خيانة ستالين.. وفرحة ترومان بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما

أطول يوم في تاريخ اليابان (2 من 3)

مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية
مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية
TT

خيانة ستالين.. وفرحة ترومان بإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما

مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية
مظاهر الدمار والخراب على هيروشيما بعد إلقاء القنبة الذرية

تناولت الحلقة الأولى دعوة الحكومة الأميركية لحكومة اليابان أن تعلن بشكل واضح وصريح التنازل غير المشروط، وأن تقدم التعهدات الصحيحة والملائمة لإثبات حسن النيات، وإلا سيكون الدمار السريع والشامل هو البديل. كان أمام الحكومة اليابانية أن تختار، في وقت قصير جدا، أن تبقى مرهونة لإرادة العسكريين المتشبثين برأيهم، الذين أوصلت استنتاجاتهم غير الذكية إمبراطورية اليابان إلى حافة الهلاك، أم أنها ستتبع طريق المنطق، خصوصا بعد إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، ثم ناغازاكي.
في حلقة اليوم وأمام هذه اللحظات المصيرية، كان لابد من اللجوء إلى الإمبراطور لحسم الأمر، وهو أمر يحصل للمرة الأولى في تاريخ البلد.
مرة أخرى أخذ الجنرال توجو القيادة. الرجل المتعجرف ذو الثانية والستين، الميال إلى احتقار آراء الآخرين، كان أكثر انطلاقًا في الكلام حتى من رئيسه (رئيس الوزراء) كانتارو سوزوكي الذي تجاوز السابعة والسبعين من عمره، المتناعس، ثقيل السمع، يقول شيئا اليوم وعكسه غدًا، مرحبًّا بتسليط الأضواء على الآخرين بينما هو يتخذ طريقه في كسل إلى الاجتماعات التي لا تبدو لها نهاية ولا ينتج عنها شيء.
أكد توكو أنه طالما كان إعلان بوتسدام القاعدة الأساسية الوحيدة لمحادثات السلام، فمن المؤمل ألا يُعلن شيء منه للشعب إلى أن تكون الحكومة قادرة على اتخاذ موقف ثابت بطريقة أو بأخرى.
وزير الشؤون الاجتماعية تاداهيكو أوكادا قال إن البيان قد أذيع حول العالم، فلن يكون من الصعب على شعب اليابان أن يسمع عنه، وقبل أن يحدث هذا يجب أن يطلعوا عليه رسميًا عن طريق حكومتهم.
مدير دائرة المعلومات، هيروشي شيمومورا، وافق، مضيفًا أن التأجيل قد يعتبر في الخارج دليلا على خوف اليابان المفرط من الموقف. ثم اتجهت كل العيون إلى وزير الحرب الجنرال كوريتشيكا أنامي، الذي تحدث إلى الجيش وهو لا يزال يتمتع بأكبر نفوذ في البلد، رغم افتقاره لحماسة أسلافه.
إنه في السابعة والخمسين، وما زال يحتفظ بهيئة مهيبة، مزدانًا بنياشين الرماية والمبارزة، وبالنسبة للضباط الشباب يبدو بمظهر الشخص الموثوق به، والأبوي. كانوا واثقين من الاعتماد عليه لدى ذهابهم إلى الحرب، وفي الاجتماع أصرّ بعناد عزز من صورته هذه لديهم، على أن انتشار أخبار البيان الآن، يوجب على الحكومة أن تقرر شيئين: اعتراضها على صيغته، والموقف الذي تريد أن يتبناه الشعب الياباني إزاءه. أُثني على أنامي من قبل رؤساء الجيش والبحرية في الاجتماع.
في النهاية توصلوا إلى تسوية مفادها: بما أن الحكومة غير قادرة عمليًا على تجاهل الإعلان، ولا على نشره مع الاحتجاج عليه، إلى أن تعرف أين تقف، وافق المجلس في النهاية على إطلاق الأخبار بشكل ينطوي على بعض الغموض، بحيث يبدو كأنه قادم من أرض الأحلام وليس من بوتسدام. فموقف الحكومة من الإعلان يجب ألا يكون واضحا عند النشر، وعلى الصحف أن تقلل من شأن الموضوع قدر الإمكان، إذ كان مسموحًا بنشره معدلاً، لكن من دون أي تعليق عليه.
لقد عزمت الحكومة اليابانية على «تجاهل» الإعلان. ورغم إصرار أنامي على الاحتجاج عليه بلهجة قوية، فإن رئيس الوزراء سوزوكي اتفق مع وزير الخارجية توكو على ما أسماه «قتل الإعلان بصمت»، قال، وبهذه الكلمة التراجيدية المشهورة: «موكو ساتسو» وهي تعني أيضًا ابقَ هادئًا، حكيمًا، وبلا حركة. وهذا بلا شك كان المنطق الذي يفكر به سوزوكي، لكن لسوء الحظ بدا المعنى الآخر أكثر إثارة وإقناعًا، وعندما ظهرت الكلمة على الصفحات الأولى من صحف طوكيو في الصباح التالي، فُهمت على أن الحكومة تحتقر البيان، وفي الحقيقة ترفضه. وفسرت «موكو ساتسو» في واشنطن وبريطانيا وبقية أوروبا والدوائر الدبلوماسية الأميركية على أنها تعني «إنتاج أكبر الضرر».
جريدة أساهي شيمبون، وهي أكبر صحف طوكيو، فسرت إعلان بوتسدام في صباح ذلك السبت على أنه «ليس بذي قيمة». الشعب الياباني أُعلم بالبيان وأكد له في الوقت نفسه أن الحكومة وجدته غير مقبول، الأمر الذي كان مجلس الوزراء قد توصل إليه بصعوبة كبيرة ظهيرة ذلك اليوم. إلا أن الناس لم يعرفوا بهذا أكثر مما كانوا يعرفون ما كان يجري خلف الأبواب المغلقة للوزارات والدوائر الحكومية وخنادق القصر، وبهذا تعاملوا مع البيان باحتقار صامت، كما أخبرتهم الحكومة أن هذا أقصى ما يستحقه.
اليوم التالي، السبت، الـ28 من يوليو (تموز)، وافق رئيس الوزراء على لقاء صحافي في الساعة السابعة لمناقشة إعلان الحلفاء. وعلى كل الأسئلة المتوقعة والمهمة، ردّ سوزوكي أن إعلان بوتسدام لم يكن إلا الفكرة القديمة لإعلان القاهرة، ووضعت في قالب جديد. والحكومة اعتبرته «شيئا لا قيمة له». بعد ذلك أضاف فجأة: «نحن ببساطة سوف موكو ساتسو الإعلان» ثم أعلن أن الحكومة مصرّة على الاستمرار في الحرب حتى إحراز النصر.
كان وزير الخارجية توكو غاضبًا عندما سمع بيان رئيس الوزراء. احتج على أن البيان جاء متناقضًا بشكل فاضح مع القرار الذي وصل من مجلس الوزراء، وفي الوقت نفسه أدرك أنه لا يمكن عمل أي شيء: «من المستحيل الآن حمل رئيس الوزراء على التراجع عن تصريحه». كان الضرر قد وقع وانتهى الأمر.
تصريح سوزوكي نشر في صحف اليابان يوم 30 يوليو، وتناولته الصحافة في كل أرجاء العالم على أن اليابان غير مهتمة أصلاً حتى بمجرد رفض إعلان بوتسدام. ولوصف هذه اللحظة لاحقًا، قال سكرتير وزارة الحرب الأميركية هنري ستمسون: «إن الولايات المتحدة يمكنها فقط المباشرة لإثبات أن الإنذار الذي حمله إعلان بوتسدام يعني تمامًا ما أشار إليه، وهو إذا استمرت اليابان في الحرب فإن جميع قواتنا المسلحة، مؤَيدة بإصرارنا، سوف تعني الدمار الشامل لقوات الجيش الياباني، وفقط الدمار الشامل لأرض اليابان».
من الواضح أن القنبلة الذرية ستكون أبرز سلاح مناسب لمثل هذه الحالات. لكن اليابان ظلّت تنتظر خلال ذلك ردّ الاتحاد السوفياتي.
عندما أبرق السفير الياباني لدى الكرملين إلى توكو بأنه «لا مجال بأي حال» لإقناع الروس بدعم اليابان، ردّ عليه وزير الخارجية: «رغم رأيك، فعليك مواصلة تنفيذ التعليمات، محاولا الحصول على مساعي السوفيات الحميدة - في إنهاء الحرب - لتقتصر على الاستسلام غير المشروط». وكان توكو قد خدم لفترة سفيرا لدى موسكو، لذا لم يكن يجهل الذهنية التي يفكر بها السوفيات. كانت أسبابه الإصرار على متابعة هذه الجهود أنها قد تلقي بحفنة من القش على مستنقع محاولات إنهاء الحرب، التي ربما لخصت فيما قاله ذلك الوقت: «بغض النظر عن صعوبة ما يمكن أن ألاقيه في محاولة إقناع الجيش الياباني لإجراء محادثات مباشرة مع الأميركان أو البريطانيين، فليس لدي شكّ، حتى لو أنهم رفضوا الإصغاء، يجب أن نحاول التفاوض من خلال موسكو، إذ ليس ثمة مجال آخر لإنهاء الحرب».
لم يكن الجيش واثقا من إمكانية التوصل إلى تفاهم مع السوفيات. في منتصف يونيو (حزيران) توقّع أنامي أن الروس «سيهاجمون اليابان، تمامًا كما يستعد الأميركان لإنزال قواتهم على جزرنا»، وقد استمر في هذه النقطة إلى النهاية. قبل الاستسلام بأيام قليلة أخبر أنامي وزارة الداخلية بأن اليابان لو تأخرت فترة أطول لتشغل القوات الأميركية في كيوشو جنوب اليابان، فإن واشنطن ستكون خائفة من أن يحتل الروس أجزاء مهمة من شمال اليابان، مما يبقيها مترقبة للتوصل إلى معاهدة سلام، لذلك سوف تعرض امتيازات لصالحنا.
لكن القوات البحرية اليابانية كان رأيها أن السوفيات سوف يدخلون الحرب بعد معركة أوكيناوا، وهذا أحد الأسباب التي جعلت البحرية تطلب من القوات اليابانية اتخاذ موقف متشدّد، ينزل خسائر كبيرة في قوات العدو. لذلك، رغم أن الروس قد أعلنوا أنهم ما عادوا مهتمين باتفاقية الحياد بين الدولتين (اليابان والاتحاد السوفياتي) إضافة إلى ردّ موسكو لليابان الذي تضمن بشكل رئيسي العبارات المائعة والصمت، فإن مجلس الستة الكبار والإمبراطور نفسه ظلوا معلقين آمالهم على المساعي «الحميدة السوفياتية». كانت الأيام تمرّ، واليابان تنتظر ردّ ستالين.
في تلك اللحظة كان البلد يبدو كما لو أنه بأكمله مرتبكًا وذاهلاً. اليابانيون فهموا أنهم لن يخسروا الحرب، لذلك بدا التنازل أمرًا خسيسًا، والبديل الوحيد الشريف للانتصار هو الموت.
كان صعبًا ومستحيلاً التصديق بأن ما حدث قد حدث فعلاً: «كان خرابًا تامًا، وأمرًا لا يمكن تلافيه». الضريبة التي دُفعت ربما كان موقف الإمبراطور أكبر ثقلاً منها في حالة الصدمة التي عاشوها، لأن اليابانيين يؤمنون أنه ليس فقط منحدرا من سلالة مقدسة، إنما هو القدسية ذاتها، حيث يعتبر وجود اليابان من وجوده هو، مثلما استمر هذا الاعتقاد منذ زمن سحيق.
من الصعب التكهن عما يمكن أن يحدث لو أن قوات الحلفاء عرضت في تلك اللحظة تعهدات على النظام الياباني في شخص الإمبراطور، مؤكدة «إنهاء الحرب، وتنازل الجيش، ولن يُعطى الروس فرصة لدخول منشوريا». لكن هذه التكهنات لا قيمة لها؛ ففي حالة ذهولها اتبعت اليابان فقط الطريق الوحيد الذي بدا مفتوحًا ومرّت الليلة الأولى من أغسطس (آب) بلا أهمية وبلا أمل، باستثناء الانتظار والترقب والحذر. في 6 أغسطس جاء الردّ.
في الساعة الثامنة التقطت محطة رادار هيروشيما اثنتين من طائرات B29. كان الإنذار قد أطلق في المحطة، والطائرات حلقت على مسافة مرتفعة جدًا؛ وقد أعلن الراديو أنها كانت في طلعات استطلاعية، بينما معظم سكان هيروشيما (ربع مليون) لم يبالوا ولم يتوجهوا إلى الملاجئ، ولم يتوقعوا قصفًا، وكثير منهم راح يحدق في السماء بينما الطائرتان تناوران.
من الطائرة القائدة انفتح باب حفظ القنابل.
في الساعة الثامنة والربع و17 ثانية شاهد كثير من الناس عناقيد من المظلات تنقذف من إحدى الطائرتين. في الثانية التالية تحوّل الجو إلى سطوع أبيض يعمي النظر... وأربع وستون ألف شخص بين ميت أو على وشك الموت.
هذا إذن كان الردّ على انتظار اليابان. لم يأتِ، كما كان متوقعًا من الاتحاد السوفياتي، إنما من الولايات المتحدة، حيث سدّدت القسط الأول من تهديدها: «الدمار الكلي الشامل» لليابان.
وصلت الرسالة الإخبارية الأولى لوكالة أنباء «دومي» إلى طوكيو تقريبًا عند الظهر، إلا أن التفاصيل عن حجم الكارثة وطبيعتها وصلت بعد ذلك في وقت متأخر، على شكل تقرير من مقر رئاسة الجيش الثاني، عبر قاعدة كورو البحرية، مع ذلك ظلت التفاصيل شحيحة، وكل ما علمته طوكيو أن عددًا قليلاً جدًا من طائرات العدو أحدث أضرارًا هائلة باستعمال قنابل من نوع مجهول.
في الصباح التالي، عند الفجر، كان اللفتنانت جنرال توراشيرو كاوابي، نائب رئيس الجيش العام، أول من استقبل الرسالة الموجزة، التي أعملته أن هيروشيما قد مُسحت خلال لحظة انفجار خاطف بقنبلة واحدة. فيما بعد قال كوابي إنه يشك بأنها قنبلة ذرية. رفاقه الضباط لم يكونوا في شك من هذا.
الحكومة في طوكيو التقطت بثًّا من واشنطن أكد شكوك كوابي. «أنفقنا بليوني دولار» قال الرئيس ترومان: «حصلنا على أعظم إنجاز علمي في التاريخ وانتصرنا».
أضاف: «إذا كان اليابانيون لم يقبلوا إنذارنا فليتوقعوا أن تمطر عليهم السماء دمارًا لم تشهده الأرض من قبل أبدًا».
لم يعد لدى طوكيو أي سؤال حول ما حدث في هيروشيما.
«لقد أصبح مصدر القوة من الغرب وليس من الشرق». كما قال ترومان، وتستطيع هذه القوة أن تخسف الأرض في المشرق فوق الجالسين على عرش سليل أماتيراسوا وكيكامي، إله الشمس. بيدَ أن طوكيو كانت غير مكترثة بشكل يثير الاستهجان. لقد تطلّب الموقف ردًّا عنيفًا، ولا تزال البلادة الغريبة التي سيطرت على العاصمة اليابانية مستمرة في شلّ حركة الرجال الذين يتوجب عليهم صنع القرار.
في اليوم التالي، 7 أغسطس، أصدر الجيش بلاغًا رسميًا جاء فيه أن الهجوم على هيروشيما من قبل «عدد صغير» من طائرات B29 سبب «أضرارًا بالغة» وقد استخدم في القصف «نوع جديد» من القنابل. «التفاصيل»، قال الجيش: «الآن تحت التحري..».
في 8 أغسطس، نصح وزير الخارجية الإمبراطور بأن على اليابان أن تقبل إعلان بوتسدام بأسرع وقت ممكن، عندئذ أصدر الإمبراطور أمرًا له ليخبر رئيس الوزراء بأنه على ضوء السلاح الجديد الذي استخدمه الحلفاء، فإن اليابان الآن بلا قوة للاستمرار في الحرب، ويجب بذل كل جهد لإنهاء هذه الحرب من دون تأخير. على اليابان أن تتقبل هذا الأمر الصعب.
بناء على ما قاله الماركيز كيدو، كاتم أسرار الإمبراطور، إن صاحب الجلالة قال إن أمنه الخاص يأتي في الدرجة الثانية من مسألة وقف الحرب حالاً. وأصرّ على أن مأساة هيروشيما يجب ألا تتكرر. عندئذ دعا سوزوكي إلى اجتماع طارئ للمجلس الأعلى للحرب، لكن الاجتماع أجل لأن أحد أعضائه كان محجوزًا في مهمة بمكان ما.
خلال ذلك، حاول الجيش التعتيم على إذاعة العدو في مانيللا وأوكيناوا، كما حاول إحباط جهود العدو لقذف منشورات فوق طوكيو تعّبر عن رغبة الحلفاء في إنهاء الحرب من دون تدمير اليابان. في كل الأحوال، ادعى الجيش أنه ليس من الممكن عمليًا، حتى بالنسبة للأميركيين، تصنيع واستخدام السلاح الذري، لأنه أمر مستبعد وخطير. في الوقت نفسه سجلت الحكومة ملف احتجاج رسمي لدى سويسرا ضد حكومة الولايات المتحدة.
بعد ظهر اليوم نفسه، طُلب من السفير الياباني في موسكو المثول في مكتب مولوتوف. اختصر مولوتوف الطريق أمام محاولات السفير ساتو جعل اللقاء وديًا، بأن قرأ عليه الموجز الذي ينتهي بالكلمات التالية: «...حكومة الاتحاد السوفياتي ستعتبر نفسها في حالة حرب مع اليابان».
خلال ساعتين دخل الجيش الأحمر منشوريا، وبدأ هجومًا منظّمًا لإبادة جيش اليابان الـ(كوانتوك). لقد اعتبر اليابانيون تصرف السوفيات غير شرعي ولا يغتفر، لأن الاتحاد السوفياتي واليابان ما زالا ضمن اتفاقية الحياد التي تنتهي في أبريل (نيسان) 1946. إلا أن ستالين جعل تصرفه مشروعًا بمساعدة ترومان، وعلمت حكومة سوزوكي الآن أن البديل للاستسلام غير المشروط هو فعلاً وبلا أدنى شكّ الدمار. وبدا أن فرصة هذا الدمار الشامل هو تمامًا ما أراده الجيش. إن هدوء صبيحة ذلك الخميس الحار، الرطب والمتقد من التاسع من أغسطس، بدت لوزير الخارجية توكو مثل ماء بارد يراه من بعيد رجال عطشى يموتون في الصحراء.
في الساعة الثامنة صباح 9 أغسطس، كان توكو في بيت رئيس الوزراء سوزوكي في كويشيكاوا شمال وسط طوكيو، حين طلب من رئيس الوزراء وبحدّة أن يُعقد المجلس الأعلى للحرب الذي أجل، وعلى الفور. لقد ضاع كثير من الوقت الثمين: «الحرب يجب أن تنتهي بأسرع وقت ممكن».
وافق سوزوكي، وقال لهيساتسون ساكوميزو، سكرتير رئيس الوزراء: «ليأخذ مجلس الوزراء مسؤولية قيادة البلد لإنهاء الحرب». في الظروف الطبيعية، وبعد الأخطاء المخزية لمحاولات حكومته في استخدام مساعي السوفيات الحميدة، كان المفروض أن يقدم استقالته هو وحكومته، لكن ظروف اليابان، وبأي شكل، كانت صبيحة ذاك الخميس أبعد من الطبيعي، وبدا سوزوكي مصرّا على تجنيب أكبر عدد من اليابانيين الموت.
بعد ذلك توجه توكو لرؤية وزير البحرية، الأدميرال يوناي، الذي وافق كما في السابق على أنْ ليس لليابان خيار غير استئناف محادثات السلام. وداخل الوزارة ظل توكو يتساءل عن موقف كابتن البحرية، الأمير تكاماتسو، الذي لم يكن ردّه مشجعًا، فقال وزير الخارجية إنه مقتنع بأن الوقت متأخر جدًا لمناقشة حقيقة أفضل مما طُرح في إعلان بوتسدام، وبينما هو يفعل كل ما باستطاعته شعر أن اليابان لا يمكنها الإصرار على شيء يصون الدولة الوطنية.
خلال ذلك، كان الإمبراطور، رمز الدولة، والرجل الذي أعطى لها الوجود والمعنى، قد تشاور مع اللورد كيوتو كاتم الأسرار، وطلب منه أن يحاول التأثير من جديد على رئيس الوزراء سوزوكي، مؤكدًا رغبة جلالته في التعجيل بإنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. كان سوزوكي قد دخل منذ حين للقصر، فوافق على استدعاء مجلس الحرب الأعلى ومجلس الوزراء لعقد اجتماع طارئ ومشترك، بحضور رئيس الوزراء السابق الذي يُدعى (جوشن) أي كبير رجال الدولة، حيث يُعتبر جزء من واجباته تقديمَ المشورة للعرش من وقت لآخر.
الساعة 11 من صباح اليوم نفسه، سقطت ثاني قنبلة ذرية في العالم فوق ناغازاكي، وهي إحدى مدن أقصى الشرق في اليابان وفوق جزيرة كيوشو، وقد حدث الانفجار قبل نصف ساعة فقط من دعوة المجلس الأعلى للحرب من جديد لمتابعة مناقشاته غير المتروية والبطيئة التي كانت تجري في القصر الإمبراطوري بطوكيو، وهو يبعد نحو 600 ميل عن المكان الذي تحلق فيه الطائرات.
افتتح رئيس الوزراء الاجتماع بالقول إنه على ضوء مستجدات هيروشيما، واحتلال الاتحاد السوفياتي لمنشوريا، يبدو واضحًا استحالة مواصلة اليابان للحرب. «إنني أعتقد...». قال سوزوكي: «ليس لدينا بديل سوى قبول إعلان بوتسدام، وأنا أحبّ الآن الاستماع إلى آرائكم».
مجلس الحرب الأعلى ظلّ صامتًا.
أخيرًا كسر الأدميرال ميتسوماسا يوناي السحر الذي كان مخيمًا على المجلس. كان يوناي رجلا هادئًا، دمثًا وله ابتسامة لطيفة، وقد كان رئيسًا للوزراء عام 1940 ثم أرغم على الاستقالة بسبب معارضته التحالف مع ألمانيا وإيطاليا. كان واعيًا مثل سوزوكي وتوكو للخطر الجسيم من وراء مقتل الضباط الشبان الذين تلتهمهم نيران الحرب.
«لن ننجز شيئا». قال يوناي: «ما لم نتحدث. هل نتقبل إنذار العدو غير المشروط؟ هل لدينا ما نطرحه من شروط؟ إذا كان كذلك، فمن الأفضل مناقشتها الآن».
بدأ الأعضاء الآخرون في المجلس بإيضاح مواقفهم، وقد ظهرت بسرعة موافقتهم الإجماعية على نقطة واحدة: «صيانة الكيان الإمبراطوري للبلد». بعد ذلك ظهر انقسام حاد، أصبح مألوفًا وأكثر حدّة بمرور الأيام.
سوزوكي، وتوكو، ويوناي فضلوا قبول إنذار الحلفاء مع شرط واحد يتعلق بالدولة الإمبراطورية، الثلاثة الآخرون - وزير الحرب أنامي واثنان من رؤساء الأجهزة، أوميزو للجيش، وتويودا للبحرية - أرادوا طرح شروط أخرى وهي: تقديم أقل عدد من القوات اليابانية التي تحتل بلدانا أخرى لمحاكمتهم بوصفهم مجرمي حرب من قبل اليابانيين أنفسهم وليس العدو، ويقوم بعض الضباط اليابانيين بتسريح عدد من الجنود. أنامي ورئيسا الأجهزة كانوا غير قادرين كما يبدو على قبول فكرة الهزيمة أو الاستسلام، لأنها ضد قناعتهم، لذلك انتهى هذا الطرح إلى رفض حقيقة الهزيمة والاستسلام.
ردّ توكو بقوة: إن موقف اليابان في غاية الخطر، وحتى لو حاولت اليابان طرح عدد من الشروط، فإن الحلفاء وفي كل الاحتمالات سيرفضون مناقشتها. فردّ الجنرال أوميزو رئيس جهاز القوات المسلحة هو الآخر بقوة قائلاً إن اليابان لم تفقد الحرب بعد، وإذا غزا العدو أرضنا فإن الجنود اليابانيين ما زالوا قادرين على منعه، وربما حتى إلحاق الخيبة به، والثمن في خسائر العدو سيكون هائلاً. عندها قال توكو، حتى إذا فشلت أول محاولة، فإن قوة اليابان في الدفاع عن نفسها ستكون أكثر ضعفًا، والهجوم الثاني للعدو بالتأكيد لن يفشل، ثم أضاف: «يجب أن يُقبل إعلان بوتسدام الآن، ومطالبنا لن تكون أكثر من صيانة البيت الإمبراطوري».
في الساعة الواحدة عقد المجلس الأعلى جلسة لمدة ساعتين، وكانت أخبار قصف ناغازاكي قد وصلت، ثم وصلت الحقيقة الأخرى عن سقوط منشوريا بأيدي السوفيات، بينما ظلّ المجلس غير قادر على الوصول إلى اتفاق. وضح الخط الفاصل بين الفريقين، إذ وقف كل ثلاثة في جانب، فعرض سوزوكي أن يُفضّ الاجتماع ليعاد عقده لاحقًا بعد انعقاد مجلس الوزراء بعد ظهر اليوم نفسه، وبذلك، وعلى هذه الصورة انتهت جلسات الخميس التي عقدها مجلس الستة الكبار لاتخاذ قرار بشأن الحرب.
في واشنطن تحدث الرئيس ترومان في الراديو معلنًا: «سوف نستمر باستخدامها حتى تدمير قوة اليابان نهائيًا وإنهاء قدرتها على الاستمرار في الحرب. ولن يوقفنا غير استسلام اليابان».
في الوقت الذي فضّ فيه الستة الكبار اجتماعهم، دُعي هيروشي شيموورا، مدير دائرة المعلومات، إلى مقابلة رسمية مع الإمبراطور. وكانت المقابلة بناءً على طلب قدمه سكرتير شيمومورا إلى وزارة شؤون القصر الإمبراطوري. استمرت المقابلة ساعتين كاملتين، مع أن العادة ألا تأخذ المقابلات مع الإمبراطور أكثر من 30 دقيقة فقط، وبانتهاء اللقاء قال شيمومورا لسكرتيره مع ابتسامة ارتياح: «كل شيء جرى على ما يرام. وافق الإمبراطور على إذاعة بيان يخبر فيه الأمّة فيما إذا كنا سنحارب أو نسالم».
إذا كان الإمبراطور سيذيع هذا البيان فعلاً، ستكون تلك هي المرة الأولى التي يسمع فيها اليابانيون صوت الإمبراطور.
إذا عدنا إلى اجتماع مجلس الوزراء الذي عقد بعد ظهر الخميس الساعة 2:30 في المقر الرسمي لرئيس الوزراء، فقد افتتحه وزير الخارجية توكو بتناول موضوع إعلان السوفيات الحرب على اليابان، متضمنًا محاولات الحكومة اليابانية لإقناع موسكو بالتوسط. بعد ذلك وصف توكو طبيعة الكارثة بأنها تجاوزت حدود هيروشيما وناغازاكي. أما وزير البحرية ووزير الحرب فحين سألهما رئيس الوزراء عن رأيهما كررا ما قالاه نفسه: «نحن ربما نكسب أول معركة لليابان...». قال الأدميرال يوناي: «إلا أننا لن نكسب الثانية. الحرب خُسرت بالنسبة لنا، لذلك يجب نسيان مسألة حفظ ماء الوجه، علينا أن نستسلم بأقصى سرعة ممكنة، ومنذ هذه اللحظة يجب التفكير بأهمية إنقاذ بلدنا».



أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

TT

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)
مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)

في الحروب يحرص عادة كل طرف على نصب الكمائن للطرف الآخر. أما اليوم، في الحرب الدائرة بين إسرائيل و«حزب الله»، فيبدو أن كل طرف يوقع نفسه في الكمائن. فعلى رغم أن كلا الطرفين يؤكد أنه غير معني بتوسيع نطاق الحرب، فإنهما يندفعان بشكل جارف إلى توسعتها. وعلى الجانب الإسرائيلي، تجري تدريبات حربية متواصلة على كيفية توسيعها، في حين تشير الاستطلاعات إلى أن الجمهور يؤيد هذه التوسعة. قبل شهرين فقط كان 64 في المائة من المستطلعين الإسرائيليين يؤيدون حرباً مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن حرباً إقليمية واسعة. وفي الشهر الأخير هبطت هذه النسبة إلى 46 في المائة وهي لا تزال نسبة مرتفعة إلى حد بعيد. هذا التأييد أفزع القيادات العسكرية في تل أبيب، وجعلها تشعر بأن الجمهور لا يدرك تماماً ما قد تعنيه هذه الحرب.

أيال حولتا، المستشار الأسبق للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير مناطق شاسعة من لبنان، ولكنها أيضاً ستلحق أضراراً كبيرة في إسرائيل، وقد توقع نحو 15 ألف قتيل فيها.

فتاة تعبر قرب دكان مغلق كتب عليه "لقد مات 4 من رفاقي. منطقة حرب" في تل أبيب (رويترز)

معهد أبحاث الإرهاب في جامعة رايخمان، أجرى دراسة حول سيناريوهات حرب مع «حزب الله» بمشاركة 100 خبير عسكري وأكاديمي، خرجوا فيها باستنتاجات مفزعة؛ إذ قالوا إن من شأن حرب كهذه أن تتسع فوراً لتصبح متعددة الجبهات، بمشاركة ميليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن وقد تنضم إليها حركتا «حماس» و«الجهاد» في الضفة الغربية.

ورجّحت الدراسة أن يطلق «حزب الله» طيلة 21 يوماً كمية هائلة من الصواريخ بمعدل 2500 إلى 3000 صاروخ في اليوم ويركز هجومه على إحدى القواعد العسكرية أو المدن في منطقة تل أبيب، وكذلك على مناطق حساسة أخرى، مثل محطات توليد الكهرباء وآبار الغاز ومفاعل تحلية المياه والمطارات ومخازن الأسلحة. وبالإضافة إلى الدمار الذي سيحدثه هذا القصف، ستنفجر فوضى لدى الجمهور الإسرائيلي.

كذلك، سيحاول «حزب الله» الدفع بخطته القديمة، في إرسال فرق «الرضوان» لتخترق الحدود الإسرائيلية وتحتل بلدات عدة، كما فعلت «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأكثر.

تدمير على نسق غزة

هذا السيناريو المخيف، جاء أولاً وبالأساس لكي يصبّ بعض الماء البارد على الرؤوس الحامية التي راحت تمارس ضغوطاً على الجيش لكي يجتاح الأراضي اللبنانية. والجيش، إذ يدرك بأن القيادات السياسية اليمينية الحاكمة تحرّض عليه وتظهره متردداً وخائفاً من الحرب، ينشر في المقابل خططاً تظهر أنه جاد في الإعداد للحرب. وبحسب التدريبات والتسريبات التي يمررها، يتضح أنه يعدّ لاجتياح بري واسع يحتل فيه الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وربما حتى نهر الزهراني أيضاً. وهو يقول إنه في حال رفض «حزب الله» اتفاقاً سياسياً يبعده عن الحدود، فإن الجيش سيسعى لفرض هذا الابتعاد بالقوة.

ويوضح أنه سيبدأ توسيع الحرب بقصف جوي ساحق يدمر عدداً من البلدات اللبنانية على طريقة غزة، وبعدها يأتي الاجتياح. وبحسب مصادر عسكرية، فإن إسرائيل استعادت الأسلحة المتأخرة من الولايات المتحدة، بما فيها القنابل الذكية، وستستخدمها في قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومنطقة البقاع على الأقل.

طائرة إطفاء إسرائيلية تلقي مواد لإخماد النيران المشتعلة في الجليل الأعلى جراء صواريخ أطلقها «حزب الله» (أ.ف.ب)

ويبعد نهر الليطاني عن الحدود 4 كيلومترات في أقرب نقطة و29 كيلومتراً في أبعد نقطة، ليشكل شريطاً مساحته 1020 كيلومتراً مربعاً يشمل ثلاث مدن كبيرة، صور (175 ألف نسمة) وبنت جبيل ومرجعيون. ويعيش في تلك المنطقة نصف مليون نسمة، تم تهجير أكثر من 100 ألف منهم، حتى الآن. لذا؛ فإن الحديث عن احتلال هذه المنطقة كلها لن يكون سهلاً. فـ«حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» ولديه أنفاق أكبر وأكثر تشعباً من أنفاق غزة، كما أنه يملك أسلحة أفضل وأحدث وأكثر فتكاً، وهو مستعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة. وإذا كانت إسرائيل تخطط لحرب قصيرة من 21 يوماً، فإن أحداً لن يضمن لها ذلك وقد تغرق في الوحل اللبناني مرة أخرى.

جدوى الحرب ومستوطنات الشمال

بدأ الجيش الإسرائيلي في إعداد الجبهة الداخلية لمواجهة حرب طويلة، فجرى إنعاش أوامر الاحتياط الأمني في أوقات الطوارئ في المستشفيات والمصانع والمؤسسات الحكومية والرسمية والملاجئ. وهو يضع في الحسبان احتمال أن يستطيع «حزب الله» إطلاق آلاف الصواريخ والمسيّرات وضرب البنى التحتية من محطات توليد كهرباء وتحلية مياه وآبار غاز. وفي التدريبات التي جرت في الشهرين الماضيين، وضع في الحسبان أيضاً احتمال أن تتدخل إيران مباشرة. عندها ستتفاقم فوضى الملاحة في البحر الأحمر وقد يتم ضرب قبرص. وهذا يعني أن الأراضي الإسرائيلية، كلها، ستتحول إلى جبهة مشتعلة.

ويقول معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب في دراسته: «حتى الآن أطلق (حزب الله) أكثر من 5000 ذخيرة مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل؛ ما أدى إلى مقتل 33 مدنياً وعسكرياً، وإحداث أضرار جسيمة. فهناك شعور قوي بعدم جدوى الحرب بالنسبة لمستقبل المنطقة الشمالية، والمستوطنات الـ28 التي تم إخلاؤها ومدينة كريات شمونة وسكانها، الذين يتساءلون متى وتحت أي ظروف سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم».

يهود متدينون يؤدون صلاة الصباح عند هضبة في الضفة الغربية بعد وعود حكومية بضمن مزيد من الاراضي الفلسطينية (أ ب)

ترسانة «حزب الله»

بحسب التقارير ومنذ حرب لبنان الثانية، يشكّل «حزب الله» التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل؛ نظراً لضخامة قواته المدعومة إيرانياً وبصفته «رأس الحربة في محور المقاومة». وتتكون الترسانة الرئيسية للحزب مما لا يقل عن 150 ألف صاروخ وقذيفة وأسلحة إحصائية أخرى، بالإضافة إلى مئات الصواريخ الدقيقة الموجهة، والمتوسطة والطويلة المدى، التي تغطي المنطقة المأهولة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر الرئيسي المحتمل لهذا المخزون في الصواريخ الدقيقة، والتي تشمل صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة القصيرة المدى المضادة للدبابات، والصواريخ الساحلية المتقدمة وآلاف الطائرات والمروحيات المُسيّرة. وفي حرب 2006، عندما خاض الجانبان حرباً استمرت 34 يوماً، كان لدى «حزب الله» نحو 15 ألف صاروخ وقذيفة، غالبيتها العظمى لم تكن موجهة ومداها أقل من 20 كيلومتراً؛ مما يعني أنها لم تكن قادرة على الوصول لمدينة حيفا شمالي إسرائيل. وقد أطلق الحزب نحو 120 صاروخاً يومياً في تلك الحرب؛ ما أسفر عن مقتل 53 إسرائيلياً وإصابة 250 وإلحاق أضرار مادية جسيمة.

أما اليوم، فإلى جانب ما ذُكر، هناك أيضاً المنظومات السيبرانية المتقدمة، القادرة على التسبب بأعمال قتل جماعي وأضرار مدمرة للأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك البنية التحتية الوطنية الحيوية. الموارد العسكرية التي يملكها «حزب الله» كبيرة كمّاً ونوعاً، بما يضاهي عشرات أضعاف القدرات العسكرية لـ«حماس» قبل اندلاع الحرب. والأهمية الاستراتيجية هي أن «حزب الله» يمتلك البنية التحتية والقدرات العسكرية اللازمة لشنّ حرب طويلة، ربما لأشهر عدة، وإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل.

عناصر من «حزب الله» يشيعون في بيروت القيادي في الحزب محمد نعمة ناصر الذي قتل في غارة إسرائيلية (د.ب.أ)

ويضيف التقرير أنه «في حرب واسعة النطاق ضد (حزب الله)، سيتعين على أنظمة الدفاع الجوي التابعة للجيش الإسرائيلي أن تتعامل، مع مرور الوقت - وخاصة في الأسابيع الأولى من الحرب - مع وابل من الأسلحة يصل إلى آلاف يومياً، ولن يكون من الممكن اعتراضها كلها. هذه الهجمات، بما في ذلك من جبهات أخرى، مثل إيران والعراق وسوريا واليمن، يمكن أن تسبب التشبع لطبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بل وربما نقصاً في وسائل الاعتراض. وهذا تهديد عسكري ومدني لم تعش مثله إسرائيل. في مثل هذا السيناريو، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي تحديد الأولويات، سواء بين ساحات القتال المختلفة أو فيما يتعلق بتوزيع الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن تعمل القوات الجوية كأولوية أولى لحماية الأصول العسكرية الأساسية، وكأولوية ثانية لحماية البنى التحتية الأساسية، وكأولوية ثالثة فقط لحماية الأهداف المدنية، التي سيكون لسلوك الجمهور فيها، أهمية كبيرة في مواجهة تحذيرات الجبهة الداخلية والحماية السلبية بمختلف أنواع الملاجئ، والتي تعدّ قليلة».

آثار صدمة 7 أكتوبر

ويحذر الدكتور العميد (احتياط) أريئيل هايمان من أن «إسرائيل، في معظمها، لا تزال تعاني صدمة جماعية مستمرة، من جراء هجوم (حماس) في 7 أكتوبر، تضر بشدة بقدرتها على الصمود. ويتجلى هذا الوضع في تقلص مؤشرات الصمود، كما تظهرها استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي. فهناك تراجع كبير في الصمود الوطني للمجتمع الإسرائيلي، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب. ويتجلى ذلك في انخفاض واضح في مستوى التضامن والثقة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى غالبية الجمهور. كل هذا، أيضاً في مواجهة ما يُعدّ «تباطؤاً» في الحرب على غزة، والتي كان ينظر إليها في البداية، على أنها حرب مبررة، وأدت في البداية إلى «التقارب حول العلم الوطني». من المشكوك الآن، إلى أي مدى سيكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً ذهنياً لحرب صعبة وطويلة الأمد في الشمال أيضاً».

جندي إسرائيلي يتفقد الأضرار في منزل أُصيب بصاروخ أطلقه «حزب الله» على كريات شمونة (أ.ف.ب)

ويقول البروفسور بوعز منور، رئيس جامعة رايخمان، الذي ترأس البحث حول الحرب مع لبنان: «لا تخافوا، إسرائيل لن تُهزم في حرب كهذه. لكن 7 أكتوبر سيبدو صغيراً أمام ما سيحل بنا في حرب مع لبنان. سيحصل ضرر استراتيجي كبير. لكن لن يكون هناك خطر وجودي علينا. وأنا لا أريد أن أخفف وطأة هذه الحرب إلا أنني أضع الأمور في نصابها. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى حرب كهذه؛ إذ إنه في حال التوصل إلى اتفاق في غزة سينسحب الأمر على الشمال».

وحذّر البروفسور شيكي ليفي، الباحث في اتخاذ القرارات ورئيس دائرة التمويل في الجامعة العبرية، من حرب لبنان ثالثة عالية، مؤكداً أن «الجميع يتفق على أن مثل هذه الحرب، إذا ما نشبت، ستكون حرباً وجودية، مع إصابات في الأرواح وفي الممتلكات على نطاق لم تشهده دولة إسرائيل أيضاً. هذه حرب ستضع مجرد وجود الدولة في خطر حقيقي». ويضيف، في مقال نشرته «معاريف» أخيراً أن «انعدام ثقة أغلبية الجمهور في إسرائيل بالقيادة السياسية غير مسبوق، كما ينعكس في استطلاع إثر استطلاع. الجيش متآكل حتى الرمق الأخير من الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر. يوجد حد لما يمكن أن نطلبه من رجال الاحتياط الذين انفصلوا عن عائلاتهم، جمّدوا حياتهم المهنية والتعليمية ويقاتلون منذ أشهر طويلة في غزة وفي الشمال».

على رغم كل ذلك، هناك احتمال كبير في أن تختار إسرائيل فتح هذه الحرب، أو الانجرار إليها على طريق الكمائن الذاتية. فهي تواصل سياسة الاغتيالات لقادة «حزب الله»، مع علمها اليقين بأن مع كل اغتيال يأتي رد تصعيدي. في الوقت الحاضر، يحافظ «حزب الله» على السقف الذي حددته الولايات المتحدة وإيران في بداية الحرب، بمنع الانفجار الأوسع، ملتزماً بسياسة الرد وعدم المبادرة إلى عمليات كبيرة. لكن استمرار هذا الانضباط ليس مضموناً. فيكفي أن يقع أحد الأطراف في خطأ ما حتى تنفجر الأمور وتخرج عن السيطرة. وعندها لا يبقى من كلام سوى ذلك المثل القائل: «مجنون ألقى حجراً في البئر».