت ترنّم» في الأول من ديسمبر (كانون الأول) المقبل. وتتميّز حفلات هذا الحدث الذي بات ينتظره الجمهور اللبناني في موعده من كلّ عام، بفسحات موسيقية تقدّمها فرق موسيقية ومنشدون منفردون عالميون ولبنانيون لتؤلّف برنامجه في نسخته التاسعة.
في هذه المناسبة عقد مؤتمر صحافي في «نادي اليخوت» وسط بيروت، حضره وزير السياحة ميشال فرعون والنائب بهيّة الحريري، أعلن خلاله برنامج المهرجان الذي يبدأ في الأول من الشهر المقبل ويستمر حتى 23 منه.
هذا المهرجان الذي يقام بموازاة استعدادات مختلفة في البلاد لاستقبال عيد الميلاد، يقدّم ثلاثين حفلة موسيقية موزّعة على عدد من أحياء بيروت بهدف رسم مشاهد التلاقي والمحبة والسلام بين اللبنانيين. وسيتوّج هذه النسخة حضور المونسينيور كارلوس ازيفيدو موفدا من المستشار الثقافي في الفاتيكان، الذي سيلقي كلمة موجهّة من قداسة بابا روما إلى الشعب اللبناني.
وسيتسنّى لهواة سماع الموسيقى الكلاسيكية فرصة حضور أمسيات لروسيني وشوبان وأخرى من الموسيقى العربية المعاصرة، تشارك فيها فرق أوركسترا مختلفة بينها الإيطالية والوطنية، إضافة إلى عزف منفرد على التشيللو والبيانو لموسيقيين عالميين أمثال الروسيين بوريس أندريانوف (حائز على جائزة روستروبوفيتش) وألكسندر غيندين (حائز على جائزة تشايكوفسكي)، والكوري سيونغ جين شو (حائز على جائزة شوبان العالمية).
يفتتح المهرجان مع السوبرانو الإيطالية لورا جيوردانو في أمسية تتضمن أكبر أعمال روسيني الموسيقية «ميسّا دي غلوريا» (قدّاس المجد). وسيشارك فيها الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية وجوقتا الجامعة الأنطونية وجامعة اللويزة، وتقام في كاتدرائية مار جرجس للموارنة (وسط بيروت). ومن الأصوات الأوبرالية التي ستصدح في عدد من الأماكن الدينية في العاصمة، موزّعة ما بين مناطق مار مخايل والجميزة والقنطاري ومونو والأشرفية، اللبنانيتان غادة شبير وعبير نعمة (في 18 و19 ديسمبر)، والإيطالية كارمن غيانتاسيو التي تختتم أيام المهرجان مع عازف البيانو الفرنسي جوناتن بيب، في أوبرا (إرياس) في الثالث والعشرين من ديسمبر المقبل.
وستقدّم مجموعة (أصيل) أمسية من الموسيقى العربية الفصحى المعاصرة، ويشارك فيها فراس العنداري (عود) ومحمد عنتر (ناي) وخليل البابا (كمان) وعلي الحوت (رقّ) وعماد حشيشو (تشيللو) وغسان سحاب (قانون). ومن بين الجوقات الموسيقية المشاركة في «بيروت ترنّم» المدرسة اللبنانية للضرير ونداء أبو مراد ومجموعة الأنطونية العربية، وكورال الفيحاء بقيادة بارفيك تسلاكيان والجوقة الأرمنية للشباب، إضافة إلى جوقتي الجامعة الأميركية ومدرسة الجمهور وغيرها.
ويتضمن برنامج المهرجان أيضًا الرباعي الموسيقي الوتري (كودلاي)، ويعدّ أحد أعرق الرباعيات الوترية في أوروبا، والذي سيخص اللبنانيين بأمسية موسيقية (في 16 ديسمبر) سبق وعزفها في صالات عالمية وبينها (كارنغي هول ولينكولن سنتر وسيدني أوبرا هاوس). ومساء الجمعة (9 ديسمبر) ستقدّم الأوركسترا الفلهارمونية الوطنية حفلة موسيقية بقيادة الفرنسي العالمي المايسترو فيصل كراوي فيما يحيي الرباعي، موديليانو الحائز على المرتبة الأولى في مسابقة (بيزانسان) الدولية حفلة موسيقية بالتعاون مع السفارة الفرنسية في لبنان.
وبهدف تشجيع المواهب اللبنانية الشابة في هذا الإطار، فإن إدارة المهرجان التي يشارك الأب توفيق معتوق في وضع برنامجها الفنّي، أخذت على عاتقها إبراز أسماء جديدة برعت في العالم الأوبرالي أمثال التينور زياد نعمة وزميله بشارة مفرّج وعازف البيانو فارتان اكوبيان، فضلا عن مشاركة لجوقات أطفال.
وكانت النائب بهية الحريري قد ألقت كلمة خلال المؤتمر أكدت فيها أن مهرجانات «بيروت ترنّم» هي بمثابة الأمل المتجدد والتي اختارت السلام الإنساني نهجا لعملها في كلّ عام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)